ترك حديث الكاتب الداغستاني رسول حمزاتوف عن مقدمات الكتب أثراً سلبياً في نفسي تجاه مقدمات طالما قفزت عنها، وبخاصة عندما أتذكرعبارة رسول أن المقدمة تشبه إلى حد بعيد رجلاً بديناً يجلس في الصف الأمامي في قاعة المسرح، ويضع على رأسه قبعة، فيحجب عنا الرؤية، يحجب الرؤية عن صفوف خلفية تتوق إلى مشاهدة العرض المسرحي، لكني روّضت نفسي للتحرر من قيد رسول استناداً إلى أن التعميم آفة، فربما تجلس فاتنة ممشوقة القوام في المقدمة بدلاً من ذلك البدين، وربما تزيد على العرض جمالاً وجلالاً، وهذا ما حدث لي عندما قرأت مقدمة كتاب صديقي الأستاذ الدكتور عبد الخالق عبد الله الذي يحمل عنوان «رحلتي إلى هارفارد: خواطر أكاديمي إماراتي»، وهي المقدمة التي كتبتها زوجته الدكتورة ريما الصبان.
قالت «أم خالد» في مستهل تقديمها للكتاب: أخذتني المفاجأة، وقلت بعد أن أنهيت قراءتي لمقدمتها: أخذتني المفاجأة. فاجأتني المقدمة وأبهرتني. كانت الكاتبة تتساءل: لماذا أنا؟ وكنت أتساءل: لماذا غيرك؟ لم أكن قادراً على التوقف عن قراءة المقدمة وقد نصبت هذه الكاتبة للقارئ أعواداً من «الدبق»، تلك الأعواد اللزجة المصنعة من ثمار الفاكهة التي كنا ننصبها فخاخاً لاصطياد العصافير على أغصان الشجر بعد صلاة الفجر، فهذه المقدمة لا تشبه المقدمات، وكان حرياً بصاحبتها أن تطلق عليها اسم: «بدلاً من المقدمة»؛ أدب شيق، ونص محرّض، وسردية جذابة، ولغة متماسكة، نص محلق متوثب، وخيال شفيف يطلق عنان المخيلة، واحتفاء بالمكان، واستعادة للتاريخ، وتبجيل للطبيعة، وفائض محبة، نص طلقت فيه الأكاديمية الأكاديميا وهي تتحدث عنها، ولكن طلاقها للأكاديميا رجعي يمكن لها أن تعيدها إلى حياتها بمفردة «أعدتُّكِ»، أو بقبلة على غلاف كتاب زوجها الأكاديمي، فالهدف من الطلاق هو التحرر من قيود الأكاديميا، وارتكاب فعل الجنون، ومنع الأكاديميا من التدخل في نص إبداعي مشوق جذاب، ولذلك قررت الكاتبة التحرر من قيود الكتابة التي تتبع المنهج العلمي، ومالت إلى فعل التشويق والتحليق في حضن الخيال في السرد، ولعب النرد بالأحرف والكلمات.
ويبدو أن الدكتورة ريما الصبان وهي تكتب ما أسميه «بدلاً من المقدمة» لكتاب زوجها، قد قررت أن تكون «ريما» بلا دال نقطة، وأن تكون الرفيقة في الرحلة والكتابة، والصديقة، والزوجة، وأن تكون «ريما» أكثر من «أم خالد»، فالمكان محفز لاستعادة علاقة شراكة ناجحة في الحياة عمرها أربعة عقود من الزمن ونيف، علاقة بدأت خيوطها تقطّب في أم ذلك المكان الذي تنقلت فيه بصحبة «عبد الخالق» قبل الدال نقطة، يوم كان فتى يخط أول سطر من سطور الهوى.
رافقت الدكتورة ريما الصبان لمدة أشهر إلى هارفارد زوجها في منحة تقديرية هي منحة «كبير الزملاء» دون أن تفكر في السعي للانضمام إلى كبار الأساتذة الزائرين في هارفارد، وكان بإمكانها أن تفعل، ويبدو أن عدستي الدكتورة ريما كانتا مقعرتين ومحدبتين في آن معاً، واستخدمت العين الثالثة عندما بدأت الكتابة في نص استرجع هارفرد، وبوسطن، ونيو هامبشير، وفيرمونت، وحملتها جبال الأباليشيان إلى سحر رمال الإمارات في صحرائها المدهشة.
مقدمة الكتاب دفق من الحب للخالق عز وجل، وعبد الخالق، وغزل بالطبيعة كأنها تتغزل بصوفية محدّثة في الإله الذي أبدع جمال هذه الطبيعة ومفاتنها، وكانت ترقص بالكلمات كما يرقص «الرومي» في جلسة صوفية، نص مترف بالجمال، عاشق ينصف المعشوق، ورقي وذكاء في انتقاء المفردات، وصياغة العبارات، نص يترك بحق في كل صفحة عبارة تقول: وهلمّ جرا».
قلت في عنوان هذه القراءة أنها «منحازة»، وفي الحب كما قال طاغور لا يسأل أحد لماذا، والحب هنا ممتد ومتجذر ومتعدد، الحب لكاتب هذا الكتاب الذي وظف رحلته إلى جامعة هارفارد لتتناول العلمي، والفكري، والحياتي، والوجداني، والوطني، وحب إلى شخصه كصديق وفي على مدى أكثر من عقدين من الزمان، وحب لقلمه الرشيق الوازن، وحب لأدب الرحلة الذي نتشارك شغفه، وحب لجمال المقدمة، وحب للإمارات التي نعيش على أرضها، مواطن، وعربي في حكم مواطن، وحب للنص الخرافة، وللفكرة التي جعلت من الخاطرة لوحة، ومن الأدب رحلة.
