قراءة فنية بعنوان" شعر الحنين بين الهوية والانتماء" لدى الشاعر سيد هاشم من خلال
عرار:
قصيدته (لعلي بلبل محبوس)
الباحثة د/آمال بوحرب - تونس
يقول الشاعر :
لَـعَلَّي بلبلٌُ محبوسٌُ فـي قفصٍ مُعَنَّا
أَنشــدُ أَسـايا وشوقـي وحنيني لِمُنايا
أٌبوحُ مُـعْلِـناً أعيشُ حيـاً لـسـتُ ميتـا
جعلتنـي ألـخُلَّـةَ فـي غرامـي راضيـا
هيـامُ الــودِ فـي مُقَلـتَي صبـوةٌُ مُحلىٰ
الهوىٰ قـدرُ صداقتــي ونجوايــا
شَغفُ الحبِ يُسامرني بوجدي واصبا
أَبحرُفي بحرِ الغـرامِ والمعشوق
زورقـــي كَــلَـــفَـــا.
كــمــا أَراهـا لــؤلــؤة...
خضراء زاهــيةً فـي سمايـا..
دانيـة قطوفهـا تَـسْرُ وجـديِ وأَسيا
الشـوقُ غايةُ العـاشقِ مهمـا أنزلقىٰ
شجونَ الجـفا قَـفْرٌ وليست الأستِكانا
جَعَلتْ النُـوُي حَولي قصدها حِمايا
لدرءُ ألاخطارِ ومُعصرات الشتاء العاتيا
تُناغمني خيالها غرامَ خود الهوىٰ
وجنةُ الاخلاق والشعرُ والادبُ مزاياها
فلا تبخلـي أنـا مغرمٌُ وقلبي شَيقا
أسقـي ودادكـم مـن خشيةِ الضياعـا
أطمـأنَّ فؤادي ودنـا لـكم وآنحنـىٰ
فمـا للدنيـا الاملاقُ ألا وقالـت صوابـا
بقلــم سيـد هاشـم....
تعكس هذه القصيدة المشاعر في علاقتها مع الواقع في صيغ تعبيرية عميقة عن الحب والشوق وتستخدم لغة شاعرية غنية بالمعاني والصور مما يجعلها تجربة شعورية مؤثرة تعكس المشاعر الإنسانية المتنوعة وتظهر قدرة الشاعر على نقل تلك الأحاسيس بطريقة فنية وجميلة.
أولا :البعد اللغوي والروحي لكلمة الحنين :
الحنين وأبعاده :تحمل كلمة "الحنين" بعدًا لغويًا وروحيًا عميقًا في الشعر، حيث تعكس مشاعر الشوق والاشتياق إلى الماضي أو إلى أشخاص وأماكن
. لغويًا:تتجلى هذه الكلمة في الأساليب البلاغية مثل الاستعارة والتشبيه، مما يضفي على النص شعورًا بالعمق والحميمية.
يشير الحنين إلى ارتباط الإنسان بجذوره وهويته ويعكس تجربة إنسانية مشتركة تتجاوز الزمان والمكان.
روحيا :يمثل الحنين رحلة داخلية تستحضر الذكريات والأحاسيس، مما يخلق مساحة للتأمل والتفكر في ما كان وما قد يكون.
