|
عرار:
الدكتور كايد الركيبات صدرت رواية «على سبيل المثال» للكاتب الأردني أحمد طملية، عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في العام 2023، بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، جاءت الرواية في 132 صفحة من القطع المتوسط. قدم الكاتب سرديته الروائية من خلال وضع القارئ أمام تسعة عشر مشهداً، مثلت في مجملها فكرة الرواية، وحدود أدوار الشخصيات ومسارات تأثرهم أو تأثيرهم في شخصية بطل الرواية، انسابت سردية الأحداث في متن الرواية على لسان الكاتب، الذي استعاض بضمير المتكلم (أنا)، والانتساب للفعل (غادرت، أتذكر، دخلت، قلت، أقول ) عن تسمية بطل للرواية. الصورة الانطباعية التي يمكن أن يكونها القارئ عن بطل الرواية أنه شخصية قلقة، لا يعرف ماذا يريد، ولا يريد أن يعترف بشيء مما يعرف. لا يريد أن يتعب، ولا يريد أن يستريح، وقد جاء هذا التوظيف لحالة الاضطراب في شخصية بطل الرواية حتى تكون أداة غير مباشرة لخلق مادة الحوار، ووسيلة مساعدة يمكن من خلالها للكاتب أن يناقش المحاور الموضوعية التي كون منها بنية الرواية وفكرتها، فلجأ إلى طرح الفكرة ونقيضها، ومن ثم جاء توظيف الشخصيات الروائية لتبرير أو تعليل الحدث مدار النقاش، هذا التوظيف فتح آفاق أوسع للحوار، وساعد في تكوين صور متناقضة عن مجريات الأحداث، وبذلك تمكن بطل الرواية من مناقشة مواضيع اجتماعية متعددة تعلقت بالقضية الفلسطينية، والسيرة الشخصية. تناولت سردية الرواية موضوع الأسرة الفلسطينية اللاجئة، التي فرت من الأراضي الفلسطينية المحتلة إثر نكبة عام 1948، من حيث ظروفها وتكاثرها وتمددها، وقدرتها على تجاوز عُقدة الشتات، وحالات تكيفها مع الظروف التي فُرضت عليها، قال: «بعد نكبة عام 1948، توزع جزء كبير من الشعب الفلسطيني في مخيمات ورغم ضيق الحال، إلا أنهم كانوا يُكثرون من الإنجاب كانوا يفعلون ذلك بحثاً عن الأمان، بعد أن تقطعت السبل بالأسرة الأم الكبيرة، أو أن ذلك كان يتم لدوافع وطنية فكلما زاد عدد أفراد الشعب الفلسطيني في الشتات، أصبح حلم العودة أكثر قربا « (ص: 69). في خضم هذه المعاناة، والحياة المريرة، لك أن تتخيل قوله: «والدليل على أنهم كانوا يعيشون، أن المخيمات لم تعد مخيمات خلال سنوات معدودة، بل تحولت إلى أحياء فيها مبان وعمارات وحركة تجارية دؤوبة. لكن حذار من الاعتقاد أن هذا التحسين في مستوى المعيشة جاء على حساب حلم العودة، بل إنه عزز ذلك الحلم « (ص: 74)، وقوله على لسان صديقه بدر: «أتفترض أن جيل النكبة كان قابضاً على جمر مفتاح العودة؟ إذا كان كذلك فعلاً لماذا بنت أمك عمارة من يفكر في العودة لا يبحث عن سُبل استقرار في الشتات ثم، إذا كان الجيل الذي تعنيه جاداً، متفانياً، يعرف ما يريد، فلماذا أنجب جيلاً مائعاً، باحثاً عن ملذاته الخاصة؟. ولم تذكر شيئا عن الذين هاجروا، وسافروا إلى دول فاحشة الثراء أقصى طموحهم كان البحث عن حياة رغيدة» (ص: 79). على هامش هذه المعاناة الكبيرة اعترضت بطل الرواية مشاكل شخصية كثيرة، بصفته