|
عرار: ((حين يتحول النص الروائي إلى نص آخر بقلم باحث ودارس ناقد. يعني أنه تخطى المدارس النقدية ليصبح ما يكتبه منهجا خاصا بحالة انصهاره بالنص الأصلي، فيكتب بصورة مغايرة عن النقدية التقليدية الخاضعة للمنهجية أكثر من خضوعها لحالة إبداعية. مع الدكتور وليد الزبيدي ورواية( أقصى الجنون الفراغُ يهذي) للشاعرة والكاتبة وفاء عبد الرزاق.)) التراسلية في رواية (أقصى الجنون الفراغ يهذي) المقدمـــــــــــــــــــة بسم الله الرحمن الرحيم نقدّم دراسةً لرواية أخرى من روايات الروائية العراقية(وفاء عبد الرزاق)وهي رواية: (أقصى الجنون الفراغ يهذي)، الصادرة عن دار كلمة-القاهرة، 2010م، منالنوع المتوسط، وبـ(247) صفحة، وتسلسل هذه الرواية بين الروايات المطبوعة برقم(4). وبعد قراءة الرواية، تم تقسيم البحث على مبحثين، الأول: دراسة عنوانالرواية، والراوي في الرواية،واسماء الراوية، وأسماء الحيوانات والحشرات فيالرواية، والرواية والتاريخ. واستقلّ المبحث الثاني بدراسة وتحليل الرسائل . آملأن أكون موفقاً بأوراقي هذه، وأن يكون البحث قد سلّطَ الضوء على بعض ما أبدعتهُالروائية، والله ولي التوفيق. د. وليد جاسم الزبيدي الأحد 27/ نيسان/ 2014م. العراق- المحاويل المبحث الأول - عنوان الرواية (أقصى الجنون الفراغ يهذي.) المُتابعُ والقاريء لروايات والمجاميع القصصية والشعرية للكاتبة والروائية العراقية وفاءعبد الرزاق، يجدُ أن جميع عناوين أصداراتها تولدُ من رحم النّص لا من خارجه، فكأنالعنوان يتبلور من خلال التصاعد الدرامي، والمنولوج الداخلي والخارجي للسرد بصورةٍطبيعية، فلم يكن العنوان بكل صوره وأشكالهِ موضوعاً من خارج النّص، أو عنواناًمتخيلاً، أو رمزياً يرمزُ الى محور أو المادة أو الموضوع، أو يولدُ ولادةً قيصريةيُفرضُ على النّص. وعلى هذا، نجد العنوان قد وُلدَ من داخل النّص-السّرد-، حيثُ تقول-ص: 222-223:(..مازالَ الليلُ صامتاً ومازلتُ أكتبُ لكَ..أتراني أكتبُ في الفراغ؟.). وفي –ص: 234- : (الشمسُ قُبّرةٌعمياءُ..بعثرت بقيّة الرسائل في الهواء وبيدي خرساء لا أعرفها. كان الوقتُ ظهراً،وكانتِ الرسائلُ تطفو في الشوارعِ والعقول، وعلى أجنّةِ النباتات وأجنّةِ الطيور،وكنتُ أنا أحلّقُ في هواء لا أعرفهُ وبأقصى الجنون والفراغُ يهذي. -الراوي في الرواية والراويهو واحدٌ من الأقنعةِ التي تستخدمه الروائيةُ،وهنا (الراوية) في هذه الرواية مننوع : الراوي العليم المشارك، فالراوي كلي العلم من داخل الرواية وخارجها، وفي هذاالنوع من الرواة يلتحمُ الراوي بالشخصية، وتكونُ صلتهُ بالمؤلف أكثر قرباً، حتىلكأنهُ يعبرُ عن صوته –أي صوت المؤلف- لا عن صوت الشخصية التي يلتبسُ بها.والسّردُ وأبنيتهُ في هذه الرواية يعتمدُ على السّرد التراسلي، المبني على الرسائلمنذ بداية الرواية وحتى نهايتها، وقد جمعتِ الروائيةُ في روايتها أكثر من راوية،فتعددّ الرواة وتعددّت الأصوات. - أسماء الراوية (ماذا لو عاشتْ ألفُ امرأةٍ بإمرأةٍ واحدة.). تعدّدتْ أسماءُ الراويةِ –البطلة- في صفحاتالسّرد، وتنوّعتْ مدلولاتُ التسميةِ، حسب المكان والزمان، وطبيعة العلاقات بينشخوص النّص، وسايكولوجية البطلة، وما يقتضيه الحدث وتصاعد الصوت أو خفوته، أو نوعالقناع المستخدم. وقد تنوّعت وتعدّدت الأسماء، كما وضعتها وأختارتها الروائية بمايخدم السّرد وحال الحدث وتاريخه: 1- في ص: 36: (..أسرعتُ في القول: اسمي زينب...–أخيراً نطقتِ يا زينب، لم أعرفْ أن اسمَكِ الجديد (زينب). 2- في ص: 76: ( .. في مراكش استلمتُ جوازاًآخرَ . راودَني الفضولُ هذه المرّة في تفحّصهِ.. كان اسمي مريم الكاظمي، ماري،وماري لا تدري أين زينب؟..وزينب بقيت في سوريا. 3- في ص:102: (.. أليسَ أسمي سكينة؟ كلٌ لهُقضيتُهُ وسفحهُ العميق، وألف كهف. كلنا يتمنى أميراً نتوجهُ بلا معاهدات أو خسارةأو تنازلات أو سلاح أو دماء. فعلي هو حسام وحسام محمد،وأحمد اسمهُ عبد الخالق،وأنا، لستُ أدري منْ أنا.. مريم، زينب، سكينة، وصال.). 4- في ص: 121: (..والآنَ تعدّدتِ الأسماءُوالموتُ واحد. مريم، زينب، سكينة، وصال.. وغداً منْ يدري سأغيرُ أسمي إلى ديانا،أو ماركريت منْ يدري.). 5- في ص: 202: (..