دراسة تفكيكية قراءة في ديوان الشاعر حسن جلنبو «وشهد شاهد من أهله»
عرار:
أ.د. سلطان المعاني يشير المنهج التفكيكي في تحليل القصيدة الشعرية، إلى قراءة النص خارج نطاق المعنى المقصود أو الوحدة الهيكلية للقصيدة، وتسليط الضوء على التناقضات والاختلافات والدلالات الغائبة في كلٍّ من اللغة، والرموز والصور الشعرية، حيث يرمي هذا المنهج إلى إعادة بناء القصيدة من منظور القارئ، دون الالتزام بسلطة الشاعر أو التاريخ أو السياق، وإبراز ما هو مطمور أو مقموع في باطن النص. وتعتمد هذه الدراسة التفكيكية على تجزئة القصيدة إلى جزيئات صغيرة، وتحليلها بشكل مستقل ومتسق في «ديوان وشهد شاهد من أهله»: بدلاً من النظر إلى الديوان ككلٍّ متكامل، بحيث يمكننا تجزئته إلى قصائده المنفردة، والبحث عن معان جديدة ومختلفة بناءً على القراءة الخاصة بكل قارئ. كما يمكن أيضًا البحث عن التناقضات والتوترات داخل القصائد الواحدة، وإظهار الدلالات المخفية أو المقموعة. لا تقوم التفكيكية بالضرورة على إثبات أو تفنيد القراءات الأدبية السابقة، بل على تقديم تفسيرات جديدة وغير متوقعة. يهدي الشاعر جلنبو ديوانه هذا إلى وطنه قائلاً: «إلى وطني الذي ما انفكَّ يقسمني إلى شطرين: شرقيِّ، يعانقني إذا ضاقتْ بيَ الدنيا فيحملني على الكتفينْ، وغربيِّ، يؤرِّقني إذا ما جئتُ أبحث عنه بين الدمع والعينينْ». يشير هذا الإهداء إلى قوة العاطفة التي يحملها الديوان، حيث يُكرّس الشاعر العمل لوطنه، الذي يقسمه إلى شطرين: شرقي وغربي. وهذه رمزية قوية في النص، حيث الوطن الشرقي يمثل مكان الراحة والأمان، في حين يمثل الوطن الغربي مكان الألم والفقد. وكذا في تأويل الدمع والعينين في السياق رمزاً للألم والبحث أو الأمل في البحث عن هوية مستقرة في هذا العالم الشقيق المنقسم (الأردن وفلسطين). إنّ تفكيك النص بهذه الطريقة يسمح بفهم أعمق للموضوعات والأفكار التي يتعامل معها الشاعر، مثل الانقسام المكاني، والهوية الوطنية. كما يمكن للقارئ بعد ذلك أن يتأمل في كيفية تجسيد هذه الموضوعات في القصائد الفردية في الديوان. شاعرٌ يقدم شاعراً، علي الفاعوري يقدم حسن جلنبو، قامتان قمّتان. «خمر القصيدة»، «شاعر كثير» صاحب تأثير عاطفي كبير، فهو شاعرٌ يهيمن على القلوب، وموضوعته تتجلى من يمين الحرف إلى يشار الحب والشجن والحنين، ويمتد إعجاب الفاعوري بجلنبو إلى الإضافة الحقيقية التي يقدمها حسن جلنبو للشعر العربي، فشاهده (أي ديوانه) يأتي لإثراء فصل جديد في تاريخ الشعر العربي. تجليات الدلالة في قصائد الديوان تذهب بنا بين الوطني والذاتي، وبين التاريخي والحاضر، وبين الأمكنة: «عمان»، «يا قدس»، والأشخاص: «أنا الغريب»، «كن نفسك»، والأحداث: «الطوفان»، «كيف صرنا لاجئين» والأشياء: «ورقة توت»، «قهوتي». وفي تجلي الموضوعات نرى من خلال العناوين أحاسيس الوطنية، والغربة، والهوية، والحب، والاعتزاز بالنفس، والتاريخ، والفقد، والحنين، والأمل. حيث يحلق الشاعر في كل هذا المدى باحثاً عن هويته في غربته، في القصائد: «أنا الغريب»، «كن نفسك»، «غريبان». وهي تأملات في الذات والهوية ومرارة الغربة. ويقابل هذا قصائد «إني أحبك»، «ورقة توت»، «ما تيسر من الشوق» التي تعبر بنا في مدارات الحب والأمل والشوق. وفي فضاءات الأسئلة والتمني والفقد والحنين نلقى القصائد: «لو التقينا»، «كيف صرنا لاجئين»، «براءة وحزن». إن الجمع بين كل هذه العناصر والعناوين لم يخرج بنا عن الشعرية العالية والأدوات الممسكة بتلابيب التفوق، دون