تختلف باختلاف النصوص، فيأتي شعرها مطرا منهمرا، يسقي خيال المتلقي فتنبت الصور الشعرية وتورق وتزهر مفتقة لدروب عميقة من الخيالات.
والقارئ للمشروع الشعري للشاعرة حليمة الإسماعيلي عامة، وديوان "نخب حبنا قهوة سوداء" يقف عند احتفالها بتيمة المطر، باعتباره أيقونة تختزن دلالات العطاء في الوفرة، والجفاء في الشح، والفناء في الفيض. إنه المطر بكل تناقضاته، النازل من علياء السماء طاهرا مطهرا، وحين يختلط بالعالم السفلي يستحيل عكرا. إنها قبسات من محمولات دلالية لفظية تستخدمها الشاعرة في نفحات دلالية، مشكلة بنية جمالية لنصها الشعري، بل تجاوزت ذلك إلى النصوص الموازية في الديوان (الإهداء).
وفي هذه الورقة، سأسعى لإنارة هذا الموضوع من خلال بحث جماليات شعرية المطر لدى هذه الشاعرة من خلال العناصر التالية:
- شعرية المطر في النص الموازي.
- شعرية المطر والإيقاع الراقص
- المستوى الدلالي لقل "المطر" في الديوان.
1. شعرية المطر في النص الموازي.
تنشد الشاعرة حليمة الإسماعيلي:
إليك: يا مطري
يا قدري الجميل: مولاي رشيد العلوي
هكذا دبجت الشاعرة الإهداء في ديوانها، وهو إهداء يختزن حمولة دلالية وعاطفية من خلال استعمال شاعري للفظة "المطر" وإعادة تشكيلها تشكيلا جديدا، ممتدا في مفاصل البنية الشعرية للديوان، والوقوف عند جملة "يا مطري" تقتضي دراسة حقلها الدلالي ذي الحضور البارز في التجربة الشعرية للشاعرة بصفة عامة، وفي هذا الديوان بصفة خاصة: فهو إهداء باعتباره نص نثريا، يعطينا تقريبا لفهم الشاعرة للمطر، إذ تربطه بالقدر، فالمطر قدر، والقدر خير وشر، لكنها ترى أن مطرها/قدرها جميل، ثم تفصح أن المقصود به هو زوجها. وبهذا يكتمل لدينا المعنى، ويفتح أمامنا باب الدلالة والتأويل مشرعا: الرجل مطر قدر، والشاعرة/المرأة أرض بما تعنيه من دلالات الخصب والإخصاب: الإخصاب الروحي والشاعري والنفسي والإلهامي. وبهذا يحصل التعاقد بين الشاعرة والمتلقي على أن هذا الديوان بما هو صور خيالية شعرية هي من وحي خيالات العشق الزوجي ومن إلهام شياطين الهيام الحلال.
ولو شئنا أن نستدعي الشعرية العربية القديمة وتناولها للمطر، باعتبار نزوله مدعاة للاستقرار، والارتياح من الارتحال الدائم، وهو ما يعني اللقاء بالحبيب، والاختباء بين الأشجار المغلولبة؛ وكذا ترداد الفتاة على الغدير أو الوادي لجلب المياه حيث ينتظر الحبيب. إنه المطر القدر الجميل الذي يجمع الأحبة، فتسكن النفوس، وتستريح الأجساد. وفي المقابل يمكن أن يكون غياب المطر قدرا/شرا، فتفترق القبائل وتبتعد القلوب وتشتعل لوعة البعاد. كما أن الفيض هو قدر/شر حين تحفر الأخاديد وتمحي الأطلال.
وبالنظر إلى خلفية الديوان، حيث تم تدبيج سيرة ذاتية موجزة عن الشاعرة، وأهم ما يثير الانتباه هو تنوع وتكامل عناوين الدواوين السابقة: عطش (2001)، ما أوسع الموت فيك (2004)، وسيصدر في القريب ديوان جديد: صفصافة الروح. وهي عناوين تشكل سياق مشروع شعري يعكس تجربة الشاعرة وفق شعرية المطر التي تستبطنها قريحتها.
1- ديوان "عطش": عنوان الديون يوحي بكون الشاعرة سعت فيه إلى بث لواعج العطش إلى مطر منشود، وهو أمر يتشاكل والمرحلة الأدبية والعمرية للشاعرة وهي في مستهل حياتها الشعرية؛ إنه العطش إلى مطر الحبيب، ومطر شياطين الشعر.
