|
عرار:
من يقرأ قصيدة أحزان الفصول الأربعة وما طرحه الشاعر نضال القاسم تحت هذا العنوان من أسئلة وقضايا ورموز، يدرك سبب تسمية الديوان بهذا الاسم، ويدرك أيضاً أن القصيدة كما الديوان محشوة بالحزن الذي لا يكفي ليجعل الشاعر يشعر بالحزن ليس فقط على مدار العام بفصوله الأربعة، بل على مدار العمر أو على مدار عقود على الأقل. هذه القصيدة هي الأم في ديوان «أحزان الفصول الأربعة» التي سمي الديوان باسمها. ويبدو أن ملامح هذه القصيدة تحمل بين ثناياها فلسفة التأفف من الوضع القائم على مستوى جميع الدوائر المحيطة، وعلى مختلف الدرجات، وعلى مدار الفصول الأربعة، فليس هناك من شيء يريح النفس ويعيد لها سيرتها الأولى، أو يشعل أمامها بريقاً من نور ليضيء الطريق الذي يبدو محفوفاً بالمصاعب، ويحتاج إلى جهد كبير لينفض عنه غبار المصاعب التي استجمع لها في كثير من المواقع العزم ولم يترك وسيلة إلا واتبعها ليسير إلى الامام ويصل الهدف الذي يريد. ويبدو أن الحصار في هذه القصيدة، يأتي من القريب ومن البعيد، من العدو ومن الصديق، من الحاضر ومن الماضي، من المعاش، من اللحظات ومن الذكريات، من الطير ومن الشجر والحجر، من القبيلة، من البدو ومن الحضر، فكل ما حول الشاعر يأخذ حصته من ألمه ويسهم في إحكام الحصار. نجد الشاعر في فقرته الأولى يحمل على ظهره أرتالاً من الأسئلة، وإذا كان الرتل من الأسئلة يوحي بالكثرة، فكيف بالأرتال منها، وما استخدام رتل هنا إلا رغبة في التعبير عن الكثرة والتقارب في المسافات حد التزاحم، فكيف السبيل وما الحل إذا كان الحصار من أرتال من الأسئلة، وكلها أسئلة مقلقة، مغلفة بالحيرة وموغلة في العمق، كم من الوقت تحتاج هذه الاسئلة للبحث لها عن إجابات لعلها تخفف من الضغوط التي يعاني منها الشاعر، ولا أحسبه هنا إلا وقد أسكن ذاته ذات المسكن الذي يعد مثالاً لما تعانيه الملايين من أفراد الأمة. وإذا كانت نفس الشاعر وروحه ودم قلبه والتي عبر عنها بالمهجة كل منها مبلل، حيث قال «ومهجتي مبللة» كناية عن أنها مصابه بهذا الحصار، ومن الأسئلة التي تحاصر هذا الخوف الذي صار ملازماً للكثيرين من أفراد الأمة، وخصوصاً أولئك الصبية الذين لم يبلغوا الحلم بعد، والذين يصفهم بالطيبين وما قال الصبية إلا ليشير إلى فتوة العمر، فكيف لهؤلاء الفتيه أن يواجهوا كل هذه الصعاب، وكيف لهم أن يعيشوا في ظل هذا التوتر. ثم تأتي المسألة وهي خيل اليهود كواحدة من المسائل التي تحاصره، وكأني به هنا يتخيل الجمع من اهل البلاد المدافعين عن وطنهم بالحجارة تدوسهم خيول اليهود لتفرقهم وتبث الرعب بين أوصالهم. ثم ما يلبث الشاعر إلا ويأتي بمسألة أخرى من هذا الوطن، ألا وهم الجياع الذين لا يملكون لقمة العيش ليعيشوا كما غيرهم من الأمم، فهؤلاء الجياع كما غيرهم يشكلون هاجساً لدى الشاعر لا يستطيع تخطيه أو القفز عنه. ويحق للشاعر ذكر الخفافيش كواحدة من الأسئلة التي تحاصره، فالخفافيش هي خفافيش الظلام وتمتاز بمص الماء من الطيور والحشرات وهنا خفافيش البشر الذين هم سبب في خلق هذا الوضع المتأزم والذين يسببون القلق ويشعلون حطب الحزن في حدائقها ليعيشوا بالطريقة التي يريدون لا يأبهون لما يحدثونه من أوجاع. وما حيكت الراية، إلا لتكون مصدراً للفخر ومبعثاً للاعتزاز والحماسة، وما حملت إلا في ساحات المجد والعزة والإباء، أما أن توصف الرايات بالباليات فهي لعمري مصدر