أن تنبو قصيدة واحدة عن مدارات التسامي. وقد جاءت العناوين عتبات تشي بدواخل الشاعر، وتجليات المعاني داخل النصوص وخارجها، فالعناوين مفاتيح القصيدة وبوابات الشاعر وأفكاره ومشاعره. «أنا الغريب» وكيف صرنا لاجئين» «لو التقينا»؛ عناوين الأنا المكلومة ومرارة السؤال و»لو» في احتمالات الأمل المفقود والحنين. تتميز قصائد الديوان بأسلوبها الشعري المحكم والمؤثث بالعناصر الشعرية والأدبية، حيث يستخدم الشاعر التشبيهات والجناس والتكرار، ويتجلى الجمال الفني في التراكمات الشعرية، والصور البيانية، والكلمات الموزونة بدقة. فكلمة «الوطن» تتكرر كثيراً في الديوان، ولكن معناها يتغير بحسب السياقات؛ ففي بعض الأحيان، يرمز الوطن إلى الألم والمعاناة، بينما يرمز في أحيان أخرى إلى الأمل والمحبة والجمال. وفي ثالثة يربطه بـ «بلاد الله»، وكلها تُبرز العلاقة المقدسة بين الشاعر ووطنه. وتأتي المفردات: «الأرض، الصحراء، الليل، الصبح، القلب، الشريان» لتعمِّق الإحساس بالمعاني الجغرافية والجسدية التي تشير إلى الاتصال العميق بين الشاعر ووطنه. فرغم ثبات الوطن في قلب ووجدان الشاعر، إلا أنّ قلق الجغرافيا بين شرقٍ وغربٍ يعيد الشاعر تعريفه للوطن بمفارقات الوطن والصحراء والليل والصبح، فالوطن عند لا يشكل المكان فقط، بل هو شعور وتجربة أيضا. ويتجلى ما نذهب إليه عندما يستخدم الشاعر التشبيه في وصف الوطن بأنه «مخبوء بأشوِلة الرزّ وعلب السردين». فهو يشبه الوطن بالأمور العادية والبسيطة في معناها الظاهر، ولكنه يحمل في رمزيته إلى طعم الحياة والبقاء. ومن جليّات الجناس «وأنك بدء حروف اللغة الفصحى وبأنك آخر قافيةٍ في فصل الشعر»، حيث يتم تكرار الأصوات في «بدء» و «قافية» و «فصحى» و «فصل»، مما يخلق إيقاعاً جميلًا وممتعًا، وكذا يتكرر في استخدام عبارة «آمنت بأنك»، تعزيزٌ للأحاسيس القوية والإيمان العميق بالوطن، ومن بين التراكمات الشعرية والصور البيانية العميقة نقرأ «يا وطني الممتدّ على رقعة عمر الأحزان / يا وعد الله وصوت الله» وفيها نستشعر جبل الوصل الشعوري المتين بين وريده والوطن فبين الحقيقة المرّة بضياع الوطن والأمل في المستقبل يقول جلنبو: «وأنك رغم الليل ورغم البؤس ستشرق مهما طال بلاء» على تلك الحقيقة والأمل يصرح الشاعر بوجود الليل والبؤس غير أنه يؤمن بشروق شمس الوطن رغم كل مناكفات الواقع. يُمعن الشاعر في «أنا الغريب» بالانسياق التفاعلي بين الصورة والمعنى في إيصال الشعور بالغربة، الحنين، الشوق، والسفر عندما استخدم مفردات «الغريب»، «البحر»، «السهر»، «النخل»، «الدعاء»، ليوظفها بشكل متقن، أمام العلاقة الضدية بين شوقه للوطن ومسببات الشوق والحنين والقلق والقهر جراء غربته عن الوطن السليب. وفي هذا يبدع الشاعر في التصور المعرفي، فالقصيدة تستعير صورة السفر والغربة إشارة إلى الحالة الداخلية والشعورية عنده، وذلك يكرس التفاعل الصوتي المتوازن بين أبيات القصيدة، التي تعبر إلينا بآليات الخطاب الشعري المتدفق بالكنايات والمجاز وبراعة توصيل الأحاسيس والمشاعر في قوله مثلاً: «أودعتها الليل حتى ضج بي سهري».، وفي التفاعل الإشاري الذي يعكس حالة الشاعر عندما يذكر البحر والليل والنخل، والربط بين الشعر والشوق والبعد والغربة، وفي التفاعل التصويري المركب لرسم صورة مشاعره الداخلية، مثل «وهذا البحر يعرفني، عزفت ميناءه لحنا على وتري». إن كل هذه التفاعلات والصور الشعرية تأخذنا إلى السحر الحلال عند الشاعر المبدع حسن جلنبو في «وشهد شاهد من أهله».