2- ديوان "ما أوسع الموت فيك"، وعنوانه يدل –وفق شعرية المطر- على أن المطر هو المقصود بكاف الخطاب: ما أوسع الموت فيك أيها المطر، الشيء الذي ينبئ أن الشاعرة وجدت مطرها، أو أحست بقرب هبوب رياحه، ومن لوعة الشوق والانتظار جاءت قصائدها.
3- الديوان موضوع المقالة " نخب حبنا قهوة سوداء" يدل من خلال عنوانه على حدوث اللقاء: اللقاء بالمطر/القدر/الحبيب. وسنسعى في هذه المقالة أن نقف عند جماليات شعرية المطر، شعرية اللقاء بالمطر.
4- الديوان المرتقب: "صفصافة الروح"، وهو عنوان يدل على أن هذا المطر سقى الروح، فنمت نمو شجرة الصفصاف السامقة الشامخة، وقد أشارت المعاجم العربية الحديثة إلى أن شجرة الصفصاف شجرة تنبت عند مجاري المياه، وأغصانها دقاق طوال تتدلى على الأرض.
هذه نظرة عجلى إلى عناوين المشروع الشعري للشاعرة حليمة الإسماعيلي، وهي –كما يبدو- تشكل وحدة شعرية جمالية نامية قوامها شعرية المطر.
2. شعرية المطر والإيقاع الراقص.
لا مندوحة من القول إن عنصر الإيقاع الشعري من عناصر الشعرية العربية، حديثها وقديمها، وهو فيصل بين الشعر والنثر. وهو عنصر مرتبط باللغة من جهة، وبالدلالة من جهة أخرى، ولا يمكن أن يتحقق إلا من خلالهما.
والواقع أن التجارب الشعرية المعاصرة الجديدة سعت إلى تحديث البنية الإيقاعية للشعر من خلال التحلل من الأنظمة التراثية المرتكزة على سيميترية الشطرين، أو الأنظمة الحديثة اللاحقة المرتكزة على التفعيلة العروضية بفهمها القديم وتوظيفها الحديث. وهو تحلل يجد مصوغاته في ضرورة تلافي الجرْس الرتيب المشاكل للحياة الهادئة الرتيبة تاريخئذ، والإقبال على إيقاع يشاكل الحياة المعاصرة السريعة الراقصة. ولهذا سعت هذه التجارب الجديدة إلى تشييد أنظمة إيقاعية جديدة بذوق جديد، يستحضر الطبيعة الإنشادية للشعر، ومن هذا المنطلق ظهرت عديد من الأنظمة الإيقاعية: النبر مثلا؛ وهو موضوع عرف مماحكة بين الدارسين المنشغلين بالإيقاع.
والمتن الشعري للشاعرة حليمة الإسماعيلي من النصوص الحديثة ذات الإيقاع الراقص، عصي الانضباط على إيقاع خارجي محدد يؤطره. لكنه غني بإيقاع داخلي، يرصد الخواص الإيقاعية للصوت المفرد والألفاظ، وكذا الجمل الشعرية: تكرار، تناغم، ترجيع، تناسب... فهو إيقاع دائب داخل قصائدها، يعتمد في تشكيل هيكل القصيدة العام على "تناسب في وضع حيواتها وعناصر المكونة بين الثبات والتحول. ومن وضع الثبات إلى التحول وبالعكس تنشأ حركة القصيدة وتحدد مساراته فيها" . وقصائد ديوان "نخب حبنا قهوة سوداء" من خلال استبطان شعرية المطر يرتبط في إيقاعه معنى الشعر بمعناه ارتباطا حيويا. وتبحث الشاعرة في قصائدها الثائرة على مكوني الإيقاع التراثي في تنوع إيقاعي يعكس حركية ورقص المطر، بتشكلاته المدهشة.
وللكشف عن هذا التنوع الإيقاعي نقف عند القصيدة الرئيسية في الديوان:
كان حبنا له قلب من رماد
واقف بيننا
والقهة السوداء
تقرع كآبة الفنجان...
- بصحة عينيك
وينفرش الصمت والحزن
ظلين...
وجهك يطوي إطلالاته
هات حنجرتك النائمة
هات شفاهك الواجفة
هات قصائد بودلير
الغافية على صدر
عاصمة خرابك
- بصحة صوتك.
