|
عرار:
د. أحمد عرفات الضاوي مدخل: لا يولد أي نص أدبي من فراغ، فالكاتب يستدعي من ذاكرته ومشاهداته ومسموعاته أحداث قصصه وشخوصها وفضاءها المكاني والاجتماعي، ثم يصوغها بلغة سردية ملائمة تؤدي الغاية، ويستدعي من اللاوعي ما اختزنه من قيم ثقافية وتربوية لتوصيل رسالة أو تعميق قيمة دون أن يتعمد ذلك أو يقصده، لأن كشف هذه التفاصيل مهمة الناقد وليس من مهام المبدع. ووفق هذه المعطيات فإن نصوص هذه المجموعة تنتمي إلى فضاءين متناقضين في الملامح والخصائص: الأول: فضاء اجتماعي ومكاني متخم بالبؤس والفقر والجهل وتغيب فيه المسؤولية والوعي والاحتواء. الثاني: فضاء اجتماعي ومكاني أكثر رحابة فيه قدر من الاكتفاء الاقتصادي ونسبة معقولة من الوعي التربوي والإحساس بالمسؤولية تجاه الطفولة. لا أظن أن هذا الفرز قد جاء متعمدا من الكاتب، لأن لكل قصة خصوصيتها ولكن الشراكة في العناصروالمخرجات والفضاء المكاني والاجتماعي بين بعضها قد فرض نفسه على التصنيف والتحليل. القصص السبع الأولى من المجموعة، تطرح أسئلة صعبة تظل إجاباتها معلقة وتحدث خللا في شخصية الطفل وسلوكاته، وتظل عالقة على هيئة ندوب نفسية مدى الحياة، في ظل غياب التوجيه والتثقيف وهيمنة الجهل على المشهد. عندما تستعرض عناصر الفضاء الأول المكاني والاجتماعي تضيق أنفاسك وينتابك انقباض في قلبك وتحس بأن روحك عالقة بسنارة الفقر والجهل والعوز يلخصه مشهد الاستحمام في البيت: يوم الاستحمام يوم مشهود... صوت الغسالة أشبه بجاروشة القمح، وأم قد شمرت ثوب نومها وثنته تحت سروالها، بينما الأطفال يدورون عراة في المنزل، وأما الأب فقد هرب من المكان إلى دكان صديقه (أبو حسن) يستمتع في مراقبة أرداف النساء العابرات. (أنفاس مكتومة). وفي قصة (دينا) كان شباكها يطل على زقاق ملتو ومزدحم بتلك البيوت التي أسدلت ستائرها على الشبابيك، في مثل هذا الفضاء شهدت الطفولة أول تجاربها الجنسية والعاطفية وقلدت ما شاهدته من الكبار في بيت لا يتسع للشجون والشؤون، فالأب والأم في قصة (سرير) يمارسان الجنس ويراهما الأخوان فادية وفؤاد من ثقب الباب بعد سماعهما لأصوات البغام واللهاث، فيقوم الأخوان بتقليد هذا الفعل. وفي قصص أخرى يتجلى غياب الوعي والثقافة الجنسية ففي قصة (ليلى) تسمع ليلى عبارات موحية بالخطط الجنسية للوالدين وتسمع الشهقات والأنفاس أثناء العلاقة ومع ذلك تضن الأم على ابنتها في توضيح معنى البلوغ، فتلجأ إلى صديقتها حنان في المدرسة لتعرف ماذا يعنيه البلوغ وهذا التطور الجسدي الذي طرأ عليها. وأما سعاد في قصة أخرى وهي ابنة عامل فقير تعاني الحرمان وتشفق على والدها المثقل بالفقر والمرض، فتكلم الله وتكتب إليه رسالة قالت فيها: يا ألله لا تتركنا نموت جوعا، وطلبت في الرسالة ملابس العيد وثبتت الرسالة بحجر عند شاهد قبر والدها. مشاهد قاسية تضج بالحرمان والفقر والجهل. قيمة هذه القصص ضمن هذا الفضاء تتجلى في جرأة المحتوى على التابوهات، وتخترق