أما في الكتابة الشعرية يصبح الحنين أداة للتعبير عن الألم والجمال بآن واحد حيث تنسجم الكلمات لتشكل لوحة عاطفية تلامس الأرواح وتثير في النفس شتى المشاعر بهذه الطريقة، تتحول كلمة "الحنين" من مجرد تعبير لغوي إلى رمز غني بالتجارب الإنسانية العميقة يقول -دوستوفيسكي "الحنين هو حين لا يستطيع الجسد أن يذهب حيث تذهب الروح ."انطلاقا من هذه النظرة الخاطفة لمعنى الحنين أردت التعمق في هذه القصيدة المتميزة ومعرفة عمق الحنين فيها وعلاقته بالتجربة الروحية والشعرية ؟ومدى ارتباط الشوق بالبعد الوجودي في حياة الشاعر العراقي سيد هاشم ؟
ثانيا -الموضوع والمشاعر :قصيدة "لَعَلَّي بلبلٌ محبوسٌ في قفصٍ مُعَنَّا" تصور بطريقة وبأخرى مشاعر عميقة من الحب والشوق والحنين، وتستخدم مجموعة من الصور الشعرية المتفاوتة التي تبرز عواطف الشاعر حيث يتحدث عن شوقه وحنينه إلى المحبوبة يستخدم استعارات تعكس حالته النفسية فتشبيهه لنفسه بالبلبل المحبوس الذي يعبر عن قيود معرفية وواقعية للتعبير عن هذه التجربة
ثالثا -الرمزية وأبعادها :غالبا ما تُعزز الرموز من عمق القصيدة وتساعد في التعبير عن تعقيدات المشاعر الإنسانية التي يعيشها العشاق ومن خلال فهمها يمكن للقارئ تقدير الجوانب الفنية والعاطفية في النص بشكل أكبر. تحتوي القصيدة على عدة رموز تحتاج إلى تفسير لفهم المعاني العميقة التي يحملها الشاعر �1. البلبل المحبوس يمثل العاشق الذي يشعر بالحب لكن لا يستطيع التعبير عنه بحرية فيُظهر البلبل حالة من الحزن والحنين، مما يعكس شعور الشاعر بالضياع وعدم القدرة على الوصول إلى محبوبته.
2. قفص:يرمز إلى القيود والعوائق التي تمنع العاشق من الوصول إلى حبيبه يمكن أن تشير أيضًا إلى قيود المجتمع أو الظروف التي تؤثر على العلاقات.
3. لؤلؤة خضراء زاهية:تعبر عن جمال المحبوبة ونقاء حبها واللؤلؤة رمز للندرة والقيمة مما يدل على أن الحب الذي يشعر به الشاعر هو شيء نادر وثمين.
4. بحر الغرام:يرمز إلى عمق المشاعر والتحديات التي يواجهها العشاق. البحر غالبًا ما يُستخدم كاستعارة للعواطف الجياشة والمخاطر التي تأتي مع الحب.
5. شجون الجفا:تشير إلى المعاناة الناتجة عن الفراق أو الجفاء الجفاء هنا يمثل الألم والشوق الذي يشعر به العاشق عندما يكون بعيدًا عن محبوبته.
6. قطوفها:ترمز إلى الثمار أو النتائج التي يجنيها العاشق من حبه. تعكس فكرة أن الحب يحمل معه جمالًا وثمارًا، لكنه أيضًا قد يأتي مع تحديات.
7. جنّة الأخلاق:تشير إلى الصفات المثلى التي يتحلى بها المحبوب، مما يعكس جمال الروح والشخصية،ويعزز من قيمة الحب.
8. الشتاء العاتية: يرمز إلى الصعوبات والآلام التي يواجهها العاشق في حياته. الشتاء غالبًا ما يُستخدم كرمز للبرودة والعزلة، مما يعكس مشاعر الشوق والفراق.
9. الوداد:تشير إلى المحبة والعلاقات الحميمة فيُظهر الشاعر رغبته في الحفاظ على هذا الوداد وتغذيته، رغم المخاوف من فقدانه.
تعزز هذه الرموز من عمق القصيدة وتساعد في التعبير عن تعقيدات المشاعر الإنسانية التي يعيشها العشاق من خلال فهمها يمكن للقارئ تقدير معاناة الشاعر .