أذكرُ أسمي أدوّنهُ في ذيلكلّ رسالةٍ، أسمي وصال وإذا لمْ يسمْني أهلي وصال هل سيبقى أسمي وصال؟ لأني بينَالحزنِ والحزنِ أصلُ إلى ما أرادتْهُ الحكوماتُ لنا..). 6- في ص: 237: (..احترتُ ماذا أسمّي الجسدَالذي يرافقُني، أجدهُ خارجَ الوصف لاتعرفهُ الأسماءُ كلُها، مجرّد رأس يجرّ أعضاءًمثقلةً، ماالذي عليّ فعلهُ ووصال مجردُ أسمٍ كانَ، اسمٌ فقدَ إطارَهُ ولوحةً لمتكتملْ..). 7- في ص: 238: (.. أغتسلُ بيومٍ مالح وأعودُالى داخلي، سُكيناتٌ تائهاتٌ يربطنَ سكينة بتائها المنفلتةِ .. ويمسحنَ الدّمَ منسكّينتِها.). 8- في ص: 239: ( ... أضعُ أقواساً لأسمي ((سُكينة))وأتأملُ عاماً جديداً.). ومنهذا نستشفُ أن المرأة-البطلة- التي أتخذت هيأة وصورة (الراوية) عن قصص وحكاياأرادتْ إيصالها للمتلقي بأسلوب أدبي ، يمثلُ واقعاً معاشاً قريباً ،بكل تفاصيله،وما لهذا الجسد الواحد، إلا أسماء مختلفة كأنها أفلاك تدور حول جسد واحد، ولكل اسممرحلتهُ وتاريخهُ وشخصيتهُ التي تمثلُ مكانه وزمانهُ وفكره أبان فترةٍ محدّدةٍ،ولم تكن هذه الأسماء بمعزلٍ عن عالمٍ يرتبط معها –بيئة- تؤثرُ بكل جبروتها وقمعها،بحسنها وقبحها، على هذا الكائن. - أسماء الحيوانات والحشرات في الروايــــة أستخدمتِ الروائيةُ أسماء وإشارات للحيوانات والحشرات، في وصف حالة، وفيبيان فكرةٍ أو رمزٍ لحالة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو تاريخية. وقد كثُرتِالأسماء وتعدّدت الأنواع في صفحات الرواية، وكان من أبرزِها: أولاً- الضفدع: يأخذُ الضفدعُ مساحةً واسعةًفي حوارات وإشارات الراوية بتنوعها، وماتلعبهُ من دورٍ في متابعة الأحداث بكلتفاصيلها، وما لهذا الضفدع من تأثير واضح في شخصية-البطلة- ومايلعبهُ من دورٍ يكادأن ينافسَ دور البطلة، لأنهم يقتحمُ ويُقحمُ في معظم الحوارات ليمثل صورة الظلموالتعسف والتلوّن والتشرذم في مرحلةٍ من المراحل، بل أنهُ يعيشُ ويسكنُ في دواخلالكائن شرطياً يعدّ أنفاسه ويتعبُ ظنونهُ قبل أفعاله. وقد وردت كلمة وصورة الضفدع فيمواضع شتّى من الرواية: 1- ص9: ..هل شعرتِ مرّةً ستصبحينَ ضفدعةً؟...كل مرّةٍ أرى ضفادعَ تتعقبني تدخلُ داري، تأكلُ معي، وتشربُ بنفسِ القدح الذيأشربُ بهِ... 2- ص10: ..بل جُنّ أكبرُ الضفادع وراحَ يبصقُعلى وجهي...ثمّ تأتي الضفادعُ تجرني بقوةٍ من الإطار، تشدني نحوها، وتأخذني الىلوحة الضفادع... 3- ص18:..وحمدتُ المطاعمَ التي تطهو لزبائنهاأفخاذَ الضفادع.. 4- ص 19: .. ألستُ منْ بصقَ بوجههاضفدع؟...نفثتِ القلاّمةُ ضفادعَ بألوان سود ورصاصية.... 5- ص 20:.. تتقافزُ أشكالُ جديدةٌ بهيئةِضفادع.. 6- ص27: ..لذا كلّما مسحني ضفدعٌ لزجٌ لجأتُالى القلم كي أحتمي بالكتابةِ إليكِ. 7- ص 48: كما لم أرتعبْ من احتمال وصولالضفادع لي... 8- ص 58: ..رأيتُ أحدَ عشرَ ضفدعاً يتهامسون.... 9- ص 59:..لكني صُدمتُ حينَ وجدتُ ضفدعةًبحجم الكلب متربع على الأريكة... 10- ص 70:...أحسستُ بطعم عصير الضفادع يملأفمي.... 11- ص 74: ..بيني وبينك جدتي أحدُ الضفادعالذي تربّعَ فوقَ رأسي كان مصاباً بالإسهال.. 12- ص 78: ..مرّةً أجدها ضفدعةً ومرّةًفارسة... 13- ص 95:... نهرتُ ضفدعاً كان يمارسُالعادةَ السّريّةَ تحتَ سُلّم الدار... 14- ص 185: ...لجأتُ الى حقيبتي المتواضعة،فتحتُها، فاضتْ منها أنهارُ ضفادع... ثانياً- الحيوانات البحرية: 1- السلاحف: - (ص:14): .. وأن الحلمَ رصاصةٌتتمدّدُ بخلايا أمرأةٍ لا يعرفها أحدٌ حبلى بالحروب وسلاحف تزحفُ وتتنزهُ بتنهيدةٍلافحة... -(ص:196): ..دخول الأطباء أحسّهُكالسلاحف... 2- الثعبان: - (ص: 13): ..وحدي اشعرُ بأنّدمي يلتفّ حولَ رقبتي كثعبان. -(ص: 85): ..مررتُ أصابعي على وجهي أتحسسهُ تذكرتُ أفعى مراكش.. 3-الفك المفترس: -(ص: 18): ...حتى التلفازعرضَ وقتها فيلم "الفك المفترس". 4- السمك: - (ص: 39):..سأدعوكَ على أكلةِسمكٍ نهري، سمك فراتي... -(ص:40):... أشترينا سمكةًنهرية.... 5- الحيتان: - (ص: ..مئذنةٌ افترشتِ الأرضُوصلّتْ، وحولها حيتان تعومُ في قنينةِ دواء وماء مغذٍ لايكسب الرّهان... ثالثاً- الماشية: - (ص: 14):...الأحلامُتطوفُ كأنها غنّام والآمال ماشية... -(ص: 20): ...أرى خرافاً مُساقةًللسّلخ.. رابعاً- العقرب: -(ص:18): ..