لليأس من ناحيتين، أولهما استخدامها في حالة الجمع لتدل على الفرقة والتشرذم ولو لم تكن كذلك لكانت راية لا رايات، وثانيهما وصفها بالباليات أي القديمات العتيقات الممزقات التالفات، والرايات بهذه المواصفات تستحق أن تكون سبباً في الخوف والقلق وبالتالي واحدة من الأسلة التي تحاصر الشاعر وتستحوذ على تفكيره. وقد أتبع الشاعر الرايات الباليات لأوثان القبيلة، والكلمتين جيء بهما لتنضما إلى قائمة الهموم، ليضيف هماً على هم، وكأن أصحاب الرايات الباليات هم أصنام لا تضر ولا تنفع ولا تنطق وليس لها أي أثر بالحياة، ولا توحي إلا بالسلبية كتلك الأوثان التي كانت تعبدها القبائل، وكأن الشاعر يأتي بفلسفة يسحب لنا بها حقبة من تاريخنا المظلم الذي عشناه ما قبل الاسلام ويعيدنا إلى زمن الأوثان والقبائل ليشير إلى مرارة الواقع الذي يعيش،هذا الواقع المحاصر بالأسئلة. وكل ما ذكر أو سيذكر مدعاة للخروج عن المعروف، وربما التصرف بما هو غير مألوف، وربما السير في طرق غير مضمونة النتائج، لولا وجود زوجة عاقل تهدئ من روعة الشاعر وتبعث في نفسه شيئاً من الطمأنينة والصبر والتحمل. ووجود الزوجة العاقل في النص قد يكون بذاته مدعاة للتساؤل عن سر فعل العقل في أجواء كهذه، حيث يفترض أن يكون العقل كابحاً للعواطف في هكذا أجواء. أرتال أسئلة تحاصرني ومهجتي مبللة/ يحاصرني الخوف والصبية الطيبون اليهود، الجياع ، الخفافيش، راياتنا الباليات، أوثان القبيلة ، والزوجة العاقلة. ويعود الشاعر لتعداد نماذج من الأسئلة التي تحاصره، لكن هذه المرة من قبل العمر والذكريات والظلام والرفاق والهواجس والأمنيات والعائلة، فكل مما ذكرنا يسهم بالحصار، ويحال إما إلى قيد يمنع الحركة، أو إلى سؤال يبحث عن إجابة أو إلى صخرة تقف عائقا في تحقيق الحلم. فالعمر لم يعد يسعف الشاعر على الفعل، والذكريات تدفع من الاتجاه المعاكس الفعل ليكون، ليقف الشاعر بين هذه وتلك في حيرة من أمره، تتقاذفه ليشعر بالحاجة للتحرر من قيد العمر مثلاً ليجد حلاً لمسألة الظلام، والذكريات والرفاق القدامى، عاملان يدفعان باتجاه سحبه للخروج من دائرة اللا فعل إلى دائرة الفعل، ليعيش بعدها في جو مشحون بالهواجس والرغبة العارمة في تحقيق الأماني. أما العائلة فقد تقرأ على وجهين، الأول يجعلها تتمركز في دائرة الاسئلة التي تسهم في حصاره وهنا كما غيرها تحتاج إلى إجابة، أو تدخل في دائرة التهدئة وتسهم في الشد العكسي الذي يجنح نحو الاستقرار. يحاصرني العمر والذكريات، الظلام، الرفاق القدامى والأمنيات والعائلة ويعود للأسئلة وأسباب الحصار من جديد، لكن هذه المرة من الاحتلال وما نتج عنه من سجون تحوي آلاف السجناء الذين يعيشون في ظروف صعبة قاسية، تفرض نفسها لتكون سؤالاً يستحق أن يتبع بسؤال يقول إلى متى؟ إلى متى سيبقى الآلاف من السجناء يقبعون بين جدران الزنازين؟ ونحن نعيش في دائرة اللافعل الناتج عن العجز. ثم ينتقل لذكر نتاج آخر من نتاجات الاحتلال، ألا وهو الحاكم العسكري الدخيل والمستبد والمتاريس والمغنون والعولمة. وهذه وتلك كسابقتها، منها ما يحتاج إلى حشد على مستوى الأمة لا على مستوى الفرد، فالحاكم العسكري غريب عن الديار وغريب عن أهل الديار، وما جاء إلا بقوة السلاح ، فهو دخيل ومستبد، أي أنه ظالم لا يحكم إلا من خلال فوهات البنادق التي تعتمد القوة لا المنطق، وتفتعل من الاجراءات ما يعقد الموقف ويصعب