ففي هذا المقطع من قصيدة :نخب حبنا قهوة سوداء" تتعدد صيغ الإيقاع:
تردد في هذا المقطع إيقاعات موسيقية ليس للتقفية، وإنما هي تشتيت للقافية تشتيتا مطريا: رماد/ بيننا/ السوداء/ الفنجان/ عينيك/ الحزن/ ظلين/ إطلالاته/ النائمة/ الواجفة... فهي مختلفة من حيث أبعادها الكتابية والصوتية، الشيء الذي يخلق إيقاعا صوتيا مختلف النغمات باختلاف نغمات قطرات المطر. وفي هذا الاختلاف الإيقاعي؛ جاءت الشاعرة بتكرير فعل: "هات"، وتكرير جملة "بصحة عينيك"، مشكلة بنية إيقاعية داخلية متلونة.
كما وظفت الشاعرة في هذه القصيدة إيقاعا سرديا بدأ منذ أول كلمة "كان"، وانتهى بحوار درامي. وهو إيقاع ينمو من خلال فصول تفصل بينها بمقطع: "بصحة عينيك"، انطلقت من الماضي في الفصل الأول بتوظيف ضمائر الماضي أو ما يحيل على الماضي، وانتقل في الفصل الثاني إلى زمن المضارع: "ينفرش الصمت والحزن"، ثم ينتقل إلى المستقبل من خلال فعل الأمر المتكرر: "هات".
ولتمكين جمالية الإيقاع السردي، وظفت الشاعرة لعبة الضمائر من خلال تحريكها على طول القصيدة، وذلك لخلق ألوان إيقاعية متنوعة: في البداية كان الضمير للمتكلم الجماعة: "بيننا"، ثم انتقل إلى ضمير المخاطب المفرد: "عينيك/ حنجرتك"، ثم انتهى إلى ضمير المتكلم المفرد: "أجلس" ، "أجلس"، "أتلاشى"...
3. المستوى الدلالي لحق "المطر" في ديوان "نخب حبنا قهوة سوداء"
تأخذ دلالات الكلمات والجمل الشعرية أشكالا يصوغها الشاعر، من خلال انزياحها عن مسارها التطابقي المعروف، إلى مسار تفاوتي انزياحي أدبي؛ وذلك من خلال التوظيف في سياقات شاعرية مختلفة. والقارئ للديوان المحتفى به يرى أن الشاعرة الإسماعيلي وظفت "المطر" توظيفات مختلفة وفق سياقات معينة، وانزياحات دلالية. كما أن دلالة المطر هي مفتاح مستغلقات قصائد هذا الديوان، بل وتتجاوز ذلك إلى هندسة البنية الشعرية للقصائد.
في القصيدة الرئيسة والأولى في الديوان موضوع الدراسة، يغيب مصطلح المطر، لكن يحضر الحقل الدلالي المرتبط به، فالشاعرة في هذه القصيدة رسمت في مقطع منها صورة فنية تعبر فيها عن عطشها قبل لقاء الحبيب، وصورت لنا كذلك الحالة النفسية التي كانت عليها:
القمح
لم يعد أخضر
أجلس هذا الصباح
إلى شفتيك اليابستسن
يا لون صوت حبيبي
ففي هذا المقطع يغيب المطر/ الحب، فلم يعد القمح أخضرا، فتجمدت الابتسامة على الشفة. فهو تقابل بين غياب المطر وغياب الابتسامة.
تستحضر الشاعرة في قصيدة "مسافاتك الآن... ابتدأت" أصل المطر الذي هو: "الغيمة"، حيث الإرهاصات الأولى للمطر، وهي ترسم صورة فنية يتقابل فيها عنصران: الشاعرة/الغيمة التي لم تمطر، والحبيب/المطر الآت. فالشاعرة تعتبر نفسها غيمة وحيدة، تأمل في أن تمطر حبا، إنها تنتظر الفارس العتيد الذي يخطف منها القبلة الأولى؛ تنتظر المطر/ الحبيب:
قد أكون وحيدة
غيمة حيرى تحت المطر
قد انتظر الفارس العتيد
أن يقتحم الشرفة ليلا
وأن يخطف مني
القبلة الأولى...
وتعترف الشاعرة في قصيدة "سيد في الأعالي" أنها غيمة أمطرت حينما صادفت قمرا، عرفت معه المطر/الحب؛ وقد لخصت في مقطع قصير من هذه القصيدة رحلة حبها:
ولي قمر...
على شفتيه
عرفت المطر
فسافرت فيه كقطرة ماء
من السحب حتى الشجر
حين هز جذعي
لأنصت إلى ثرثرة
يديه...
