بما أن الشاعر ترك قصيدته مفتوحة على الفضاء دون تسميتها فسأطلق عليها اسم (سوء استعمال)، ولعلّ أول ما يلفت انتباه القارئ أن الشاعر افتتح قصيدته بما جرت عليه عادة العرب في النثر، وليس في الشعر، فلم يجرِ على المعتاد في افتتاحيات القصائد، والتي غالبا ما تكون جملة إنشائية أو خبرية، ليشدّ انتباهنا منذ مفتتح المطلع باسم إشارة (هذا ) قام مقام (أما بعد)، وكأنّه يقول: «إنّ ثمّةَ كلاما كثيرا في البال، سأضرب عنه صفحا وأبدا من هنا، من حيث أيقنتُ أنني لم أعد أخشى خسارة شيء في هذا الوجود، فقد دفعت ثمن مخيلتي وآمالي جمرا أحترق به وحدي»: هذا.. وقد أمّنْتُ بعضَ خيالي وقبضْتُ جمرَ هدايتي وضلالي في كلّ يومٍ ما يؤكّدُ أنّني ناجٍ ولكنْ دونَ أيِّ قتالِ نحن إزاء قصيدة من الطراز الأول، تدفع المتلقي إلى إعادة قراءتها مرة بعد مرة لعله يستطيع أن يدرك الإرهاصات النفسية التي دفعت الشاعر إلى فتح هذه الصفحة من دفتره على الملأ، ليرسم صورة واضحة لنفسه وما تحمله من طموحات وآمال، لم يستطع أن يحقق منها ما يصبو إليه، فكان كحاطب ليل، يعود من رحلته بخفّيّ حنين: حاولْتُ لكنّي مللْتُ من التّجاربِ واستعنْتُ عليَّ بالإهمالِ وقضيتُ طولَ العمرِ أحفرُ حفرةً للحبّ والأشواقِ والآمالِ حتّى وقعْتُ بها وما حولي سوى همٍّ يُشيرُ إلى كسوفِ الحالِ يكشف الشاعر صراحة عن أنه وقع في الحفرة التي حفرها فلَحِقه ما كان يحذر، وكان يريد أن يدفن آماله وأحزانه وأشعاره، فكانت النتيجة معاكسة تماما له، فجرت المقادير بما لا يشتهي. ويحملنا الشاعر في رحلته نحو المكاشفة بكل شفافية ليبوح لنا بما يعتمل في نفسه من أسئلة ما تزال تبحث عن جواب، ومن أحزان تلازمه كأنها ظلُّه وتميمته التي لا تفارقه، وكذلك قصائده التي تنزل منه منزلة الطفل اليتيم من أمِّه التي وجدت نفسه «تعافر» في هذه الحياة وحدها لتؤديه حقه: لعلامةِ التّرقيمِ أحفرُ حفرةً أرتاحُ منها بعدَ كلِّ سؤالِ للحزنِ حيث يصيرُ ظِلّي كلّما حلّتْ عليّ مشيئةُ الأنذالِ لقصائدي، أبكي عليها مثلما أمّ على أيتامِها الأطفالِ وتسيطر على الشاعر خيبة أمل كبيرة، حين يكتشف أن توقعاته جاءت كلها معاكسة، فوجد نفسه حقيقة عاجزا عن تحقيق تطلعاته وآماله لنيل حياة يستغني فيها وينال ما يريد أو ما يرى أنه يستحقّه، فإذا بالأبواب تغلق في وجهه ويعاكسه الحظُّ تماما، فتزيد غربته داخل وطنه وبين أهله: لتوقُّعي أنّ الحياةَ كريمةٌ أنّ الذي أَبقيتُ قد يبقى لي لتوسُّلي للبابِ حينَ يصدُّني للحظّ حينَ يدورُ في الأقفالِ بعد ذلك يقرُّ الشاعر صراحةً، ويعترف بأنه لم يكن يرجو من الدنيا أن تفتح لها ذراعيها، وأنه على يقين مسبق بانه سيعود منها خالي الوفاض، وسيُنسى حين يتركها كما نُسي غيره، لذلك يكتب وصيته بأن يمرّ من هذه الحياة مرورا سهلا، ويُقلقه في ذلك الذين سيعانون من فقده، ويتألمون لرحيله: حقّي على الدّنيا وأعلمُ أنّني سأعودُ منها بالوِفاضِ الخالي ووصيّتي كانتْ - إذا ما قيلَ ماتَ - بأنْ تصيرَ جنازتي في البالِ ألّا أكلّفَهم ولو دمعًا على جسدي الهزيلِ التّالفِ البطّالِ ويسيطر الحزن على أبيات القصيدة، فتتكرر مفردة الحزن أربع مرات في الأبيات: مرّةً حين يريد أن يتخلص من أحزانه ويدفنها فلا يستطيع لذلك سبيلا، وثلاث مرات يكون فيها