|
عرار:
عبدالكريم أبو الشيح يبقى السؤال الوجودي الأكثر الحاحاً على الإنسان هو حول موقعه ووجوده المستقل وتمايزه كذات مشتبكة مع العالم بكل مستويات وجودها، ساعيا لإدراك كُنه هذه الذات وجوهرها، وغاية وجودها ومنتهاها، في قصيدته «محيط الغبار»[1] يضعنا الشاعر (الراوي العليم) أمام التساءل الوجودي الكبير والقديم قِدمَ الإنسان ، مَن أنا؟ وما موقعي في إطار هذا الوجود الشامل؟ هذا الوجود المليء بكل ما يمارس فعل الإقصاء والسلب للذات المفردة (ذات الشاعر/الراوي)، ويدفع بها نحو الإمّحاءِ والتلاشي في لججه القاحلة. والشاعر (الراوي) لا يجد مناصاً من الانفلات من هذا الوجود/الغبار إلّا إلى عالم الغياب الذي قد يحقّق به ذاته وفرادته وتمايزه عن هذا العالم الذي يُشظّيه ويسلبه وينفيه خارج هذه الذات المرهقة بالأسئلة المعلَّقة والتي لا يجد لها إجابة شافية. ونجد أنّ النص الذي نحن بصدده قد تماهى مع موضوعهِ من حيث البنية الكلية، إذ اتخذ البنية الدائرية ، فهو يشكل في معماره بنية دائرية مغلقة حيث بدأ الراوي بـ (فأُدخِلُ في بؤرة الظلّ ...ظلّي) بعد أن هيأ لهذا الفعل بوصفٍ يجسّد حالة موات المحيط ،ليُنهي النص كاملا بذات العبارة (فأُدخِلُ في خيمة الظلّ ...ظلّي) لعله يكف عن الأسئلة ... كذلكَ البنية الإيقاعية جاءت متناغمة مع هذا الخواء في المحيط حيث انبنى النص على تفعيلة فعولن التي تتيح للشاعر حريّة السرد من ناحية كما تتيح للمتلقي المسرود له استشعار البطء والخواء اثناء تتبع السرد، حيث ساعد في تمكين الخواء وبطء الحركة استخدام الشاعر لحروف المد في المقاطع التي يتجلّى فيها الخواء، كما في مفتتح النص (نهارُ بطيءٌ.. (كسحيليّة في ظهيرة أحلامها ) ومثل (هنا ...أو هنالكَ، كان معي صاحبي ..) كما جاء العنوان وهو عتبة النص الأولى التي نلج منها لعالم النص وفضائه، جاء العنوان مختزلا لموضوعة النص، حيث يوحي بالانغلاق والخواء ،فالمحيط منغلق على ذات الشاعر الباحثة عن منفذ للتحقُقِ وكأنما هو مستلًبٌ في هذا المحيط، وهو محيط لا يشي بالحياة، بل بالتلاشي والخواء، حيث هو محيط من غبار، والغبار بمقدار ما يوحي بالتناثر وعدم التماسك يوحي بالخواء، من ناحية ومن ناحية فهو يشكل حالة من الضبابية التي تحجب الرؤية الواضحة، وربما يصيب الرائي بالعماء بما يدخل من ذراته في عيونه، فلا يبقى له إلا البصيرة . ولحظة ولوجنا للنص نجد الرواي يبدأ بالوصف، وصف الجو العام المحيط به وصفاً دقيقاً لحيثيات المشهد مستعينا على ذلك بطاقة المجاز على تفجير وتكثيف الدلالة بما يمكّنه من وضع المتلقي في دائرة الحدث حيث يجسّد لنا معاناته من بطء الزمن الذي يمرّ عليه وهو مقيّد في غباره/خوائه، فالنهار الذي هو للفاعلية والحياة هنا نراه يزحفُ ويتمطّى تحت وطأة هجير الظهيرة، ظهيرة الأحلام التي باتت ثقيلة،وهذا الدم الباهت الذي ينسرب إليه مثل مساءٍ عجوزٍ متثاقلِ الخطى، على أيقاع أغنية متراخية فوق الشفاه تلابسها كثوب الحداد ثقيلةَ السواد.