هرعتُ إلى صحيفةٍمرميةٍ على الأرض أتصفحُ الأبراج، هي محاولة أخرى للهرب،لكن أوّل برج وقعتْ عينيعليه هو برج "العقرب". -(ص: 205): ...وهل يخافُ مطعونٌبالصدر لدغةَ عقرب؟.. خامساً- الكلب: -ص 18: ..-الخراب ألا تسمعُعواءَهُ؟.. -ص 70: ... الليالي جِراءٌ تنبحُ بتوَدّدٍ لوقتٍ تجاهلني.. -ص 77: ..ما أجمل الصدف يا أولادَ الكلب... -ص 208: ..هذا زمن العناكب ابن الكلب... سادساً- الطيور: - (ص: 11): ..يتتبعُ أثريويقفُ صامتاً يراقبُ الخسارةَ التي سأجنيها من بداية كأنها خفافيش ملتصقة ٌ بجلدي... - ص17: ...لكنّي فوجئتُ بعصفورمقلّمِ الجناحين.. - ص 37:...وأنا أحلمُ بحمامةٍبيضاء... - ص 209:..وباتَ الثراءُ المتسلقُ على أكتاف الآخرينَغراباً ينعقُ.. -ص 230: ..ورافقتني صغارُ الغربان وشاركتني أغانٍ ثقال.. - ص 213:...هرعتُ كحمامةٍ تشدّ جناحيها بحجر.. - ص 227:..أشبهُ بطير خبّأ جناحيهِفي صدرهِ.. -ص 236: ..يمرّ السّكارى كأسرابِطيور فقدتْ أجنتها... :...ألهو مع الطيورِالتي تملأ المقاعدَ... سابعاً- الثعالب: -ص 19: أمسكُ بالليلِ،تخرجُ لي الثعالبُ.. ثامناً- القطة: - ص 44: نطّتْ على السّطحِقطةٌ بيضاءُ شاردة.. :...جميلةٌ هذهالقطةُ أحسدُها لأنها لا تعرف الثقافةَ ولا السياسية.. تاسعاً- الخنازير: -ص 58: ..ما أنتم سوىمخلّفات خنازير.. عاشراً- الحمار:- ص 86:..أدركتُ لماذا ينهقُالحمارُ بصوتٍ عالٍ...لو أن الحمير العربية كلها سألتْ بصوتٍ واحد.... -ص 124:..لكن هذه معونةٌ حقيرةٌيا سيّدي نسبةً لغلاء بريطانيا، فهي لاتكفي علف حمار... حادي عشر- الحشرات: - ص 137: ..لاحَ لي صرصاروسرب صغير من الحشرات.. -ص 230:..جعلنيالسكونُ أصغي لدبيب حشرةٍ ... الرواية والتاريخ القاريءُ المتأني والمتابعُ يجدُ أن التاريخَوُلدَ من رحمِ الرواية، فقبل كل فنونِ السّرد المختلفة والنثر، وُلدتِ الروايةُ،فقد كانت بداياتُها، مع رواةِ الحديث النبوي الشريف، ينقولون لنا بسلسلةٍ منالأسماء التي يستقصون تأريخها ومدى صدقها أو كذبها –الجرح والتعديل- ، ومدى كونهاقريبة أو بعيدة عن فترة أو حقبة الحديث،ثم أستمرتِ الروايةُ والرواةُ في سردِتاريخنا العربي الإسلامي، فانتهج المؤرخون الأوائل(الطبري-ابن خليفة-ابن كثير-...)الإعتماد على الرواية وسلسلتها في تثبيت الحدث أو الحادثة، وهكذا..وعلاقة التاريخبالرواية مرهونةٌ ببُعدٍ تاريخي متغيّرٍ، وتدخلُ فيهما استخدامات مشتركة منها،التقاليد والسرد والأشارية، ومدى تدخّلُ الذات في بعض النصوص وأيديولوجية الراوي. أمّا (أرسطو)فهو يفصلُ بين القصّ والتاريخ، حيثُ يضعُ القصّ في المنزلةِ الأعلى، وأمّا كتابةالتاريخ فيصفها بأنها محدودة بالمؤقت والخاص.كما يضيفُ (أرسطو): إنّ المؤرخَلايستطيع أن يخرجَ عن رواية الأحداث الفعلية من تفاصيل الماضي، أمّا الأدب فلهُ أنيروي كل مايمكنُ أو يُحتملُ أن يحدث. وبذلك فأن مجال الأدب أرحب، ولأن الأديبَ غيرمقيّد بالتتابع الخطي للكتابة التاريخية فإن حبكتهُ قد تتبعُ وحدات مختلفة. أمّا الرواية في عصر ما بعد الحداثة، فهي عملية ثقافية تبني قيماً جديداًوتهدّم أخرى، فهي تستخدمُ الأبنية والقيم التي تهاجمها وتعمل على دحضها، وأن منأحدى مهام الكاتب –مابعد الحداثة- مواجهته لكل تناقضات التمثيل التاريخي، القصصي،والخاص/العام، والماضي/ الحاضر. وتعتمدُ الروايةُ في انتخاب وترتيب الأحداثوإضافةِ وحذفِ شخوص، والتخييل، بهدف بث الحياة في الهياكل التاريخية. وفيما يخص أشاراتهالرموز تاريخية (مردوخ-شهرزاد-الحجّاج..) ، وتتضمن حوادث لها قيمة تاريخية، وتضيفُالروائية حوادث تاريخية معاصرة لزمنها لهاقيمة تاريخية بيدَ أنها لم تدوّنْ سابقاً. وقدحفلت رواية (أقصى الجنون الفراغ يهذي) برموز تاريخية تمتدُ لعصر سومر، فالعصر الأسلامي،ثم تصلُ التاريخ المعاصر لتؤرخَ بصورةٍ ذاتيةٍ لأحداثٍ عاشتها الروائية بنفسها أوعن طريق مرويات مختلفةٍ لأماكن أصبحت مسرحاً للأحداث ، قريبةً أو بعيدةً، لتسجلَتاريخاً بعيداً عن تواريخ المؤرخين، أو ما يسطّرهُ كُتّاب أو –وعّاظ السلاطين- ،بصورةٍ معاشةٍ مع الواقع مع ألم وحزن وموت العامّة، فهي لم تتحدثْ عن منجزاتالحُكّام والصحابة، أو -انتصاراتهم- المزعومة، ولم تضع نياشين على صدور القتلة أوتطعنُ منْ طعنهم أو حرّضَ على تجريمهم الوالي. وتستطيع أن تؤشرَ ذلكَ من خلالحوارات كثيرةٍ وصفحات تمتدّ بامتداد التاريخ نفسهِ: أولاً- تاريخ القضية الفلسطينية: 1- في ص: 36: (..