السؤال. أما المتاريس وهي الحواجز التي توضع بين المدن والقرى وبين المكان والمكان، وهي عادة ما تحمل مظاهر مسلحة لا تريح النفس بل تقلقها، وتعيق حركة السكان وتكبل يدي الحرية، فهي أيضاً من نتاجات الاحتلال الجاثم على صدور البلاد والعباد، هذا هناك في الوطن المحتل، أما هنا في هذا الوطن الكبير فحتى المغنون لم يعودوا مسألة تريح النفس، بل مسألة تدعو للتساؤل عن جدوى وجودهم وفحوى كلماتهم، فقد بات من الضروري إعادة النظر فيما يقدمون، وبالنسبة للأمة باتت من المسائل التي تحتاج إلى حل. ولم تكن العولمة بمنأى عن فلسفة الأسئلة التراكمية ، فهي من المواضيع الكبيرة المحيرة، حيث جاءت في وقت لم تكن الأمة متهيئة للتعاطي معها، ما جعلها تسبب إرباكاً على المستوى القومي، وبالتالي انعكس ذلك سلباً على نفسية الشاعر، وباتت من الأسئلة التي تحاصر الشاعر والتي تحتاج إلى معالجة. تحاصرني السجون، والحاكم العسكري الدخيل والمستبد المتاريس، المغنون والعولمة وحتى الظواهر الطبيعية تكاد تسهم بدورها في تأزيم الوضع وخلق الجو المشحون، وما البرق إلا من الظواهر الطبيعية التي زاحمت بقية الأسئلة التي سببت للشاعر هذا الذهول، وحينما يقول أغصان البرق يؤكد على ارتباطه ببيئته، فالشاعر كما يقال ابن بيئته، فهو يرى البرق يسير باتجاهات عدة وكأنها أغصان انطلقت من قرم شجره - والقرم ما يتبقى من جذع الشجرة حين تقطع- فهذا الضوء المتجه إلى مختلف الاتجاهات تراءى للشاعر كأغصان البرق. أما الثلج فهو مسألة أخرى تحاصر الشاعر لكن كيف للثلج أن يشارك في الحصار؟ فالثلج أبيض ولونه الأبيض يدعوا للتفاؤل، عدا عما يجلبه من خير وفائدة للناس وللنبات وللحيوان، وفلسفة استحضار الثلج ليؤكد على أن الثلج على جمالة وفوائده قد يكون من المسائل التي تحاصره وتجعله يطيل التفكير بها. فقد يسقط الثلج على المشردين البائسين المتعبين الذين يعيشون في الخيام، أو أولئك الذين يقرص البرد اجسادهم بلا رحمة ولا يملكون وسيلة تقيهم لسعاته، وليس لديم ما يستطيعون به الحصول على وسائل التدفئة عدا عما يسببه من قطع للطرق ومن مشاكل تعيق الحركة. ولم تكن الحافلة لتخطر على بال أحد أنها من المسائل التي تؤرق صفو الشاعر وتستثير عاطفته، لولا أنه رأى فيها ما يسبب القلق، فالحافلة بأزماتها والتزاحم عليها، وعدم دقة مواعيدها، وبعض الثرثرات التي تنتج عن بعض مستخدميها، فهي في كثير من الأحيان تشكل مصدراً للإزعاج أو سبباً في حدوث المشاكل والتوتر. تحاصرني غصون البرق ، عطلة آخر الأسبوع، جوعى الحرب خصخصة القطاع العام، والثلج والحافلة ويشتد الحصار كماً وكيفاً، ويشتد متواصلاً غير متقطع وعلى مدار الفصول، فلا يترك فسحة للراحة والهدوء، أو لكأني به حبل مشنقة يلتف على رقبة الشاعر، يحاول القبض عليها وزحزحتها عن رقبتها حتى لا تجهز عليه، مع أني أرى الجروح التي سببتها والخدوش البادية على رقبته، ما جعله يعيش لحظات حزن متصلة. وتعود فلسفة استحضار مصادر القلق وحصار الأسئلة، لنجد الشاعر قلق على مضارب البدو الين يحاولون قهر الظروف حتى لا تتمكن منهم، وهؤلاء طبيعة عملهم وسكنهم تجعلهم يعيشون في ظروف صعبة يحصلون على لقمة العيش بشق الأنفس، ويصطلون بحر الصيف وبرد الشتاء ويعتمدون على ما تجود به السماء لتربية ماشيتهم والاستمرار في الحياة، لا يستمتعون بربيعهم ويقضون حياتهم في الصحراء. إنهم فعلاً يثيرون القلق، فكيف بهم إذا أقحلت البلاد وضنت السماء؟ وكل الناس الذين يعانون من هذه المشاكل، ويرسمون هذه المسائل، ليسوا شركاء في الحل، بل هم للشاعر مثار قلق وخوف ورعب وهم وغم، إن من يمتطون حمار الأسئلة، يحبون أرضهم ومحيطهم، وهم بسطاء أوفياء، وهم الذين يضحون ويدفعون الثمن من أعمارهم لتبقى أوطانهم عزيزة حرة، ولا يفوتني ذكر بيت الشعر الذي أختلف العرب على قائله أهو أبي فراس الحمداني أو أحمد شوقي أو قتادة أبو عزيز بن إدريس (بلادي وإن جارت علي عزيزة/ وأهلي وإن ضنوا كرام). تبدوا البلاد عليهم قاحلة لا تأبى بوفائهم. تحاصرني الفصول الأربعة، ومضارب البدو رائحة الشتاء، أضوية المخيم والبلاد القاحلة لكن الشاعر الذي يعاني من حصار الأسئلة، لا يستطيع إلا أن يمتثل للوصايا العشر، وفي ذلك إشارة إلى أن قساوة الظروف وصعوبة الحياة ليست مدعاة للتحرر والتحلل، فهذه الوصايا التي وإن عرفت في التراث الديني المسيحي واليهودي، فهي أيضاً في الدين الاسلامي، وهي صمام الأمان لعدم الانحراف، وليست مدعاة لليأس والعيش بدون ضوابط، وعي دعوة للتحلي بالصبر والتصرف بحكمة وعدم الانفلات، وهي دعوة للانضباط لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وقد اجتزأ الشاعر منها،» لا تقتل ولا تزن، لا تسرق ولا تشهد الزور» وهنا تبرز أيضاً الفلسفة النفسية، فالنفس أمارة بالسوء، ومن الممكن في حالة من اليأس أن يجنح السلوك للانحراف، فيخرج تحت عامل الضغط المعيشي من يقتل يزن أو يسرق أو يشهد الزور، ولذلك كانت دعوة الشاعر في نهاية القصيدة لمن أصابته هذه الأسئلة أن يكون متفائلاً، وأن ينظر للحياة بأمل، وأن لا تصدر عنه إلا الطاقة الايجابية التي تسهم في بناء المجتمع المتماسك الي هو كالبنيان المرصوص إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الاعضاء بالسهر والحمى «الحديث» فيختتم القصيدة بجملتين أمريتين هن كن عابقا بالزقزقات، كن عاقلا. ولتنشر طيبتك وطيبك ورائحتك الجميلة ولتنتشر في كل مكان، ولتحيل اليأس والبؤس إلى تغريدة طير تستمتع بها وتمتع الآخرين، وهي دعوة للتعقل والحكمة بعيداً عن الانفعال، فاستخدام العقل لا يقود إلا إلى الصواب. تحاصرني الوصايا العشر لا تقتل ولا تزن لا تسرق ولا تشهد الزور كن عابقاً بالزقزقات، كن عاقلاً هذه هي قصيدة أحزان الفصول الأربعة، نسدل الستارة على فصولها، إنها أن ترسم المعاناة فاغرة فاها، واستطاعت أن توظف المفردات الدارجة في عالم المألوف لتقول ما هو غير مألوف، وقد استطاع القاسم أن يشير بيده ويضع أصبعه على الجرح، بل يضع أصابعه على الجراح، ساعياً لتضميدها أو على الأقل، وظف قلمه ليضع خطوطه الحمر تحت المستفزات والمثيرات، فهو كمن يقف على منبر الخطابة ليقول هذه أسئلة تحتاج إجابات، فهل من مجيب؟ هل من حلول لما أثرت من مشاكل، فالشعور بالمسئولية والإحساس لا يضع حداً للمسائل العالقة والتي تلامس أحاسيس الناس وقلوبهم، ويتأثر بنتائجها كل الناس لكن سلبياتها لا تصيب إلا من كان ضمن الشرائح التي وردت في القصيدة. أحزان الفصول الأربعة أرق وقلق وشعور وإحساس وشكوى ومناجاة ومناداة، قصيدة تتكون من صفيح ساخن، وعالم أسود داكن، قصيدة كالعجلة تلف على مدار العام، وتحلق في علم الشعر كسرب الحمام. المصدر: بترا الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 01-03-2021 08:17 مساء
الزوار: 777 التعليقات: 0
|