ثالثا -مظاهر الصراع الداخلي في القصيدة :يتحدث الشاعر عن "دنيا" و"شجون الجفا" مما يعكس الصراعات الداخلية التي يعيشها العاشق بين مشاعر الحب والواقع القاسي فالرمزية في "قطوفها" تشير إلى الجمال الذي يمكن أن يناله العاشق من علاقته، ولكن هناك أيضًا تلميحا إلى التحديات والمخاطر يتناول الشاعر فكرة الفراق و الجفاء ويظهر كيف أن هذه المشاعر تعقد حياة الإنسان وتؤثر على روحه غير انها تشير في النهاية إلى أن الحب رغم صعوباته يظل هو الغاية السامية التي يسعى إليها الإنسان ولعل بوادر الأمل يعكسها اللحن فتكرار العبارات يخلق لحنًا موسيقيًا، مما يجعل القصيدة تنساب بسلاسة ويسهل تذكرها لتنتهي بتعبير عن الأمل، حيث يطمئن الشاعر قلبه، ويعبر عن استعداده لمواجهة صعوبات الحياة من خلال الإيقاع الذي يساعد على تعزيز الشعور بالانتماء ومعانقة الروح الهائمة
رابعا- الحنين بين الاغتراب والوجودية :�تظهر في بعض الأبيات فلسفة وجودية، حيث يتساءل الشاعر عن معنى الحياة في ظل الفراق، مما يضيف عمقاً للتجربة الشعرية تتسم بعض الأبيات بتساؤلات حول وجود الشاعر في الدنيا والواقع وهذا النمط من التفكير يُظهر صراعًا داخليًا يشير إلى البحث عن معنى في الحياة مما يعكس قلقًا وجوديًا يقول "إميل سيوران"
(إن القدرة على التخلي هي المقياس الوحيد للارتقاء الروحي حين نغادر الأشياء وليس حين تغادرنا)
هذه القدرة على التجاوز هي العمل الإبداعي نفسه ولا تكون إلا بطرح مجموعة من النقاط منها
1-الأسئلة الوجودية:من المتعارف عليه ان الكتابة تُستخدم غالبا لتعكس العمق الروحي مثل "الروح" و"الذكريات"، مما يضفي طابعًا تأمليًا ويعكس البحث عن المعنى في التجارب الماضية وذلك لان الكتابة الشعرية ليست إلا طريقة فنية للإجابة عن الاسئلة التي تخامر صاحبها مع التفاعل مع المحيط والواقع وهنا أطرح السؤال الآتي فكيف تعامل الشاعر مع قضية التأمل ؟
-التأمل في الزمن يتناول الشعراء مفهوم الزمن وكيف يؤثر على الحنين. قد يعبرون عن الشعور بأن الزمن قد توقف في لحظات معينة، مما يبرز الصراع بين الحاضر والماضي.
-التأمل و الألم :يعكس الحنين شعورًا بالألم لفقدان شيء مهم يقول الشاعر " لَـعَلَّي بلبلٌُ محبوسٌُ فـي قفصٍ مُعَنَّا "ولكن في نفس الوقت يبرز الجمال المرتبط بتلك الذكريات وكأن الحرية أصبحت من الماضي هذا التوتر بين الألم والجمال يعمق الأبعاد الروحية للحنين
-التأمل والانتماء: يظهر الشعراء شعور الانفصال عن الوطن أو الأشخاص المقربين يقول الشاعر "أٌبوحُ مُـعْلِـناً أعيشُ حيـاً لـسـتُ ميتا أجعلتني ألـخُلَّـةَ فـي غرامـي راضيا"مما يعكس صراع الهوية والانتماء هذه التجارب تُضفي طابعًا فلسفيًا على مفهوم الحنين.
- التأمل في الطبيعة كمرآة للحنين:هذه القصيدة تحمل في طياتها مشاعر عميقة وتأملات في الحب والطبيعة. يظهر الشاعر انغماسه في الأحاسيس والمشاعر، حيث يعبر عن حالة من الشوق والحنين. نستطيع أن نلاحظ بعض العناصر الفنية التي تعكس العواطف فالطيور تحن إلى الأراضي الشاسعة والتلال والأشجار الغناء يقول الشاعر شَغفُ "الحبِ يُسامرني بوجدي واصبا
أَبحرُ في بحرِ الغـرامِ والمعشوق زورقي كَــلَـــفَـــا.
إبحارا روحيا ووجوديا صادقا ومؤلما"
وأخيرا يجوز القول بأن هذه القصيدة ليست مجرد تعبير عن الحب بل هي تجسيد لمشاعر إنسانية عميقة تتراوح بين الشوق والحنين، الفرح والحزن، الوجود والفقد. تعكس قدرة الشاعر على استخدام اللغة لوصف تجربة إنسانية معقدة، مما يجعلها قطعة فنية مميزة ويبين لنا من خلالها كيف يؤثر الحنين بشكل عميق على الأسلوب الشعري بعدة طرق وكيف يساهم في تشكيل النصوص وجعلها أكثر عمقًا وإيحاءً ولعلني في آخر هذه القراءة أتساءل هل كان نيتشة محقا عندما قال "التكفير في الماضي وتحويل كل شيء (كان) إلى (ما أود أن أحوزه) هذا وحده ما أسميه التفكير"