هل شعرتَ يوماً بأنكَ تجلسُفي مزبلة؟ وإلا ما سبب تفوّق اسرائيل..). 2- في ص: 37: (..نحنُ طبلُ الفتوحاتوالصرخات العاقر....هتلر هجّرَ اليهود من أوربا، ونحنُ العرب نسجدُ لهم...). 3- ص:37: (...منذُ أن كنتُ طفلةً وأنا أحلمُبحمامةٍ بيضاءَ تحلّقُ فوقَ سمائي، أن أزورَ عمّان وسوريا ومصر دون أن أحجزَ فيالمطار...). ثانياً -موقف التاريخ من المرأة: 1- في ص 61- 62: (.. والذين كتبوا التاريخذكور، وأصحاب السياسة ذكور، والذين جعلوا العصمةَ بأيديهم ذكور، والذي أخترعَالقنبلة ذكر، والذي اخترعَ زواج المتعو والمسيار ذكر..). ثالثاَ- ثورة الحسين(ع): 1- في ص:36: (..وكم حسيناً قُطعَ رأسه؟ كلنازينب وكلنا أسرى بساتيننا...). 2- في ص: 80: (.. ورأس الحسين يرقص مذبوحاًوالذنوب ترقص على السياط والدم الأحمريرقص على السيوف..). رابعاً- تاريخ المدينة –العراق: 1- في ص : 100: (.. يامدينتنا المقدّسة، نحنُمذبحك.. يا حبيبة (مردوخ)... خامساً- حادثة اغتيال رئيس: 1- في ص 137: (...واشتراكهِ في محاولة أغتيالالرئيس، وأحاديثه الحسينية..). سادساً- حرب الخليج الأولى-مع أيران-: 1- ص: 143/144/ 145.. سابعاً- حرب الخليج الثانية- غزو الكويت-: فيالصفحات: 160/ 161. ثامناً- تاريخ العراق –بعد التغيير-: فيالصفحات:179/ 180/ 190/ 205. المبحث الثاني الرسائل في رواية (أقصى الجنون الفراغُ يهذي) تتنوّعأشكال وصيغ وأساليب الرسائل في الرواية، من حيثُ اللغة، والصيغة ، والأسلوب،والموضوع،..بتنوّع: الحدث، المكان، الزمان، الشخصية. -ففي اللغة: نجد مع كل رسالة استخدام مختلفلصيغة الضمير، فمرةً صيغة المتكلم(أنا)،والمخاطب(أنت)، والمتكلمين(نحن)، والمخاطبين(أنتم)، وأحياناً أخرى المخاطب الغائب (هو،هي..)..وهكذا..ويتناثرُ الشعر في غُرّةِ كل فصل من فصول الرواية، وتسترخي الشعريةُعلى بساطِ السّرد. تتّسعُ الروايةُ هذهِ، لأنماط متعدّدةٍ مناللغات واللهجات، ويختلطُ السّردُ في الخطاب الفلسفي والفكري. ومفهوم الشعرية فيالروايةمختلفٌ عن فروعها في فنون الأدب الأخرى، فنقّادُ الرواية يقصدون بشعريةالرواية مافيها من الصياغة المتخيّلة التي تحيلُ الحكاية من خبر، أو مجموعة أخبارتُحكى، وتُروى، الى عملٍ أدبي يخضعُ لقوانين تتعلقُ بطرائق ترتيب الحوادث، وتوظيفالأشخاص، واستثارة الحوافز، ووصف المكان، واستخدام الزمن، والمنظور والراوي.. -في الزمان والمكان: نجدُ هناك زمان تعاقبيتراتبي مبني على هيكلية هندسية دقيقة بين رسالةٍ وأخرى، تتناغمُ مع ظلال المكان،والشخصية، والحالة النفسية للراوي في الرواية. وكذلك يرمي المكان ظلاله علىالرسالة والنّص في اختيار المفردة والصورة المناسبة، بما يتوائم مع أقنعة الراويوتعدّد اصواته، واسلوب السّرد. -أنواع الرسائل في الرواية: تتشكلُالرسائلُ وتنتظمُ في الرواية بموضوعية الحدث والمكان، وباتقان هندسة عوالم الروايةوتعدد ألوانها وعلاقات الراوي والمروي له/لها، ضمن أسلوب متقن من نماذج الروايةالتراسلية، وحالات التذكير والتذكر التي تتصاعدُ أو تنخفضُ مع روح المونولوجالداخلي للسرد وتقلبات صور الماضي والحاضر والمستقبل. تنقسمُ رسائل الرواية على ثلاثة أقسام: أولاً/ رسائل الراوية الأولى (سكينة-مريم-وصال..): وهي الموجّهة الى الجدّة في معظمها. وعدد رسائل الأولى في الرواية بلغت :تسعة عشر رسالةً. ونوع هذا الرسائل: تتحدثُ عن الحاضر والمستقبل وعن يومياتها وحسبنوعية المكان الذي تنتقل اليه، فهي رسائل الغربة والهجرة. ثانياً/ رسائل الأخرى( الظل-رفيقة الليل- رفيقتي-المرافق الوهمي..): وهي الرسائل الموجّهة الى الأولى ويكون خطابها ابتداءاً:(سيّدتي الحزينة). ومؤشرة بعلامتين، وقد بلغت: ستّ رسائل. وهي رسائل تولدُ منالذاكرة تتحدثُ فيه الأخرى عن الماضي بكل تفاصيله يشوبها الحنين والألم وتمس شغافالقلب، فيها الحنين للمكان الأول وللعلاقات الجميلة، والمدينة –البصرة- التي تشكلالنسغ الصاعد في النّص، وتسجيل تاريخي للحروب وصور الدمار والحصار والموت بأشكاله. ثالثاً/ رسائل داخل رسائل الراوية الأولى :كما عهدنا أسلوب الروائية في تداخل الحكايا والاستطراد، حكاية تولد من بطن حكاية،أعتمدت نفس الأسلوب في كتابة الرسائل، حيثُ نجدُ ولادة رسالة من رحمِ رسالة، هيرسائل وشفرات موجزة. فهناك رسائل كتبتها (سكينة) في مرحلة مراهقتها –رسائل الغرام-وأودعتها كتاب التاريخ..