يطوف بي أنّى يشاء
كالسيف في عنقي
ليلف غصنه حول
فروعي،
لقد كان هذا الحب غيمة، ثم أمطرت، ثم أنبتت شجرة الحب وارفة الظلال، طويلة الأغصان، التفت حول عنقها.
احتفلت الشاعرة بالمطر في قصيدة: "أول مطر... وأنت" بلغة المطر باعتبار دلالتها: المطر=الحب. فيحضر المطر بهذه الدلالة، في سياق بناء درامي يعبر عن التجربة العاطفية، وهو تحول من الغنائية المعروفة في النصوص الشعرية إلى الدرامية المرتبطة بالنصوص السردية، وهذا مظهر من مظاهر التجديد في القصيدة المعاصرة. تستهل الشاعرة هذه القصيدة بعرض الأحداث الأولى لحبها:
أنت يا أنت
يا من على رصيف البحر
تبثني أمنية،
بصوتك القريب البعيد
يا من على درب المطر
تهديني أغنية،
تهيم في شتاتي البليد.
وتعترف في نهاية هذه القصيدة للحبيب بإحساسين: الأول: انتظار حبه طويلا، والثاني: إنه أول وآخر حب.
لك أن تفر إلي
حين تدهمك الأشجان
لك أن تمطر دمعك
المؤجل عمرا
حين تجترح خطاك
الأوطان
فأول مطر وأنت
وآخر أنا وأنت .
وتحتفل الشاعرة في قصيدة "عند منعطف القلب" بالمطر/الحب؛ تقول:
تغريني بالحب يا رفيقي
فأهرب إلى أعشاب صدرك
أفك عنك قميص الصمت
زرا.. زرا
لعلي أحتمي من مطر العمر
وبرد المسافات
لعلي أتضوأ وجهك
.. لعلي
حيث يهجس في شفتيك
طعم المطر الناعم والآهات
لعلي أضمك حينما ألقاك
في زمن البكاء والعبرات
يا بعضي أنت وكلي
تغريني بالحب
فكن لي.
بعد أن تصورت الشاعرة مرحلة انعطاف القلب من مرحلة العطش حين غاب عنها المطر، انتقلت إلى مرحلة تالية في قصيدة "أعشب أيها الفرح" حيث أنبت المطر سعادة ورسم ابتسامة على الشفاه، تقول:
أنت الحب يطلع من شجر البحر طفلا
له جسد ساحلي..
ووجه من خفق أجنحة العشب
في شفتيك بساتين ماء
ومملكة من لغات المطر
أنت البحر يولد من رئة البحر كل يوم
...
فأعشب ... أعشب
أيها الفرح!
لقد اختفت الشفاه اليابسة، وظهرت الشفاه التي تسيل عليها بساتين الماء، وانتهى الزمن حيث لم يكن القمح أخضرا، إلى مرحلة يعشب فيها الفرح.
وبعد أن أعشب المطر في كيان الشاعرة بدأت ترسم لنا صورا من يومياتها تحت المطر، حين يصبح عطاء بلا حدود، حين يصبح الملاذ، ففي قصيدة "اغتراب عاشقة" تقول:
أنت تغربت عني
أم الوجع صيرني فيك
غريبة؟
أم كلانا تغرّب
في عالم ...
ليس فيه انتماء؟
تعال لتمطرني
وتجفف دمعي
بشفاه سحقتها الرعشات.
وتختم قصيدتها بالتأكيد على المطر باعتباره عطاء بلا حدود:
فتمطر حقول انتظاري
أنّى غربت
أنى شرّقت
وأنت معي.
وبعد؛ لقد شكلت شعرية المطر نسقا متكاملا في بنية قصائد ديوان "نخب حبنا قهوة سوداء" للشاعرة حليمة الإسماعيلي؛ وهي تسعى إلى التعبير عن حبها لمطرها، من خلال رسم صوره في أجواء غرامية باذخة. إنها أنموذج للغزل الأنثوي المشروع والمسموح به اجتماعيا. إنه تقصي لرحلة المطر مذ أن كان غيمة إلى أن تحول إلى قطرات من الحب التي تحيل الحياة إلى فرح وسعادة.
لقد خلق المطر في هذا الديوان قصائد ذات رؤى خاصة نرى من خلالها لوحات ولحظات عاطفية مصهورة في قوالب نصية؛ أصبحت على طول الديوان تقنية شعرية وأسلوبية، جعلت شاعرتنا من شعراء المطر.