الحزن طقس حياةٍ اعتياديا يجب عليه أن يتأقلم معه باعتباره شاعرا،ـ وباعتبار الحزن إرث الشعراء ورأسمالهم، ولعل الشاعر هنا يُقرُّ بمتلازمة الحزن التي يتعايش معها كردّة فعل للتوتر الناجم عن الصراع بين الذات والوجود والواقع الناتج من الهموم الفردية والجماعية، حيث عبر عن الحزن بمفردات عديدة تراوحت بين «القتال، الإهمال، كسوف الحال، البكاء، التوسل، الجنازة، الدمع، الضياع» كل هذه دلالات ومعانٍ تبث الحزن في نفس الشاعر، وترسم الحالة الانفعالية التي تعتريه لحظة كتابة القصيدة، والتي لا يمكن أن نفصلها عن الواقع المَعيش، ولعلها كانت نتيجة حتمية لحالة التشظي التي يعيشها الشاعر في انقسامه بين ما يريد، وما هو كائن، والذي يعبر عنه صراحة طوال أبيات القصيدة، الأمر الذي دفعه في النهاية إلى التعايش مع هذا التشظي، واتخاذه نمط حياة، بما يشي بالتسليم المطلق للحال الواقعة ما دام لا يستطيع تغييرها إلى الأحسن فيجعل من الحزن ذخيرته وعتاده باعتباره رأس مال كل شاعر، في إشارة واضحة إلى أن الحزن يذكي جذوة الشعر، ويبعثه من مكامنه: كُلّي فداءُ الحزنِ، ليس الدّمعُ في إثْري سوى حِمْلٍ على الأحمالِ الحزنُ يجعلُني غنيًّا شاعرًا والحزنُ للشّعراءِ رأسُ المالِ وفي نهاية القصيدة نجد الشاعر لا يكتفي بالتعايش مع الحزن، بل امتلك من القوة ما يجعله مهيّأّ تماما لاستقباله وإكرام وفادته عليه، في ضرب عجيب للتصالح مع الذات والرضى المطلق والتسليم، بأنه لم يكن بالإمكان أكثر مما كان، مؤكدا أنه سيظل عصيًّا حرًّا أبيّاً، لا تنال منه الحياة، ولا يخضع لميزانها: ولأنّني ضيّعْتُ نفْسي مرّةً سأظلُّ طولَ الوقتِ في استقبالي وأقولُ: أحلو لي، ولو في خاطري أنّي كرهْتُ المنطقَ المُتعالي سأظلُّ رهنَ إشارتي حُرًّا بما أنّ الحياةَ أساءَتِ اسْتعْمالي وبالنظر إلى إيقاع القصيدة، فقد جاءت على وزن بحر الكامل وهو من البحور الصافية التي تجسِّد التناغم والتكامل الذي يسمح للشاعر بالتعبير عن مشاعره وأفكاره بطريقة جميلة ومتقنة، حيث يتناسب تتالي التفعيلة وزحافاتها مع الانفعالات النفسية أكثر من البحور الممزوجة، بحيث تتيح الكامل للشاعر البقاء على رتم واحد وإيقاع موحّد ليسهب أكثر في نفث ما يعتمل في نفسه من زفرات، وقد جاء هذا الإيقاع متناسبا أكثر مع الحزن الذي تبثه القصيدة هنا من خلال اختيار قافية اللام المكسورة، ومعلوم أنَ صوت اللام يدلّ على الأسى والحزن، وقد أشار حسن عباس في كتابه «خصائص الحروف ومعانيها» إلى أنّ حرف اللام كأقوى الحروف وأكثرها انتشارا هو (حرف مجهور متوسط الشدة) يمتلك دلالة صوتية إيحائية تفيد التماسك والالتصاق، مما يعني بالضرورة أن هناك التصاقا وثيقا للحالة الشعورية لمضمون معنى الجملة للمشكلة الأساسية والدافعة للنص، ومن هنا فقد كان اختيار قافية اللام المكسورة متناغما مع الحالة الشعورية للشاعر، أسهمت معها الكسرة على اللام في تمكين الشاعر من بثّ زفراته وتفريغ الشحنة العاطفية التي يعبر عنها من خلال إشباع اللام في نهاية كل بيت. وفيما يتعلق بالإيقاع الداخلي، فإلى جانب التكرار الواضح لحرف اللام في الأبيات على نحو يعكس اللاشعورية في غلبة الحزن على النص شكلا ومضمونا، في إيحاء واضح لحالة الأسى التي تتلبس الشاعر والتي فرضت عليه تكرار حرف