وهناك رسائل بدأتْ تسجّل فيها حياتها اليومية بعدالزواج،تدوّنها صباح كل يوم. وهناك رسائل بلا عنوان تبدأها بكلمة: (سيّدي) دون أن تعنيشخص محدّد بذاته. وهناك رسائل موجّهة الى زوجها (محمود) والدكتور (وحيد)..وضمنالرسائل نجد بعض الرسائل الجوابية من الجدّة(جدّة الجدّات) الإمتداد الذي لا ينتهيمنذ شبعاد سومر. -تحليل رسائل [الأولى] : يتشكلُأسلوب الروائية في كتابة رسائل الراوية الأولى بالقصدية وتوجيهها الى الجدّة،اسلوب فيه من الرّقةِ والحنين، فهي تلجأ الى جدتها لأنها الرصيفُ العاصمُ منالخوف. يمتدّ هذا الحنين والخوف على مسار: - الرسائل الخمس الأولى: رسائل اللجوء لرصيف الأمان. الراويةُ [الأولى] لم تستطع الإنفصال عمّاتركتْهُ، يعيش بكيانها، وصورة جدّة الجدات هي الصورة المثلى والقدوة في حياتها،منها تستوحي العزم والقوة، والماضي الذي يسكنها هو أرحم من المستقبل المجهول الذيلا تعرف كنهه. طريقها خوفٌ وعلامات استفهام تتفجرُ مع كل خطوة، ويظل الآخر أو الظل[الأخرى] يتلبسها يتخفّى بين ضلوعها، بل تتشابكُ خطواتُهُ بخطواتها وتختلطُأنفاسُهُ بأنفاسها.. حديثها مع جدّتها حديثُ النّفسِ للنفسِ، الروحِ للروح.فتطمأنها (جدّة الجدات) بين الحين والآخر، وتخبرُها أنها تعرفُ بوجود شيء غير عادييرافقها ويتتبعُها. فيهذه الرسائل الخمس الأولى هي وصف لحالات نفسية وألم عمّا تعانيه في مكانها الأول،مكان الخوف والكبت والملاحقة.ورؤية أشكال بهيئة ضفادع تلاحقها، وتنتشر في ملابسهاوفراشها، وكل زاوية تدخلها، وترى خرافاً مُساقةً للسلخ.. وحكايا عن وصولها (سوريا)ومغامرات البحث والوصول الى مبتغاها بمساعدة صديق عراقي قديم (عباس). تظل في صورالغربة المخيفة تعتصمُ بصورة جدتها، وتطلبُ من الظهور ولو لمرة واحدة، جدتها هيهيئتها الأولى وهي أمانها لأن الجدّات لهن رائحة الخبز الطازج، وهنّ الشجرةُالقوية التي يلجأ ويحتمي بها الآخرون. وهنا في هذه المكان في (سوريا)، ولقربها منمكان السيدة (زينب)، تتخذ الراوية الأولى اسماً جديداً لها يتوافق مع المكانوالمجتمع ليكون اسمها (زينب)، هذا الأسم الذي يظل معها طيلة وجدها في سوريا، ويسجلاسمها(زينب) في جواز سفرها الجديد الذي تحصل عليه بمساعدة (عباس) واصدقائه الذينيتعرفون عليها من خلال اللقاءات مع المثقفين بمختلف ابداعاتهم. -الرسالة السادسة (ص:58): رسالة القلمالجديد. فيهذه الرسالة تطالُها الظنون، والتهيّئات، فلم تبدأ بكلمة جدتي أو بأي رمزٍ لها فيبداية الرسالة لعدة مسببات وموجبات: 1- أنها تذكر انشغالها بالضفادع (رايتُ أحدَعشرَ ضفدعاً يتهامسون...)، ثم لم تبدأ بالكلام عن جدتها لمسألة أخرى. 2- أن (جدّة الجدّات) كانت حاضرة معها، أنهافاجأتها عند باب الدار وخلّصتها من الضفادع حيث وجدتهم مخنوقين بحبل من نايلون.. 3- حضور [الظل- الأخرى] حيث تتحولُ من هاجسداخل الراوية[الأولى] الى واقع وعيان تتحرك وتتكلم وتتحكم. تأخرت الراوية [الأولى-زينب] في كتابة الرسالة السابعةلظهور [الأخرى] بصورة أقوى على مسرح الأحداث في تصاعد الحدث الدراماتيكي داخلمنولوج الرواية الداخلي. وقد أكّدتِ الراويةُ الأولى ذلك (ص:59): (..لم أتصور أن تصلَ بها الوقاحة لخطفِ القلم من يدي، فيمحاولة واهية مني حاولتُ أفلات يدي من قبضتها شددتُ بقوةٍ على أصبعها لكنها كسرتالقلم.). إن كسرَ القلمِ يعني أن تكونَ بدايةً أخرى، أن يكونَ هناك قلمٌ جديد آخر،يكتب بلغةٍ أخرى بعد ست رسائلٍ مضتْ. ويكون هناك اتجاهٌ آخر في السرد وفي تغييراتجاه الأحداث وإضاءة جوانب أخرى. ماتزال [الأخرى] شكلها الهلامي غير المعروف تصارعُ ذات[الأولى] تدخلها كنوباتالصّرع، كنوباتِ الجنون، تجعلها في حالةٍ من الإختلال في التوازن وعدم اتساقالمنولوج ظاهراً..فتقولُ الراوية الأولى في رسالتها السادسة: (..