ربما يكون تعدد القراءات إحدى ميزات قصيدة النثر التي تترك الباب مواربا حتى يتفاعل المتلقي مع القصيدة بثقافته وحسه وتجاربه وخبراته وحالته النفسية فينتج عن ذلك حالة متفاوتة من التلقي قد تثير دهشة الشاعر في بعض الأحيان، ولكن يبقى التوجه العام للقصيدة واضحا ومتفقا عليه. 
استوقفتني قصيدة الجدار للشاعر سلطان الزغول، من مجموعة حضن الأفول الصادرة هذا العام عن دار هبة في عمان؛ لما انطوت عليه من فرادة الموضوع وعمق المعالجة، وهي قصيدة طويلة مقارنة بباقي قصائد المجموعة، بل لعلها القصيدة الأطول فيها.
يبدأ المقطع الأول بنقل مزاج سوداوي، فنرى سماء سوداء وصخورا تتفتت وسقفا مترعا بخيبات الأمل، ولعل السقف هنا يشير إلى أن هذه الخيبات قد وصلت إلى أقصى مدى يمكن أن تصل إليه، كأنما الحياة أصبحت محطات متتالية يتنقل فيه الشاعر من خيبة إلى أخرى: 
فوق سقف مترع بخيبات قديمة وقفت أتأمل الجدار
كانت السماء تسودّ
كانت صخور الجبل العالية تتفتت
كان الجدار يتعالى. (المجموعة: ص 73).
يظهر الجدار الذي يتعالى ولا تتضح دلالته في الوهلة الأولى. وهو قد يكون اشارة إلى شيء مادي أو شيء معنوي غير محسوس. في خضم هذه الصور الداكنة تتوق نفس الشاعر إلى أرض قديمة، وقد تكون هذه الأرض دلالة زمنية لوقت جميل مضى وانصرم؛ إذ تتوالى الصور الشعرية تصف حياة كان يعيشها الشاعر فيما سبق، وتتضمن شفقا أرجوانيا، وامرأة خلابة:
كنت أدعك الصورة البديعة بابتسامات بليغة تطلقها نساء فريدات
فينولد التاريخ ضاجّا بأنوثة مشتهاة وولدين دمثين (المجموعة ص 73).
 ويتابع الشاعر وصف الحياة القديمة بصور عذبة:
كنت أندهش من أنّ عينيك صغيرتان
لكنْ مليئتان بكتب وقصائد لم تولد بعدُ 
كنت أحبُّ سيولة الجلد المتدفّق نورا
ما إن ألمسه حتى يتهادى كقطّ يقوده البردُ إلى ضوء الشمس في أواخر الشتاء (المجموعة ص 74). 
ثم تعود القصيدة إلى الحال السوداوية التي ابتدأت بها، ولكن بدرجة أشدّ، فعند نقطة تحول ما تغير كل شيء، وهذا التحول قد يكون مرتبطًا بحدث مفصلي أو تجربة، أو لعله قلق وجودي وهواجس تضغط على مزاج الشاعر وتلوّنه بسوداوية قاتمة:
ذابت الروح.. ذبتُ
سرت وحيدا نحو السقف المترع بالخيبات
صرت أرجوحة لكائنات غريبة تتهادى فوق جسدي
كنت أحب أن أشربك بعد أن ترتوي الغزلان من النبع
كنت أهذب عطشي حسبُ
لم أرتو يوما
تلك الطريق إلى النبع انقطعت
وتوارى النبع خلف الجدار (المجموعة ص 74). 
يظهر الجدار من جديد، ويبدو أنه جدار وهمي، فهو يرتفع كلما زادت غربة الشاعر وتشظّيه وبعده عن الذكريات الجميلة. وقد تغير كل شيء، ولم يعد يشعر به كما في السابق:
صار الجبل أقل ارتفاعا
صار النهر أبعد
صارت القهوة بلا طعم
صار الحب بلا لون (المجموعة ص 75).