الخطوط الحمراء لتفضح بعض المسكوت عنه. وعندما تنتقل إلى الفضاء الثاني تستعيد توازنك وتفرح مع الطفولة وللطفولة حيث تتجلى في هذه القصص رحابة المكان، ونضج الشخوص ووعيهم على مسؤولياتهم تجاه الطفولة. لبنى تجد من الرعاية الصحية ما يعيد إليها الفرح والثقة بعد مصاحبة أمها لها لزيارة طبيب الأسنان، فتعود مبتسمة فرحة جريئة على الابتسام بعد ترميم سنها المكسورة، بيسان تصحو على صوت شحرور عند نافذتها، وهي تشتاق لمدرستها وزميلاتها وتكلم الشحرور، وتتواصل مع زميلاتها عبر وسائط التواصل، هذا فضاء صحي تزدهر فيه الطفولة، ونوران تستعيد لعبتها التي تركتها زمنا في الخزانة وتعود إليها الحياة، ورنيم تداعب قطتها وتعتني بها في أثناء الحظر من كورونا وتحتفل مع أهل الحي بانتهاء الحظر. وفي قصة فرح يظهر تفاعل الطفولة السوية مع الناس وتقديم العون لهم، كل قصص هذا الفضاء تشي بالاكتفاء الاقتصادي والتربية الصحيحة والعناية والتوجيه. ويظهر الجو الأسري الحميم في قصة حبة الكستناء، حيث تجتمع الأسرة كلها لشرب الشاي وتناول الكستناء المشوية، ويتم النقاش حول مسألة لغوية، مع احترام الأدوار والآراء. لغة القص: السرد في معظم النصوص بضمير الغائب، وبالجملة الخبرية: جلست فرح على كرسي تستظل بشجرة...، سمعت نيدانة مواء قطة، مع استثناءات قليلة فبعض النصوص جاءت بضمير المتكلم (الشخصية الرئيسة) مثل قصة سعاد: لم أكن أعلم أن سؤالي سيثير حفيظة أمي، وتستمر القصة إلى نهايتها على هذا النسق. وكذلك في قصة ليلى. قصة حلم تفردت بلغة أدبية شاعرية فالقاص يصف مشهدا صباحيا صيفيا بلغة مختلفة عن بقية القصص:: الشمس تغرق البيوت بضوء ساطع، يتسلل من النوافذ والأبواب... ناس يمضون تقرأ على جباههم شقاء العمر... أطفال يكابدون كنبات الصبار. وفي قصة (أنفاس مكتومة) استوقفني مشهد يوم الاستحمام ؛ وتضافرت جميع الحواس في كتابته: صوت الغسالة الذي يشبه جاروشة القمح، الملابس المتناثرة على الأرض وخيط ماء طويل يمتد من الحمام إلى حبل الغسيل، وفقعات رغوة مسحوق الغسيل تتطاير في الهواء، ويستكمل القاص هذا المشهد وكأنه يكتب سيناريو لمشهد سينمائي.... وأم قد شمرت ثوب نومها وثنته تحت سروالها الوردي، مشهد مفعم بالأصوات والألوان تكاد تراه بكل تفاصيله. شذت القصة الأخيرة (الشطرنج) عن بقية القصص؛ حيث وظف القاص الحوار، مستدعيا حالة تراثية تكشف تعقيد اختراع لعبة الشطرنج وأسرارها العميقة، وتتجلى قيمة هذا النص بأنه مثير للتفكير. خلاصة: نصف القصص الثاني وفق الترتيب في المجموعة، يصلح للأطفال (الفتيان) من حيث لغة الخطاب والمحتوى والقيم المبثوثة وهي تنتمي إلى الفضاء الثاني الذي يضج بالفرح والأمل. الرسومات في نهاية كل قصة فقيرة بالإيحاء وتعزيز المضمون، ولكنها فواصل جيدة ومحطات تنفس للانتقال إلى فضاءات قصصية جديدة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 24-11-2023 05:29 مساء
الزوار: 654 التعليقات: 0
|