اللام اكثر من أي حرف آخر، يلحظ القارئ اتكاء الشاعر في غير موضع من النص على المحسنات البديعية وبخاصة في توظيف الطباق في مطلع القصيدة، وما يليه، فيذكر الهداية والضلال، والنجاة والقتال، والمحاولة والملل، وكأنه يمهد الطريق من خلال ذكر الشيء وضدّه للإسهاب في وصف الحالة الشعورية، دليل ذلك اعتماده ضمير المتكلم على مدار القصيدة كاملة، وكثرة ورود الأفعال المسندة إلى تاء الفاعل (أمّنتُ، قبضتُ، حاولتُ قضيت، وقعتُ)، والانتقال بعدها إلى الفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم، للدلالة على الاستمراية وتصوير واقع للحال كما هو عليه وقت كتابة القصيدة: «أحفرُ، أبكي، أكلّف، أعود، أظلُّ، أقول»، هذا إلى جانب ورود عدد من المصادر المضافة إلى ياء المتكلم: «لقصائدي، لتوقُّعي، لتوسُّلي»، كإشارة واضحة وصريحة إلى أنّ حالة الحزن التي يعيشها الشاعر إنما هي لصيقة به، بدلالات متعددة ومتوقعة مسبقا، وبدليل قصائده التي تَبكيه ويَبكيها، بسبب الحظ العاثر «لو جاز لنا التعبير»، الذي لم تفلح معه التوسلات في أن يكون إلى جانبه ولو مرة حينما كان يطرق عتبة الحظّ الذي قابله بالصدود وغلَّق في وجهه الأبواب. وبالنظر إلى الأساليب اللغوية التي تظهر في النصّ، فقد سيطرت على أبيات القصيدة الجمل الخبرية منذ بدايتها حتى النهاية، بحيث لا توجد أي جملة إنشائية في النص كاملا، ونعلمُ تماما أن الجملة الخبرية «فعلية واسمية» - بخلاف الجملة الإنشائية - إنما تدلّ على أنّ المتكلّم يرمي إلى إثبات نسبة الفعل بحسب واقعها أو عدمه، دون النظر إلى مطابقة الحال وعدمها، فقد جاءت القصيدة على هيئة سردية ذاتية وسيرة شعرية صريحة رسمتها جمل خبرية تحمل فكرة واضحة وتريد إيصالها للمتلقي، كإخبار بواقع الحال، فيفتتح الشاعر القصيدة ببيان أنّه أمّن للدنيا لكنه قبض على الجمر إثر ذلك، وبأنه بالكاد استطاع النجاة من الوقوع في المهالك، وبأنه حاول كثيرا لكنه أصيب بالملل من كثرة المحاولات،
فاضطر إلى إهمال المحاولة من جديد، وأنه حين أراد أن يحفر حفرة يجمع فيها الحب والأشواق والآمال، فوجئ بأنَّه لم يجد في هذه الحفرة سوى الحزن والشعر ووخيبة الأمل. وعلى الرغم من أنّ معظم نصوص الشاعر تنطلق من تجربة واضحة وناضجة، وأنه يمتلك معجمه الخاص به، ومفرداته اللغوية وأساليبه البيانية التي تميزه عن سواه، وترسم صورته كشاعر متفرد يستقي مادة شعره من مخزون معرفي ولغوي خاص، إلّا أن هذه القصيدة جاءت أكثر قربا من نفس المتلقي، وتعالج حالة عامة تصيب المرء حين تضعه الدنيا في صراع مصيري بين ما يريد، وبين ما تفرضه عليه الظروف. جاءت القصيدة متفردة في معالجة الفكرة المطروقة، ساعدتها على ذلك مهارة الشاعر في تطويع المفردة اللغوية لتناسب المعنى المراد لتكون أقرب إلى نفس المتلقي، وأكثر تعبيرا عن الضورة العامة الأكثر شمولا والتي تنسحب على كثيرين ممن تعتريهم المشاعر ذاتها. *عضيب عضيبات: شاعر أردني، يعمل في مجال التعليم يحمل مؤهلا جامعيا في اللغة العربية وآدابها، صدر له ديوان شعر بعنوان «في بال البحر» ضمن سلسلة إبداعات عربية لعام 2024 الصادرة عن دائرة الثقافة بالشارقة.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 01-11-2024 09:08 مساء
الزوار: 74 التعليقات: 0