|
عرار:
الدكتورة هدى المخاترة عمر أبو الهيجاء شاعر وصحفي أردني، أصدر ما يزيد على عشر مجموعات شعرية تنحاز في مجملها الى خلق علاقات جديدة في العنصر الفني وعلاقته بالواقع. حصل على جائزة الشاعر الراحل خالد محادين عن ديوانه (وأقبل التراب) عام 2019 التي تمنحها إدارة مهرجان جرش ورابطة الكتاب الأردنيين. وفي حديثنا عن ديوانه (سرد لعائلة القصيدة) يقف القارئ على الثيمات الكامنة فيه والتي يتحرك من خلالها الشاعر باتجاه الغياب والأنثى والعائلة وما يلامسها من تفاصيل تكشف عن تصاعد اغتراب الشاعر في منازل الوجود. فصدمة الغياب هي الأبرز حين تكون الطفولة مسيّجة بندوب وجراحات نازفة على حدود الألم. سيرة عائلة القصيدة هنا مشبعة بالألم والغياب والآمال المحروقة، فمنذ أول ضوء القصيدة تنحدر هذه العائلة الشعرية في توابيت الأرض، فشهوة التاريخ غائبة عنها، والأبواب مُوصَدة في وجهها، وتفتقر إلى ماء الخلاص. لكن وضوح النقوش الشعرية التي تعبّر عن انخذالاتها واضحة المجاز، فما خطَّهُ الشاعر من صور شعريّة فائضة بالاستعارة تكشف عن انغمار الشاعر في معركة قصيدة النثر، وهي السمة الفنية التي تطبع قصائد هذا الديوان الذي يشكّل سيرة شعرية من عروق اللغة وعائلة الحرف تبدو فيه الذات والوطن. يبدو الشاعر في هذا الديوان وهو يُعيد تخليق الكلمات التي توفرّ عليها في دواوينه السابقة بدلالات جديدة، معيدًا تلوين السماء والأرض والماء والتراب وتاريخية اللحظة في جغرافيتها الصعبة الدوران في فلك الأمنيات، ما يصح معه أن نقول إنه هنا في سردياته لعائلة القصيدة يكتبُ سفرًا جديدًا يتعالق مع كل ما مضى من ألم وجمال. فعائلة القصيدة هنا تحتضن أبناء الكلام السابقين في دواوينه، وهنا تكتمل العائلة في اجتماعها في شمل سردي واحد وتكتسي بأردية المجاز المختلفة مبنىً وصورة، في حين تظلّ الغربة الوعاء الحاضن لأنفاس هذه العائلة، وخصوصًا أنَّ الأيادي العمياء تنقلها من ألمٍ إلى ألمٍ. فتنة اللغة هنا هي سيدة الكلام المليء بالنار والشغف والوحدة القاتلة، العارية من الأصدقاء الذين يبحث عنهم في فضاءات الوجود. وفرةٌ من الحزن النبيل تطغى على هذا الديوان المضيء بمجازاته واستعاراته. ومن خلال قراءتي للديوان ودراستي للقصيدة المعنونة (كوميديا الألم) يحيلنا العنوان إلى الكوميديا الإلهية للكاتب الإيطالي (دانتي)، ويمكن مقاربة هذه الدلالة من خلال متن القصيدة، حيث يكتنف الغموض الأنثى التي ينَشُدُ الشاعر تلمس ضيائها فهي العشب الذي يفيض خيرا وعطاءً وهي البركة التي تنِزُّ عن التراتيل وهي الضياء الذي ينير دروب الحياة مذ كان طفلا بين كومة الأطفال إلا أنها رغم كل ذلك تبقي ألمها بالليل تطلقه وصايا من الدموع، إذ يقول: «بيدينِ فائضتين بالعشبِ الإلهي/ امرأةٌ ترتلُّ أيامها/ تُمسِك بخيط الضوءِ في الحارات.. وتطيرُ/ امرأةٌ من فلقةِ الصبح تتشكَّلُ/ قنديلًا في كومةِ الأطفالِ/ تفرُكُ العتمةَ بيديها المشتعلتينِ/ كأنها تمنحُ حنطةَ وجهها للأرضِ/ امرأةٌ تؤثث نصَّ البيوتِ في انتحابِ الوقتِ/ تكتبُ وصاياها على خدِّ الليل/ مثل غريبٍ لم يرَ غير صورة الدمعِ». (أذكرها) هو نشيد الذاكرة الملحّ على الذات لذا يبدو طَرْقها الشديد على شكل تكرار يربط متن القصيدة، لذا يقول الشاعر: «أذكرها/ هي أغنية الممشى.. فصلُ النبضِ/ أذكرها حين تعوي مثل ذئبة داخلي/ أذكرها وأغيب طويلا». حضور الأنثى في المقطع الأول حيةً يقابله حضورُها في الذاكرة وهو في الأخيرة يفيض ألمًا وتشوقًا ويبرز ذلك