فرداً من أفراد المجتمع، تأثر بالمحيط الاجتماعي الذي عاش فيه، لذا؛ اهتمت الرواية بالعلاقات الأسرية التي تنوعت بين حالات الفتور والإهمال، إلى حالات التعاطف الشديد ومشاركة المشاعر، بدأ المشهد الأول من الرواية بالكشف عن مشاعر بطل الرواية تجاه بيته وأسرته الصغيرة، قال: «البيت هو المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالطمأنينة فثمة، في نهاية المطاف، زوجة وطفل قلت بدهشة: أحمد.. وهو اسم ابني..» (ص:7، 9)، قدم لنا هذا الاقتباس لمحة عن شخصية البطل ومشاعره المتناقضة، حيث يشعر بالطمأنينة في بيته، لكنه في الوقت نفسه وضع القارئ على حافة الدهشة التي انتابته من تفاجئه باسم ابنه «أحمد»، واسم أحمد هو اسم كاتب الرواية حقيقة. قال في موضع آخر على لسان بطل الرواية: «الظروف التي عشتها جعلتني دائماً متابعاً لهموم الآخرين وعاطفتي المكتسبة بالفطرة، كانت تجبرني على أن أتفاعل، وأحزن، وأفرح، وأبكي» (ص: 16، 17)، ولأنه كان مدركاً تبعات هذه العاطفة، ومقراً بضعفه تجاه هذه المسؤوليات، وعجزه عن القيام بها، جاهد في التنصل منها، ليبقى في حالة تصالح مع الذات، محاولاً إبعاد نفسه عن الوقوع في الملام، خشية أن تنعكس نتائج المشاركة أو المشاورة سلباً على قضاياهم الشخصية، قال: «هم يرون أنني مهم، وأنا أناضل من أجل إبطال هذه التهمة عني» (ص: 18). وفي المشهد الذي عنونه بــ «أنت هكذا» (ص: 89) صور لنا حالات الانسحاب والانهزام التي عصفت بنفسيته، فصور نفسه قاتلاً! زهق أرواح كل من مر في مخيلته حين استعرض شريط ذكرياته معهم. قدم النص لمحة عن رواية غنية بالمشاعر الإنسانية، نفث فيها بطل الرواية حزناً على فراق أخيه إسماعيل ــ قد ترمز شخصية إسماعيل إلى جانب من جوانب شخصية بطل الرواية ــ أعيته قدرته الكتابية الفيض بمشاعره الداخلية الحزينة، فأردف قائلاً: «وأنزلق في إحساس سأعجز حتما عن التعبير عنه» (ص: 33، 35). ثم أنه وقف طويلاً متأملاً حالة أمه التي تعبت وعانت الكثير لتبقى أسرتها سعيدة مستقرة، ومن شفقته على حالها ومصيرها تمنى لو أنها لم تتزوج، ولم تنجب. وكثيراً ما تحدث عن سيرة أخيه محمد في غير موضع من الرواية، حيث قدم وصفاً مُبهراً لموهبته في الكتابة، مما يدلّ على تقديره للإبداع والإلهام قال عنه: «كان محمد بالمناسبة كاتباً مبدعاً، فرض نفسه على الجميع باعتباره كاتباً لا يجارى. وهو يصنع من الكلمة جملة، ومن الجملة معنى، ومن المعنى دهشة» (ص: 125) في هذا الموضع قاربت السردية الروائية الحقائق الواقعية. وفي الزاوية التي تؤكد أهمية الحب والعلاقات العاطفية في حياتنا، كانت سردية الرواية حاضرة بشكل تفاعلي حينا وبشكل ضمني حيناً آخر، فقد عبرت عن العاطفة الحارة تجاه الحبيبة، سواء التي أحبت أن ترتبط به وهو في شغل عنها، أو التي أحبها وهي في شغل عنه، فكانت شخصية «إلهام» حاضرة على سبيل المثال للأولى، وشخصية «وفاء» مثال للثانية. ساهمت المقاطع المشهدية التي وصفها الكاتب ووظف حالة الارتباك الطاغية في شخصية بطل الرواية