(نهارٌ بطيءٌ ..كسحليّةٍ في ظهيرة أيامها ، دمٌ باهتٌ،يعبرُ الجلدَ مثل مساءٍ عجوزٍ، وأغنيةٍ تتراخى على شفتي مثل ثوب الحداد). ويتابع السارد الوصف إذ ما زال جسده/جسد الشاعر هو مسرح علاقة الذات بالمحيط ، لكنه الآن ربما بعد أن عبره المساءُ العجوز يدخل في عالم الحلم حيث تسافر الوعول في مضجعه وتقتات من جسده ما تشاء ففيه (غبارٌ وماء وأعشاب ظمآى لذاك الثغاء)،ونلحظ هنا أن الحدث في الحلم كأنما يعيد التوازن النفسي للذات في مقابل الواقع المستلِب، فالوعول بما هي رمز للقوة والشموخ وبما هي في الميثيولوجيا لها حضورها، فــ « الوعل مسكنه الجبال فنظر إليه الإنسان القديم بإجلال كهالة لأنه على اتصال بالإله، وكان ينظر للجبل الذي تسكنه الوعول بأنه نقطة اتصال بالسماء والآلهة صانعة المطر والخصب، حتى الإله في الأسطورة السومرية كان يشبه بالوعل في نزوله من الجبل»[2] ، فهل غدا المضجع/الجسد على سبيل المجاز حيث أطلق المحل وأراد الحال به (الجسد)، هل غدا هذا الجسدُ في الحلم جبلا متعاليا على محيط الغبار الثقيل، كي تقتات منه الوعول وتروي أعشابه الظامئات لصوته ذاك الثغاء .(وعولٌ تسافرُ في مضجعي،وتقتاتُ من جسدي ما تشاءُ، غبارٌ..وماءْ وأعشابُ ظمأى لذاك الثغاءْ). فبينما كانت العلاقة استلابية بين الجسد والمحيط حيث الفاعلية للنهار البطيء والدم الباهت والأغنية المتراخية، نجد العلاقة في الحلم جدلية حميمية فالوعول تقتات من الجسد ولكنها تروي أعشابه، وللحفاظ على هذه اللحظة وتثبيتها يُدخِل في بؤرة الظلّ ظلّه يُخبئهُ في مدارج الحلم حيث النوم يتوعد عينيه في نهار بطيء حارق يقتل الظل ويستلبه والظل هو دليل وجود السارد لذلك يسعى للإبقاء عليه من خلال احتفاظه بزمن النوم أطول فترة ممكنه،فهو يهدهده برهة كي ينام.(فأُدخلُ في بؤرة الظلِّ... ظلّي، أخبئهُ تحت جفنيَّ. حيث الكرى يتوعّد عينيَّ بالاحتراق. أهدهده برهةً كي ينام). ويتابع السارد سبر ما يعتمل بهذه الروح القلقة من فكرة الامّحاء والتلاشي في محيط الغبار من خلال سرده المونولوج/الحديث الداخلي للأنا الساردة/أنا الشاعر، فهو يهدهد الكرى كي يتحوّل إلى نوم إذ الكرى هو تَجلٍّ لحالة القلق فهو بين اليقظة(النهار) والنوم (الحلم)،لذلك يسعى لسحبِ الكرى باتجاه النوم كي لا يُراقَ دمُه فيتلاشى ويمّحي، وفي صراع الذات لتحقيق وجودها يخاطب جدولاً به مفعما بالحياة منذ المهد، وهنا نرى السارد ينتقل من الحديث الداخلي بضمير الأنا للحوار الخارجي بضمير الخطاب (أنت) حيث الجدول بما هو دلالة للحياة(الماء) والتجَدُّد( الجريان)،مؤكداً