لا أعرفُ منْ أنا،القلقُ يتحدثُ بمجانيةٍ معي. كدتُ اسمعهُ يخاطبني أمامي، فركتُ عينيّ وفتحتهما،شعرتُ بشيءٍ بعمودي الفقري بعدها سمعتُ خشخةً بأضلاعي ، كأنها في ريح.). -الرسالة السابعة (68) : رسالة الرحلةالثانية. فيهذه الرسالة بعد حصول [الأولى-زينب] على جواز السفر، توجهتْ الى المطار، وركوبالطائرة للتوجه ، في رحلةٍ أخرى من سوريا، نحو المغرب. وتظل عملية اجترار ذكرياتها. ورسالتها موجّهة ومعنونة الى جدتها –ص 68- : 1- (أتدرين جدّتي أنكِ تشبهينَ الشجرةَالكبيرةَ التي في الجهةِ المقابلةِ لبيتي؟.). 2- (ص: 69: كنتُ فعلاً بحاجةٍ الى الاحتضانخاصةً حين يأتي من شجرةٍ تشبهكِ. ). 3- التعبير عن تحليق الطائرة والتوجه الىمكان آخر: ( ص:70: طيور الصمتِ تحلّقُ فوقَ رأسي، ربما أختلاط الأيام بالساعات، أوربما أرتجي خطوتين نحو السفر..). 4- (ص:71: منْ منّا حلمُ الآخر؟ منْ ودّعتْهُالطيورُ أو ودّعها؟..). 5- (ص: 71: أسندتُ رأسي الى الشبّاك، فمرّتسماءُ البصرة، الطيارات الورقية وعيون النخل الخضر...). -الرسالةالثامنة (ص:74) : رسالة الإسم الجديد- السيناريو الجديد. - في هذه الرسالة يكون التحوّل المكاني، حيث يكونالمكان الجديد: المغرب، والتحوّل والتغيير في اسم الراوية ليتحول من (زينب) الى (مريم الكاظمي).وايداعها الماضي بيد (عباس) حيثجواز السفر العراقي، وحصولها بمساعدة بعض الأصدقاء على الجواز السفر المغربيالجديد بالإسم الجديد. وصورة الإغتراب الجديد الذي تفصحُ عنه في –ص:76-: (..فيمراكش استلمتُ جوازاً آخر. راودني الفضول هذه المرة في تفحصهِ.. كان اسمي مريمالكاظمي، ماري، وماري لا تدري أينَ زينب؟ .. وزينبُ بقيتْ في سوريا..). هكذا تزهرُأسماء وتسقطُ أسماء كما هي أوراق الخريف. وتظل في الذاكرة البصرةُ، النخلةُ، عباس - وفيزمان ومكان الورقة-الرسالة-(الثامنة)،تعلنُ (مريم الكاظمي) وصول رسالة من جدتها،وهنا ولادةُ رسالة من رحم رسالة، رسالة الجدّةِ تعلنُ فيها: وجود أثر لـ(الجدّة) في المتحف البريطاني، وكذلك وجود نوع من التجاذب بينالجدات والحفيدات، ويعني طبيعة العلاقة الحميمية وكون (جدّة الجدات) هي الرمز وهيالتاريخ، وهي العلامة المضيئة، وهي البوصلة الحقيقية التي تشير الى الطريق الصحيح. -في هذه الرسالة تحدّدُ الراوية الأولى-مريمالكاظمي- طريقة وكيفية التعامل مع السيناريو الجديد. ويعني التكيّف مع الأماكنوالأسماء والأجواء، ويكون لها صوت آخر يختلف عن سيناريو (سوريا)،وسيناريو(البصرة)، وهكذا تعي –مريم أو ماري الكاظمي- طبيعة وضعها الجديد مكانياونفسيا، وثقافة وهوية التحوّل. -الرسالة التاسعة( ص: 82): رسالة فلسفة الذاتالجديدة. -فيهذه الرسالةِ تتضحُ الصورةُ الجديدةُ للمكان، حيثُ(لندن)، حرق ما لهُ صلة بقبل(لندن)، وأعني جواز السفر في مطار لندن،وطلب اللجوء ، وهي الحالة العالميةالمتداولة، حيثُ وصول نساء ورجال وأطفال من دول شتى، تختلفُ فيها صور وفنون القتلالبشري، ومصادرة الحريات والأفكار، يتنوّع المكان بتنوّع هذه الثقافات،واللغات(الأفريقية، ايرانية، كردية، باكستانية، أرمينية، جيكية،..) واللهجاتالعربية(لبنانية،سورية،عراقية،مغربية..). يصبح مكان تجمع الاجئين مجتمعاً محتدمبالإختلاف والتناقض أحياناً. -ومن هنا يتغيّرُ وقعُ [الظل-الأخرى] ، منإحساس داخلي، الى التمظهرِ والتشكل، يتعقبها الظلّ ويطاردُها: (ص: 90) شاهدتُهُواقفاً وقتَ فتحتُ البابَ، لم أعرفْهُ في البدايةِ لكن حينَ خطفَ بخفةِ الرّيحِواختفى عرفتُهُ أنهُ الذي يتتبعُ أثري في كل وجهاتي..). وتصبحُ العلاقةُ مع الظلّأكثر قرباً ويبدأ معها الإستئناس، وتبدأ مرحلة مغادرة الخوف من الظل الذي كانجاثماً قلقاً وألماً يوسوسُ في صدرها. بل ويبدأ الظلّ هنا في هذه الرسالةِيشاركُها حياتها: (-ص 91- .. في الحمّامِ ذاتهُ دخلتْ امرأةٌ لا أعرفُها، ناولتنيالفوطة ولاطفتْ عنقي بماءٍ ساخنٍ، ناقلةً قدميها من دفةٍ الى أخرى كأنها شجرةٌتغتصبُ فاستسلمت للبكاء. وبعد أن أزاحتِ الصابونَ عن وجهي رشقني صهيلها وشدّتْ منأزري...). إذن بعد الخوف والتخوّف من الظل [الأخرى]أصبح يشدّ من أزرها، ودخلت مرحلة المؤانسة والتصالح مع الآخر. -(ص: 92): (أنا وهي والحائطُ والسريرُوالخزانةُ، تجاوزنا كلّ شعور يسمّرُنا في مكاننا وضحكنا لبعضنا، وقتها سألتني: -هل أنا أتبعُكِ أمْ أنتِ؟). سؤالٌ في التداخل والإشكالية في التعامل . -الرسالة العاشرة (ص:94): رسالة الشفاء. فيهذه الرسالة شعور بالإقتراب أكثر من الجدة، يصل الى حد دخول الجدة واختراقها لجسد[الأولى- وصال-سكينة]، وكأن روحها تحلّ بجسدها، وهذا الشعور متأتي من وجودهابـ(لندن) حيثُ قريباً من المتحف البريطاني، وهي موجودة هناك. وتعزّزُ ذلك بقولها: -(ص:94): -ستقتربين أكثر منّي....