في تصاعد الألم في المقطع الثالث (خسارات أخرى) «لا شيء يحدث الآنْ/ غير أنَّ الراحلين لا ينسون الكثير من الدروبِ/ لستُ أولَ الراكضين للحقلِ/ وكلُّ الحصى تختبئ الأقدام تحته/ خرائط لمزيدٍ من الأملِ/ ورصاصةُ الجدلِ الدائرِ بين حربين/ تثقبُ القلبَ في المحطات/ لا شيءَ يبدو واضحًا/ وأمام المهاجرِ/ كلُّ الصورِ اللصيقةِ بالجدران يأكلها الغبار». وفي مفارقة تحيل إلى العنوان الرئيسي (ويأخذني قلبي الوحيد إلى الأصدقاء.. الأصدقاء المصابين بكوميديا الألم) حيث ينحو الشاعر إلى إبراز مفارقة تقوم على جمع ضدين الكوميديا والألم. إن مرأة الفضة تتمثل هنا لتخاطب الأصدقاء عبر كتب الغياب فهي ماء الحقل ومصدر الضياء ورسائل الحلم وبهجة الذاهبين إلى جنة العشاق. يتمثل الشاعر ذاته عبر مرحلة الطفولة التي تتملكه ولا يستطيع الفكاك منها لذا رغم تتالي السنين ما زال مرتهنا للطفل الذي في داخله: «ولدٌ من حطبٍ/ يحترقُ في جدولِ الحياةِ/ يمضي مكشوفَ اليدينِ/ يحاورُ الأشجارَ في حدائقِ العُمرِ/ يسيرُ بعيدًا نحو رمادِ السنينِ/ خانهُ شيبُ الكتابةِ في مبتدأ الكلامِ/ لم يزلْ يحلمُ مثلَ عصافيرِ البلادِ/ برقصةِ الديك في الساحاتِ/ راسمًا على خدِّ الوطنِ/ أغنيةَ العاشقِ». بين مرحلتين عمريتين الطفولة وما بعد الكهولة يتشظى الشاعر خوفا وألما وأملا فبالرغم من أنه ما زال يحتفظ بالطفل في داخله إلا أنه يشعر بالخوف من استعراض ما خلا من العمر وذلك يُنبِئُ عن ذاتٍ تعيش الحاضر المستلب من قبل الماضي والذكريات وهو ما صرح به الشاعر علانية من خوفه على نفسه من الماضي والذكريات، فيقول: «كم أخاف عليّ.../ كم أخافُ أن أشاهد ألبومَ العمر مغبرًا/ كم أخافُ أن أظلَّ بلا وسائد ليلٍ محترقٍ». في كثير من الأحيان يكون الشعر كالحب قادرا على صنع المعجزات، فهذا السرد الذي سيطرت فكرة الشعر على كيانه وصارت مثل حلم فعل به ما يفعل السحر بصاحبه، فكتب الشاعر عبر سحر اللغة تحفة بصرية، لشخوص مرئية وشخوص لا مرئية نتقبلها على القبول قبل الفهم والإدراك فالشاعر عمر أبو الهيجاء أراد من إقامته على الأرض أن تكون إقامة شعرية: «كأنَ الريحَ تبني خَيمَتَها من غبارٍ على حريرِ الكتابةِ/ كأنها تتمشى في درجِ المقامِ/ في لغةِ الماءِ، في ابتكارِ النورِ/ على خدِّ النعاسْ، كي تنامَ امرأةُ الترابِ في قُمصانِ الخيالْ». الشاعر يبحث عن معنى الحياة والقلق الوجودي، ومقابله الشعري الذي يولد ما يشبه حقلاً مغناطيسياً، مستمراً في التحول المعبر والمؤثر إلى حاضر يستعيد فيه أحلاماً من أولِ الضوءِ، فالقصيدة متدفقة كالنهر، والشاعر لا يكتفى بذلك، فيضمنها إشارات ورموزاً كثيرة، فعبر انتقالات شعرية مونتاجية مدهشة تنوب الإشارة في تشكيل الصورة الشعرية عن المعنى، فالمشهد في معناه البديع يزيل الفاصل بين الإشارة والمعنى، هكذا هي لغة الشاعر التي تحدثه وتخبرنا عن المعرفة وبعد ذلك التأويل: «تُحدّثني لُغتي/ وأنا الغريبُ، أستعيدُ أحلاماً من أولِ الضوءِ/ إلى آخرِ مُنحدرٍ في توابيتِ الأرضِ/ أستعيدُ لغةً لمْ تزلْ صاعدةً سُلم العَابِرينَ/ إلى وحشةِ المُدنْ/ أستعيدُ لغةً تأخُذُني/ إلى غوايةِ الحرفِ في فتنةِ الحجارةِ». ختامًا إن قراءة ديوان (سرد لعائلة القصيدة) يترك أثرًا كبيرًا في نفس المتلقي، ويعمِّق من تجربته الإنسانية من خلال ما تعرّض إليه الشاعر من الأمل والحزن والغربة والغياب. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 13-09-2024 08:55 مساء
الزوار: 131 التعليقات: 0
|