الروائية زينب السعود (الكتابة عمل شاق) هذا ما قاله احمد خالد توفيق وأيده بعد ذلك كثيرون، وربما بعض تلك المشقة مرتبط بأدوات يلزم على الكاتب امتلاكها والتمكن منها وإلا فإن الكتابة لن تعدو كونها مجرد ممارسة شاقة بل مستحيلة ومستعصية إذا كنا جادين في الحديث عن كتابة إبداعية حقيقية تجذب وتدهش وتصنع فرقا في الأفكار المطروحة لإتمام هذه الوجبة التي سيقدمها الكاتب للقارئ واضعا نفسه في مأزق كبير باجتراحه لها. والكتابة استدعاء لثقافة الكاتب وتجاربه ومعلوماته وخبراته وقراءاته لذلك عندما نتكلم عن عدة الكاتب وعتاده علينا أن ننظر بتمعن في البيئة التي خرج من رحمها النص خاصة تلك النصوص التي تسوق نفسها من خلال مقاربات واضحة تتعلق بخصوصية (المكان الرحم) الذي احتضن أفكارها وصبغ السرد فيها بصبغة تتسق تماما مع ذلك الرحم. وفي رواية الكاتب الفلسطيني (باسم خندقجي) الأسير المحكوم بثلاث مؤبدات في سجون الكيان الصهيوني يسير بنا السرد وفق نمطية تكاد تقترب كثيرا من أبجديات الكتب النظرية التي تواترت على محاضرات الدرس الأدبي لعقود، فالرواية تتكئ بجملتها على أسلوب سردي أقرب إلى (العادية) التي تجعلك تقرأ دون توقف فلا مطبات ولا عوائق في اللغة والطرح والأسلوب تجبرك على العودة إلى الوراء لإمساك خيط ما أو التحقق من علاقة هذا بذاك أو التثبت من حقيقة فهمك لمشهد ما أو حوار مشكل في صفحة 141 نقرأ «أعود لمسائي الأخير بالقدس يا صديقي أعود إلى نفسي هنيهة داخل البيت المقدسي العتيق وأجواء أسرة تزخر بالدفء والأبوة والأمومة والأخوة» هذه العبارة بما تحمله من معاني عودة المغترب التي تحدث عنها ميلان كونديرا في روايته (الجهل) بأسلوب مدهش تبدو ذات صياغة متواضعة كان يمكن تقديم معناها في حلة لفظية مبهرة تستثير عمق الشعور الإنساني. ربما فرضت بيئة السجن والحالة النفسية المصاحبة لها على الكاتب أن يتصالح تماما مع أسلوب لا يرهقه ولا يرهق القارئ من بعده. ومع ذلك فالرواية تستعرض كثيرا من مفردات البيئة الاجتماعية والسياسية والفكرية الفلسطينية. يسير باسم خندقجي في روايته بأسلوب لغوي معتدل بل يمكن وصف كثير من جمله بالجمل البسيطة وهذا برأيي من الأسباب التي ستجعل هذه الرواية رائجة ومحبوبة لدى فئات كثيرة من القراء الذين يعنيهم من القراءة المتعة والانجذاب والفكرة المفهومة بعيدا عن تعقيدات النقد وهرطقات بعض النقاد. فمنذ البداية لا يرهق الكاتب قارئه برسم حالة من الغموض والتعالي على شخصياته وعلى رأسهم (نور) ذلك الشاب الفلسطيني من قرية اللد، الذي يوجه خندقجي منذ البداية أنظارنا إلى شكله السكناجي أو الأشكنازي الذي سنعرف فيما بعد أنه كان عامل نجاح في اختراق مجتمع العدو والانخراط فيه دون أن يرتابوا في أمره للوصول إلى هدفه في البحث في تاريخ المجدلية ونفض غبار التاريخ عن آثارها المتجذرة في التراب الفلسطيني. لقد وصف باسم ملامح (نور) ولكن وبلا وعي أحالنا الوصف إلى استحضار الصور المتداولة لخندقجي ذاته ذو الوجه الأرستقراطي الوسيم وهنا يتداخل الإنساني حقيقة مع الشخصي كما قيل عن الرواية فهل (نور) في الرواية هو باسم خندقجي في الحقيقة؟ هذا التساؤل مشروع جدا في حالة باسم ونور فكلاهما يتمتع بملامح (أشكنازية) وكلاهما عاش حياة من الإبعاد والتهميش وكلاهما يبحث عن ذاته بالرغم من كل الظروف: ذاك بكتابة رواية من خلف قضبان مؤبداته الثلاث وهذا بالسعي نحو اكتشاف حقائق التاريخ المغمورة. ولكن الإسقاط الأبرز كان في وصف الراوي لشخصية (نور) ص 42: «كانت العربية لغة قلبه، والإنجليزية لغة عقله، والبرية لغة ظله وملامحه الأشكنازية». لقد سيطرت فكرة الشكل المميز على فكرة الرواية حتى جعلها خندقجي ثيمة أساسية بنى عليها حبكته بل جعلها أول عتبة في نصه: العنوان. يخبرنا الراوي العليم في رواية خندقجي أن (نور) اكتشف مزايا ملامحه في مداهمة للشرطة الصهيونية للورشة التي يعمل فيها ليلقوا القبض على جميع العمال باستثناء ذلك الشاب الذي بدا لهم أوروبيا مهاجرا (أشكنازي) ليصل بعد ذلك الحادث إلى حقيقة « إنها الملامح إذن» تلك التي جعلته يركض باتجاه بحر يافا بدلا من العودة إلى رام الله، لتصبح لاحقا قناعا يرتديه ويحميه من قبضة الشرطة، وليتحول من (نور) الفلسطيني إلى (أور شابيرا) الإسرائيلي ولتبدأ بعد ذلك رحلة بحثه التاريخية. ومن المنصف أن أشير أن هذا المقال لم يتناول مقولات الرواية كاملة والنص مع بساطة سرده فيه جاذبية خاصة ربما استمدها من حساسية الموضوع الفلسطيني الذي يلقى قبولا استباقيا من جمهور المتلقين.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-05-2024 10:10 مساء
الزوار: 250 التعليقات: 0