تظهر في المقاطع اللاحقة عتمة قاتمة، وهي الخوف والقلق المستبد، كما تظهر أيضا تنانين وغيلان وأرض قاحلة، وكلها صور تتراءى للشاعر فيما يشبه الكابوس:
لست أملك إلا أن أغرق في عتمة تتغلف بليل كثيف يعانق ظلمة قديمة تملؤها تنانين وغيلان وبشر يأكلون العشب فتنولد أرض قاحلة (المجموعة ص 76). 
فيحاول أن يخرج من هذه الحالة لكن دون جدوى:
أسحب الحلم من أرجوانه ليندلق على الأصفر دون جدوى
أتدفق موتا
يتدفق الجدار
أنغمس في الصديد
تعلوني ديدان مترعة بالخوف
تحمل همومها وتمشي على جسدي (المجموعة ص 76-77). 
قد يكون الأصفر إشارة إلى الغول الأصفر الوارد ذكره في القصيدة، أو هو الصديد، أو اليباس، ولكن أيا كان فالقصد واضح، إذ دلالات ذلك كله تتشابه. 
في لحظة ممعنة بالضياع يتساءل الشاعر: أين أنا..؟؟. ثم يستنجد بأبيه:
يا أبي..
يا فرسا وزيتونا وانتظارا
يا وعدا.. يا حلما.. يا (بعلا) (المجموعة ص 77). 
لكن الانهيار يستمر كما يظهر في النصّ:
تتساقط نجمات الحقل
يبتعد الضوء
أشرب العتمة مع الصديد (المجموعة ص 77). 
ثم يحاول مجددا أن يتغلب على مخاوفه، فلا يصادف أي نجاح، وعند ذلك يكاد يصدق ما يرى من وحوش وغيلان كان يظن أنها لم تعد موجودة:
أرسم ضوءا لا يأتي..
وأرى وطنا يهجر فجرا..
فأكاد أصدق العتمة (المجموعة ص 78).  
في المقطع الأخير يستنهض الشاعر الروح حتى تمضي نحو بصيص الضوء قبل أن يغرق المشهد في الكآبة، ويرتفع الجدار، ويتوغل في السوداوية والقلق ليصل إلى نقطة اللاعودة، ويدخل في دوامة من الأفكار وحالة من الاكتئاب. ويعترف في النهاية أن ما يتهيأ له من أفكار وقلق وهواجس ما هي إلا توهمات ووساوس غير حقيقية، لكنه ينجرّ إليها ويتورط فيها رغمًا عنه:
أمامًا أمامًا أيتها الروح
امضي نحو بصيص الضوء
لن يطول الوقت بالجدار حتى يغطي الفضاء
أعرف أنني قد رأيت
لكنني لم أعرف
لن أعرف بعدُ فقد ملأتني الديدان!!! (المجموعة ص 78).
تتشح القصيدة بصبغة سُريالية واضحة تبرز في التنقل بين اليقظة والحلم والشعور واللاشعور. ولعل السريالية هي الشكل الأنسب للتعبير عن هكذا هواجس. وهي قصيدة تحتاج إلى أكثر من قراءة حتى تظهر مفاتيحها للمتلقي، ويلزم الوقوف المتأني عند بعض المفردات ذات الدلالات الواسعة في النصّ، كالجدار والعتمة والرؤية، لما لها من تأثير في بلورة مسار القصيدة وتحديد وجهتها. 
أما على صعيد اللغة في هذه القصيدة فهي جميلة ومشرقة، والصور فيها حية وموحية ومبتكرة، والبناء متسلسل وتصاعدي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن موضوع النصّ يتناسب مع البناء السرديّ، وهو مضطّرد في القصة القصيرة والرواية، إلا أن الشاعر نجح في سبر غوره عبر الشعر، وهذا يحسب له لإضافة قصيدة بهذا العمق إلى بنات جنسها. وكما أشرت في البداية فإن قصيدة النثر تقبل تعدد القراءات، ولعل هذه القصيدة هي الأكثر قابلية لتعدد القراءات من بين قصائد مجموعة «حضن الأفول»، فالشاعر سلطان الزغول يقدم عبرها رؤية منفتحة على الدلالات ويطرح إشكالات وجودية كبيرة.