ومازلتُ أوجهُ وجهتي صوبكِ، حتى بكاءكِ اتخذتهُتراتيلَ لي.. - ...كنتُ بينَ الحلمِ واليقظة،تقلبتْ جمرةٌفي صدري شقّتْهُ نصفين، هبطتْ روحُكِ عليّ من السّقف، بابهامِكِ أوسعتِ من شقصدري.... فجأةً شُفيتُ من كلّ شيء. - (ص:95): ...أدخلي عاشرَ أوراقيوانتشليني.... نحسّ ونلمسُ مدى التقارب الكلي، والإنغماس الروحي في ذات (الجدّة)، بلتتعايش مع روح أبيها وشمّتْ رائحة أمّها، وتصرّحُ أنها [الأولى] سيّدة المسلاّتحضور التاريخ بكل عنفوانه وبهجته، وتحضرُ معها وفيها بل تسكنُها مدينتها المقدّسة،حبيبة (مردوخ)، أنهُ الحنين الى الأرض الأم (البصرة). المشاركةبلعبة تغيير الأسماء، فبعد أن تعلن أن اسمها (وصال)، تعود لإسمها السابق(سكينة)فالكل خائف هنا من الآخر، أتوا من كل الجهات، فلا يعطي الرجل أو المرأة اسمهالحقيقي فالخوف يتلبس الجميع حتى ولو كانوا في (لندن). تقول الراوية [الأولى]: -ص102- ( .. يتصوّرُ كل شخص عدواً. نهربُ من بعضنافي الداخل ، ونخافُ عيوننا وأنفاسنا في الخارج...الجميع يكذب.... أليسَ اسميسكينة؟ .. فعلي هو حسام وحسام محمد، وأحمد اسمه عبد الخالق، وأنا لستُ أدري منْأنا... مريم ، زينب، سكينة، وصال.). هكذا فهي إشارةٌ ، في الأماكن المختلفة، والمتنوعة، تتكرّرُ الوجوهُ ولكنتختلفُ الأسماء والمسميات. -الرسالة الحادية عشرة (ص:106): رسالةالتحوّل. ابتداءً من هذه الرسالة تتغيّرُ اتجاهات الرواية والنّص، وهناك تبادلٌللإدوار في طبيعة وأسلوب التراسل والمخاطبة، واللغة والضمائر، حيث تبدأ الروائيةُبكسر حاجز رتابة المسار الأول الذي وضعتهُ في تصاعد وحدّة الحوار (الخارجي –الداخلي). -فيهذه الورقة –الرسالة- تتعرّفُ الأولى على رفيقة ليلها ونهارها، على [الأخرى]فتجدها أنثى مثلها، وتتجسدُ أمامها لتشاركها حياتها ولتبدأ حياةً من المصالحة ورسمخطوط للعلاقة الجديدة. وهذه الرسالة الحادية عشرة تشهدُ غياب (الجدّة) ،.. فتقولُالأولى(سكينة)-ص 107-: (...سقطَ القلمُ من يدي كجرّةِ فخارٍ تكسّرت كلماتها...ثمّمنْ أنتِ؟ كأني رأيتُكِ تمرقين كخيال.. أنتِ أنثى إذاً لستِ رجلاً؟). -ثم تبادرُها[الأخرى] في السؤال: (أنا الرّنينُ الذي يلاحقُ بعضهُ، هل تسمحينَ لي أن أدخلَطقسَ كتابتكِ؟). منهنا يتبدّلُ ويتحوّلُ مسار الأحداث وتقاسم الأدوار بين [الأولى] و[الأخرى]،فالأولى تكتبُ وتحكي عن نفسها وعن الأخرى، و[الأخرى] تحكي عن [الأولى].هذا المسارالجديد، حسب اتفاق الطرفين، وستغيب الجدّة، لأنها في المتحف . وستضعُ [الراويةالأولى] علامة واحدة في بداية كل رسالة من رسائلها، وتضع علامتين لبداية كل رسالةمن رسائل [الراوية الأخرى]. وهكذا تتحول [الراوية الأولى] الى المروي عنهُ ولهُبوجود راويةٍ أخرى-ثانية- تشرعُ بكتابة الرسائل بعد الرسالة الحادية عشرة. -تحليل رسائل [الأخرى]: تكون الرسالة الأولى لـ[الراوية الأخرى] بعد الرسالة(الحادية عشرة)لـ[الراوية الأولى] مباشرة ومن ميزات هذه الرسائل لهذه الراوية : 1- تبدأ رسائلها بعبارة [سيّدتي الحزينة]. 2- تكون رسائلها معلّمة بعلامتين ** 3- تروي [الراوية الأخرى] حياة [الراويةالأولى]، منذ الطفولة وفترة المراهقة وهي تسجل كل التفاصيل والأحداث ، ثم رسالتهاالثانية عن ذكرياتها في كلية الآداب وقصة زواج –سكينة-، وفي هذه المرحلة –الزواج-تبدأ (سكينة) بتدوين سيرتها ويومياتها على الورق، دون عنوان . وسنقرأمن خلال الرسائل الست، تاريخ كامل لما جرى في العراق، تاريخ ترسمهُ أديبة بعيدة عنالبلاط، وعن كتّاب السلاطين، وعن المؤرخين والمدونين الذين كانوا يأخذون أجورهم منالحكّام في سبيل كتابة تاريخ مزيف. أنها كتبت بتجرد، وبأسلوب أدبي لتؤرخ لأصعبوأخطر مرحلة يمر فيها العراق في التاريخ المعاصر، لقد عاصرت حرب الخليج الأولى،وما حملتهُ من ويلات وكوارث، وحرب الخليج الثانية-اجتياح