ولعل أدب الرحلة احتل مساحات سردية كبيرة عبر تاريخ العرب، ربما ابتداء من رحلة السيرافي بحراً إلى المحيط الهندي، والرحلة التي قام بها سلام ترجمان زمن الدولة العباسية لاستكشاف سد يأجوج ومأجوج في حصون جبال القوقاز، ورحلة البيروني في القرن الخامس الهجري، ورحلة بوزناس إلى بلاد الإغريق، ورحلة أبي حامد الغرناطي الأندلسي سنة 508 للميلاد إلى العالم الإسلامي، ورحلات ياقوت الحموي، والبغدادي، وابن بطوطة، وما كتبه مستشرقون ومبشرون ومكتشفون أجانب من أمثال الرحالة بيركهارت، والراهب دانيا، والقس فرانسيس أكزافير إلى سقطرى، وكذلك البرتغالي برثولوميوس دياش إلى أرخبيل سقطرى، أو رحلات طامعين مستعمرين من أمثال الاسكندر الثالث بن فيليب الثاني المقدوني إلى الشرق، أو رحلات حجيج إلى بيت الله الحرام كرحلة ابن بطوطة، ورحلة الباي أحمد؛ آخر بايات قسنطينة التي وثقها رسماً وهو في بدايات الصبا، ناهيك عن رحلات التنقل بين الأطلال في جزيرة العرب، ولكن هذه الرحلة الهارفاردية في أدب الرحلة مختلفة، قام بها بها الدكتور عبد الخالق عبد الله إلى هارفارد تعظيماً لقيمة العلم ودروب المعرفة في سياقات إنسانية شبهها صاحبها برحلة رفاعة الطهطاوي إلى باريس.
وعلى الرغم من أن النخاع الشوكي لرحلة الكاتب تصب في صلب الأكاديميا، إلا أنه استطاع أن يخرج من تلك العباءة، وكان قد خرج منها منذ أن تقاعد، ولم يكن كتابه هذا، الأول في أدب الرحلة، فقد كتب «آخر إماراتي في نيبال»، ولم يكن هذا هو كتابه الأول، فقد كتب «اعترافات أكاديمي متقاعد»، وكما كتب «لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر»، وغير ذلك عديد، لكن هذا الكتاب الهارفاردي استثنائي عندما يتم الحديث عن أدب الرحلة، لأنه مفهوم جديد للرحلة يجمع بين السرد الروائي، والوصف الجمالي الإبداعي للشخوص والأمكنة، ومخزن أو مصنع لاكتساب المعرفة، وتوثيقها، وتعميمها.
حوّل الدكتور عبد الخالق عبد الله رحلته الأكاديمية إلى «كوكتيل» من الخواطر، والخاطرة عنده أهم تجسيد لحرية القول والتفكير والتغيير، وجعل في كتابه لكل مفردة خاطرة، ولكل خاطرة حكاية، ولكن المفردة التي هي «لازمته» أينما حل وأينما يمم، مفردة «إماراتي»، مفردة ترافقه في منامه وصحوه، وفي حله وترحاله، دامغة ثابتة تحمل معها عبق الأرض، وتاريخها، وجغرافيتها، وسيداتها، وسادتها، وتجد أنه حتى في رحلته إلى نيبال، اختار وصفه بالإماراتي للحديث عن آخر رجل في نيبال، وتجد أنه عندما سئل في هارفارد عن المسمى الذي يفضل أن يكنى به خلال رحلته العلمية قال: «أكاديمي إماراتي في هارفارد»، ما يعني أن «أم خالد» ليست الوحيدة التي رافقته في الرحلة؛ كانوا ثلاثة: الإمارات، وعبد الخالق، وريما التي استدعت الإمارات في مقدمتها أيضاً.
لم يُبق الكاتب لا شاردة ولا واردة إلا ومال إليها أو مال عليها، سر تفوق هارفارد وحكايتها، وعلاقتها بالتفوق والإبداع، وعلاقتها بجامعات كولومبيا، وييل، وبراون، وبريستون، وستانفورد، وتحولها من جامعة دينية عنصرية لصالح الجنس البروتوستانتي الأنجلو *** وني، وإيمانها العتيق بتفوق الجنس الأبيض على الأسمر والأصفر والأسود، وضلوعها في يوم من أيامها السوداء في تجارة العبيد، إلى التكفير عن ذنوبها باستقطاب أهل إفريقيا، والصين، والهند، ودول آسيا، وإصدار قاموس لغوي جديد يشتمل على مفردات من لهجات إفريقية وأميركية أصبحت معتمدة على نطاق واسع، لتغدو جامعة علمانية حضارية حديثة متسامحة، ومنفتحة على الآخر.
وكان الدكتور عبد الخالق شفافاً ومتصالحاً مع ذاته، وصادقاً، ومتوازناً، ورقيقاً، وبخاصة عندما تحدث عن مساعدته الجميلة العشرينية «لورين» التي هي في حكم ابنة، يااه، كيف نسينا أننا كبرنا، نعم كبرنا، لكن هذا الكاتب المغامر الذي يهوى صعود الجبال والوصول إلى القمم، والذي يحب الحياة حتى التعب، هو مجرد شاب في الستينيات من العمر، وفي كل رحلة يقوم فيها المرء، يصغر سِنّه قليلاً، ويطول عمره.