عند مناقشتها في إثارة فضول القارئ، وجرفته في تيار الحوار، للمشاركة فيه، والبحث عن التفاصيل، لاستكشاف النهايات، يقول: «لم يهدأ لي بال إلا عندما مررت على صديقي بدر، هو سهران، اعرف أنه سهران، فهو لا ينام، لعله ينام، لكنه دائماً على نفس الهيئة، جاهز لأن يسمع، عكسي تماماً « (ص: 24)، ويقول على لسان صديقه: «أنت هكذا، دائماً تُبقي شيئاً ما معلقاً. تفترض أحيانا أن الآخر قد فهم عليك، رغم أن ثمة تتمة عليك أن تأتي بها « (ص: 26). عبر الكاتب بأسلوب مباشر عن رأيه في المتسلقين الذين ركبوا موجة النضال واستغلوا القضية الفلسطينية على الصعيد السياسي لتحقيق مآربهم الشخصية، قال: «ثمة من ارتزق، وتكسب، وركب موجة القضية، على المستوى السياسي، وأصبح له مسمى، بل وقدرة على التحكم بمسار القضية، وعلى نحو لا يتفق أبدا مع نبض الوجدان الشعبي وأصبحت الأزمة الفلسطينية ليست أولوية، بل ثمة أزمات عربية، كأن الأمر مقصود: توريط كل الشعوب العربية بأزمات من نوع أو آخر لقد تورطت شعوب عربية بمتاهات، جعلته يقول رغما عن أنفه: اللهم رأسي» (ص: 82). رغم محاولات الكاتب طرح إشكاليات الرواية ومواضيعها بشكل متناثر، حتى يخلق حالة من التفاعل بين القارئ والموضوع، إلا أنه كان يجمع المحاور المتشعبة بثنائية مشهدية، يكمل كل مشهد منها المشهد الآخر: مشهد صور شذرات متفرقة ومختارة عن سيرة شخصية وعلاقات عاطفية أخوية لجو أسري مخلوط بشيء من الخيال والتورية حتى لا يقع في دائرة السيرة الروائية. والمشهد الآخر سلط الضوء على الواقع المأزوم تجاه القضية الفلسطينية بكل أحمالها وأثقالها وتبعاتها، التي أتعبته حتى تمنى لنفسه أن لا يفكر. من العبارات التي ذكرها في الرواية مثلت فلسفته في الحياة قوله: «إن للصمت لغة تطغى على كل لغة» (ص: 33)، «لا يوجد متعة تضاهي متعة الاختلاء بالذات» (ص: 59)، «أجمل ما في الطريق هو الطريق. أجمل ما في الوصول هو انتظاره لك أن تتخيل متعة الانتظار» (ص: 71)، «كل شيء ممكن أن يتدبر، طالما ثمة حلم، وثمة أمل» (ص: 72)، «الطريق تحتاج طيرانا لا ترنحاً قرب الحواف» (74)، «العالم كله يبني قناعاته على افتراضات. ولهذا فإن جوهر الوجود هو الصراع. لهذا هناك حرب وسلم، خير وشر، شك ويقين، لو وصلنا جميعاً إلى اليقين المطلق، فمعنى ذلك العدم» (ص: 97)، «الجفاف العاطفي، لا يقتصر على العلاقات الزوجية، بل إنه يشمل جميع العلاقات» (ص: 104). في الختام، يمكنني أن أعتبر المشاهد التسعة عشر التي وظفها الكاتب عماداً للرواية، نماذج واقعية تتلاقى في الحياة اليومية. وقد برع الكاتب في معالجتها بطريقة فنية، مستحضراً وعيه العميق الذي تجلى في كل جانب من جوانب سرديته الروائية. لوصفها بأنها مشاهد تعكس الحقيقة والواقع الذي يشعر به أو يستشعره، وأنها تنبض بالحياة والإحساس، ومن هنا أرى أن هذا التوفيق الفني كان سببًا مقنعًا لتسمية الرواية «على سبيل المثال». الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 25-04-2024 11:19 مساء
الزوار: 164 التعليقات: 0
|