الكويت-، ومرحلة الحصارالإقتصادي، وصور الموت والدمار المتعدد والمتنوّع. كل موانيء العالم تكون نافذة للإطلاع علىحضارات الشعوب المختلفة، وتكون البوابة لكل الثقافات لكونها تستقبل وتودّعالمسافرين والبحارة والتجار من شتى أصقاع الأرض، بل وتجد تلك المواني والمدن التيتنشأ بظلالها من أكثر المدن عمراناً وثقافةً، إلا مدينة(البصرة) هذا الميناء، الذيكان يدعى-ثغر العراق الباسم-، أصبح بوّابة الحروب، بوابة للجيوش والمكائد، فحلّالوباء بالمدينة، بل وتوزّعَ أهل المدينة على الأمصار بسبب هذا الدمار، فأصبحموقعها الجغرافي نقمةً لا نعمةً لأهلها وساكنيها. 4- أمّا تسلسل الرسائل فرسائل [ الراويةالأولى] كما لاحظنا استمرت لوحدها بـ(أحدى عشرة) رسالة ، بعد الورقة الحادية عشرة، جاءت الرسالة الأولى لـ[ الراوية الأخرى]. ثم تكتب [الراوية الأولى] رسالتها –الثانيةعشرة-؛ فتأتي بعدها الرسالة الثانية لـ [الراوية الأخرى]. وهكذا تتعاقب الرسائلليكون مجموع رسائل [الراوية الأولى]: تسع عشرة رسالةً، ومجموع رسائل [الراويةالأخرى] :ستّ رسائلَ. 5- يسودُ جو من الألفةِ والتصالح بين[الراوية الأولى] و[الراوية الأخرى]، بعد حالات ومراحل من الخوف والقلق، بل أن[الأولى ] تدعو (جدّتها) الى تقبّل [الأخرى]، فتخاطبها –ص156-: (طبعاً تعلمين أننظرتي باتجاهكِ دائماً.. ومن هذا المنطلق أرجو أن تستمعي للأخرى، وهي تخصّني برسائلهابإسمٍ خاص وتقولُ لي : (سيّدتي الحزينة). تقبّلي منها هذه التسمية... لكن هي أيضاًترنو باتجاه عينيكِ فأعذريها.). 6- وجود حالة من الحلول (الصوفي)، بين[الراوية الأولى] و[الأخرى] وتتجلى تلك الصورة في (ص: 154-155) بحالة من الشعريةالعالية المتألقة: (هبطتْ مرةً أخرى ، غطّت جسدي الناعمَ الحسّاس، بدفء لحافٍ حنونالسخونة....واستمتعتُ بخضوعي لها، وكأنها مخدر لذيذ أحالني الى حلمٍ لم يأتني منقبلُ..). ثمّ تقولُ: (يا صديقتي المعفّرةُ بي..كمْ نبياً يشاركُنا العناق، وكمإلهاً أنوثياً يولدُ فيكِ، فأنتِ ساحتي الملوّنة بأبهى الورود..). -خاتمة التراسلية: بعد هذا الكمّ من التراسلية والأوراق التيجُنّدتْ والمحابر التي أريقت على البياض، من قبل راوياتٍ تعددّت أسماؤهنّوعناوينهنّ، في جسدٍ واحد، أينَ وصلتْ تلك الرسائل؟. أفصحتِ الروائيةُ في ختام الرواية جواباً عنهذا السؤال، فتقولُ [الراوية الأولى] عن ورقها ورسائلها –ص:224- : (..بقيَ القليلمن الورق والجراحُ استحالتْ الى كلمات....)، دلالة على قلّة الورق تجاه سيرةٍوتاريخٍ يمتدّ أكبر من عدد وعمر الأوراق، ونزيف الجرح هو المداد وهو الكلمات التيتسطّر صدقَ ماروتْهُ وترويه كل الراويات في هذه الرواية. ثمّ عن مصير أوراقها التي وضعت فيها عصارة عمرهاوحزنها وآلامها، بل نزيفا يمتدُ من الولادة حتى وقت الإنتهاء من الكتابة، تبوحُالروايةُ –ص: 238-: (...فتتبعثرُ الأحلامُ كخيطٍ بائدٍ قديم...كانَ مجردَ ظلٍواختفى، رأيتُ قربَ باب الشّقةِ كيساً من القمامة مملوءاً بالأوراق، أخذني فضولُالتعرّفِ على محتوياتها، وجدتُها مجرد حروف لكلمةٍ واحدةٍ (أيام) أيامٌ بكيسٍوسِخٍ جررتُها ورميتُها ببرميل الزبالة.). إذنْ..، هذه هي أوراقُها أيامٌ من حياتها منسيرةٍ امتدتْ منذُ الطفولة، ترويها تاريخاً ناصعا خالياً من الزّيف، أو التزويقالذي يحفل بهِ تدوين بعض المؤرخين، تاريخٌ وأيامٌ لم تكن كأيام طه حسين أوبقاياصور حنا مينا، في سيرتهما، تجاوزت الرواية المألوف، لتبعث تاريخاً ورسائلَ وصلتْللقاريء بعين الحقيقة . مصادر ومراجع البحث 1- بنية النّص الروائي، ابراهيم خليل، منشوراتالاختلاف-الأردن، ط1، 2010م. 2- الرواية العربية ورهان التجديد، محمد برادة، دبيالثقافية، ط1، 2011م. 3- معجم مصطلحات نقد الرواية، لطيف زيتوني، مكتبةلبنان-بيروت، ط1، 2002م. 4- العلامة والرواية، فيصل غازي النعيمي، دارمجدلاوي-الأردن، 2009م. 5- في النّص الروائي، ابراهيم جنداري،دار تموزللطباعة-دمشق،ط1، 2012م. 6- مجلة فصول –مجلة النقد الأدبي-،تصدر عن الهيئةالمصرية العامةللكتاب-القاهرة، المجلد الثاني عشر-العدد الثاني،صيف- 1993م. الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: السبت 03-05-2014 10:43 مساء
الزوار: 6210 التعليقات: 0
|