على هذه الدلالة بـ(مثقلاً بالغوايات)، فالغواية فعلٌ ذاتيّ متجددٌ وفيه ميلٌ وانحراف عن السائد (محيط الغبار)، فهو يحقق وجوده المراد. ويخاطب السارد /الشاعرُ النهرَ بأن يميل إليه وأن لا يمتثل لجنون المياه الذي يؤدي لمسّرة الشجر وغبطته، هذا الشجر المذعن والمتماهي مع المحيط فهو يحتمي بهاجرة النهار من ظله وهواه في حالة من الجمود التي لا تثبت إلا تلاشي وامّحاء الشجر في المحيط ولا تمنحه وجودا حيويا فاعلا مستقلاً.(وكي أتحاشى دمي أنْ يُراقْ...أخاطبُ بي جدولاً مثقلاً بالغواياتمن مهده، ألا أيها النهرُ عرّجْ عليّ، ولا تمتثل لجنون المياه،إنّ هذا الجنوح يقود إلى غبطةالشجر المحتمي بهجير السواحل من ظلّه وهواه). ولماذا يطلب الشاعر من النهر أن يعرّج عليه لا على الشجر؟ ففي المقارنة التي يعقدها السارد بين الشجر الذي يمتلك وجوداً ثابتا متماهيا مع المحيط لا استقلال فيه، فإنّ الذات الشاعرة /ذات السارد لها إمكانيةُ جودها المستقل المتحرك الفاعل الذي تسعى لتحقيقه ، فأنا الشاعر أفق ممتد فسيح ولكنه محجوب بواسطة الرياحْ وظلٌ(نكرة) يحاول أن يسحب الضوء الذي يقتل ظلّ الذات الشاعرة(وجوده) ، ففي هذا الفضاء /الأفق كان مهر بما هو رمز للفاعلية والنشاط ولم يروّض بعدُ ولكن كل ما حوله يسعى لذلك؛ جوقة العازفين، جيوش النمل،رجالٌ بلا أعين يحلمون ، سيف الخليفة، وصمت يبوح بالقهر الذي هو آخر ما عبأته البلاد. (وأنا أفق غيّبتهُ الرياحُ،وظلٌّ يحاولُ أنْ يسحبَ الضوءَ من كمِّ هذا الفضاء،وتتبعه جوقةُ العازفينَ ،جيوشٌ من النملِ كانت تعبيء أحداقهُ، ورجالٌ بلا أعينٍ خلفهُ يحلمون،هنا كان سيف الخليفة يرقدُ مستسلما لنعاسٍ قديم، وصمتٌ يبوحُ، بآخر ما عبأته البلادُ التي أخرجته عن الصمت قهراً ..) هنا في هذا الفضاء ..في بلاد مقهورة وفرةٌ من الحياة ،ساحلٌ كان محجّا لطُلّلابِ الحياة ، ويقفز بنا الشاعر فجأة لسؤال مركزيّ وجوهريٍّ من أسئلة الوجود المقلقلة ، هل هناك وجود مستقل تماما عن العالم المحيط ؟ أم أنّ شرطَ وجودِ الأنا وجودُ الآخر (كيفَ يَدخلُ ظلٌّ بظلٍّ ،ونهرٌ بنهرٍ ، إذا كان لا بد للضدِّ أنْ يتنفّسهُ الضدُّ كي لا يموت) ، وكأنيّ بالسارد هنا يرفضُ الامّحاء والتلاشي والتماهي بالمحيط والغاء التضاد الذي به يتحقق شرط الوجود الحقيقي المستقل فالضد يعترف بوجود الضدّ ويتنفّسه لأنه يتحقق به وباستقلاله عنه . والسارد إذ ينفي قدرة المساء على بناء الحياة في حقول الخراب يضيء شمعة يتقي بها التلاشي ليصنع بها غيابه الخاص، هذا الغياب الذي هو غيابٌ عن الامّحاء في هذا المحيط لذلك هو يغلّقُ أبوابه خلف ظلّه ويغيب ...وهذه الأبواب هي ذاتها جفنيه أللذين خبأ فيهما ظله قبلاً( فأدخل في بؤرة الظلّ ظلّي أخبئه تحت جفنيّ)، (كيف يبني المساءُ لأعشاشه خيمةً في حقول الخراب؟؟ أنا أتّقي بيد الشمعِ جمر غيابي، وكلّ ارتحالٍ يُغلّقُ أبوابه خلف ظلّي ويمنحني فرصةً للغيابْ). ولمّا لم تجد الأنا الشاعرة ضداً تتنفسه لم يبقَ سوى خيارين هما؛ إمّا الامّحاء في محيط الغبار أو الصراع لتحقيق وجودها المستقل، وهنا ينقلنا السارد إلى خيار الأنا الذي تسبّب في اغترابها عن المحيط ، ألا وهو الصراع، حيث يجسد من الغناء الذي هو رمز للحياة الممتلئة والمفعمة بالفاعلية التي هي الخيط الذي يربط (الوعول بالمهر بالغناء) ولكنه الغناء الذي أرّق الأنا الشاعرة وقوّض روحها /روح السارد وزرع الشوك في حنجرته الناشفة وألقاه في غبار التسوّل ، فهذا الغناء لا تقوده جوقة العازفين هو غناء متفرد... غناء روح مفردة تبحث عن ملامحها الخاصة في غابة من الموت (محيط الغبار)، وينتزع السارد/الشاعر من أناه أخرَه المتحرر الذي يمضي لشارع لم تظأه خطاه ،كانا غريبين، كان آخره مثله غير أنه لم يكن مثل آخره، فآخره (شخصيته الأسطورية بمعنىً من المعاني) ما زال باحثاً مصارعا كل هذا الغبار ،فيما هو بدأ يتسللُ إليه التعب حتى استوى حجراً متشيئاً منحنيا، وقد أرهقه الخوف أن تركه آخرُه وغاب في موقف الحافة ،وأسلمه للموت غريبا، حيث يغدو توأماً للطاولة في تشيئهِ، وفي ختام القصيدة ينقل السارد مونولوجا جزينا بائسا حيث يتذكر آخره الذي اختفى بغتة ، غير أنه يأمل أن يجتمع به في موقف الحالفلة فيكتمل ويُدخلُ في خيمة الظلّ ظلّه .....ويكف عن الأسئلة أيهذا الغناءً الذي لم يؤرّق سواي، أيهذا الغناء الذي لم يقوّض سوى عرش روحي ولم يزرع الشوكَ إلا بحنجرتي الناشفة، كيف ألقيتني في غبار التسوّل لمّا تكَسّرَ منّي الجناحْ، وغربتني عن دمي، وشواطئ حلمي وألبستني غير تلك الثياب، وبدلتَ وجهي، وزيتونة ًكنتُ أوي إليها إذا ما تعثّرتُ أو داهمتني الغيومْ،... فمضيتُ أفتشُ في غابة الموت عنّي، وحدّقتُ بي ، كنتُ مثلي ، توهّمتُ أني أنا، ذلك الرجل المتحرر من صوته... كان مثلي ولكنني لم أكنْ مثله، فأنا حجرٌ متعبٌ بجزيئاته وغواياته... كيف وكيفَ وتغتالني موجةٌ من الأسئلة، وبي قلق أن يُقاسمني الكأس موتٌ وتصبح توأميَ الطاولةْ... هنا أو هناك، كان معي صاحبي، كنت آوي إلى حضنه إذ توجّستُ شيئا ويأوي إليّ إذا طوحته اليد القاتلة، واختفى بغتةً... ربما بعد هذا البكاء الأليف، سيرجع ذاك الذي كان فيّ ويجمعنا موقف الحافلةْ، فأدخلُ في بؤرة الظلِّ ظلّي لعلي .. لعلي .. لعلي أكف عن الأسئلة) [1] ـ مقدادي، محمد ، ديوان طقوس الغياب ، متبة لكل بيت عمان/الأردن ص5 [2] ـ الدغيشي ، حمود ، قراءة في ميثيولوجيا الوعل ، جريدة عُمان ، 19/9/2024 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 17-01-2025 06:59 مساء
الزوار: 21 التعليقات: 0
|