التشكيل اللوني في «أنثى السّراب» للشاعر بكر السواعدة
عرار:
فاطمة الزغول يحمل التشكيل اللوني في الأنثروبولوجيا، والثقافة الإنسانية دلالات متنوعة، مرتبطة بالمجتمعات، وثقافتها. كما ترتبط تشكيلات اللون ودلالاته، بالتطور الزمني للمجتمع الواحد؛ فقد يعطي اللون الواحد دلالات متعددة حسب ثقافة المجتمع، وحسب تعدد الرغبات الفردية، والانفعالات الحسية التي يعكسها اللون في نفسية الفرد. وقد تختلف هذه الانفعالات من شخص لآخر، كما قد تختلف لدى الفئة الاجتماعية الواحدة من زمن لآخر؛ فعلى سبيل المثال: يعبر اللون الأحمر عند البعض عن الخطر، والدم، والقتل، في حين يستخدمه البعض الآخر في أعياد الحب، للتعبير عن الرومانسية. ودخل التشكيل اللوني في قصيدة الشعر الحرّ، واستخدمه العديد من الشعراء في التعبير عن الانفعالات الحسية لدى الشخصية التي تدور حولها القصيدة، أو عن انفعالات الشاعر نفسه تجاه ما تعكسه الألوان من انطباعات شعورية، ومن القصائد التي حملت في مضمونها تشكيلاً لونياً مثيراً، قصيدة من ديوان (من تحت الرماد) للشاعر الأردني بكر السواعدة، والذي صدر ضمن فعاليات اختيار مدينة مادبا عاصمة الثقافة الأردنية عام 2012م،وتحمل القصيدة عنوان (أنثى السّراب)، وهي موضوع مقاربتي التحليلية في هذا المقال، للوقوف على التشكيل اللوني الذي تحمله. (أنثى السّراب) في ذلك البركان ألقت سرّها دفنته، ثم تبسمت للشمس، في وضح النهار كانت تظن الشمس تكتم ما رأت. عنون الشاعر قصيدته بعتبة مركبة من مسند ومسند إليه، (أنثى السّراب).والعنوان مثير للدهشة؛فالأنثى التي تحمل عنوان القصيدة مُتشكّلة من السّراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا اقترب منه لم يجده شيئاً.ويبدأ الشغف لدى المتلقي لمعرفة سرّ هذه الأنثى؛ما يدفعه إلى متابعة القصيدة. وتحمل الأبيات الأولى من القصيدة،دلالات تُشير إلى الرجوع التنازلي بالأحداث التي تجسد حالة إنسانية للمرأة المكبوتة، فالأنثى التي رمز إليها عنوان النص، ألقت بسّرها في ذلك البركان، ثم دفنته، وبعدها خرجت مبتسمة تحاول إظهار عكس ما كتمت عن الناس في الوضوح والعلن.وهنا نجد أن اختيار الشاعر للألفاظ يحمل بعداً ميتافيزيقياً يجسد فيه الطبيعة تجسيداً حسياً دقيقاً؛ فالبركان يحمل في داخله لهيباً، ولكنه يبقى هادئاً ساتراً لما دفن في أعماقه مدة من الزمن. ثم يهيج بعدها، ليكشف،ويخرج كل ما بداخله من لهيب. وهكذا هو السر الدفين في نفس الإنسان؛ لا بد له من الخروج في يوم من الأيام بثورة غضب.ثم يجسد الشاعر الشمس بأنثى أخرى تراقب الموقف من عليائها.وفي الوقت الذي ظنت الأنثى عندما دفنت سرها أن الشمس ستكتمه،نجد أن ضوء هذه الشمس يحمل رمزية الوضوح التي ذكرها الشاعر في قوله:(في وضح النهار)، وكشف كل ما غطّته العتمة؛ فهل تخفي الشمس ما سطع عليه نورها؟ واستخدم الشاعر في الأسطر السابقة من القصيدة صوراً مجازية، واستعارات بلاغية عبّر من خلالها عن حالة الحزن الذي تعيشه الشخصية التي تدور حولها القصيدة، والتي تكتم حزنها في أعماق قلبها، كالحمم البركانية المكبوتة في أعماق المحيط، فهي تبدو للناظرين هادئة مبتسمة، وفي عمقها لهيب من الحزن المكبوت. رسمت لها في الطّيف سبعة أبحر، ولكل بحرٍ قصةٌ: زرقاء، من لون السّماء تنفست عبق النسيم يداعب الموج الحنون حمراء، ينزف جرحها؛ حزنا على ألم السنين بيضاء، تغرس حُرقةً للجمر في جوف الجليد فتنبت الألحان، تصدح بالأهازيج التي عُزفت على وتر الأنين سوداء، ألبسها الرداء الليل كالكحل اشتياقاً للعيون صفراء، أخجلها المبيت على فراش الوهم فلم الهروب؟ تصف الأبيات السابقة من القصيدة، ما فعلته الشمس بأسرار تلك الأنثى؛ فلقد عكستها بألوان الطيف السبعة، لتظهر كل ما تخفيه من حالات نفسية، وألوان من الطبيعة البشرية المنعكسة على انفعالاتها الحسية.ليجسد الشاعر في هذه الأسطر تشكيلاً لونياً لكل ما تحمله ألوان الطيف السبعة من دلالات في نفس تلك الأنثى، فأول لون ظهرت به الأنثى، هو اللون الأزرق، والذي حمل دلالة رمزية للصفاء في نفس الأنثى المنعكس من زرقة السماء التي تنفست رائحة النسيم الهادئ في الفضاء؛ فهي ممتلئة بالحنان، والرقة، والنقاء، مشبهاً لها بالسماء الزرقاء الصافية، التي يداعب موجها النسيم العذب اللطيف. وهذه الأنثى ظهرت في السطر التالي من القصيدة بما يعكسه اللون الأحمر من انفعالات حسية؛ حيث حمل هذا اللون دلالة الدم النازف من جراحات تلك الأنثى، والذي عكس حزناً، وألماً من سنين عديدة. فسرُّ تلك الأنثى هو حزن تشكَّل من معاناة استمرت سنين ممتدة، سببت جراحاً تنزف دماً، دلالة على عمق الأسى الذي تحمله هذه الأنثى، محاولةً إخفاءه في أعماقها. وفي السطر التالي من القصيدة، بدت الأنثى باللون الأبيض، لكن بياضها النقي بدا كالجليد البارد، وقد غُرس في جوفه جمرٌ حارق، فتنبت من هذا الجمر ألحانُ معزوفةٍ على وترِ أهازيجه، وأنغامه الحزينة تصدح بصوت الأنين والألم. وهذا تصوير بلاغي مدهش، رسمه الشاعر للحالة النفسية لأنثاه، أبدعه من خلال التشكيل اللوني، ورموزه الدلالية في وصف أنثاه التي اعتصرها الحزن، فصارت سراباً، كصورة جميلة لكن لا حياة فيها. تظهر أنثى السراب في السطر التالي من القصيدة بالدلالات الحسية للّونا لأسود الذي ألبسها رداءه الليل، مشبهاً له بالكحل الذي يرتدي العيون، فهذا الحزن الذي يشبه عتمة الليل يشتاق لهذه الأنثى، كما يشتاق الكحل للعيون، فكأنها مخلوقة للحزن، مرافقة دائمة له. وفي الموجة الأخيرة من ألوان الطيف، تظهر أنثى السّراب في لونها الأصفر، الذي يحمل في نفسها دلالة الخجل، فسبب خجلها هو مبيتها لمدة طويلة على فراش الوهم؛ فهي تخفي في داخلها سراً تعيشه وهماً،كي لا يكشفه أحد.وهنا تظهر شخصية الشاعر موجهاً سؤالاً لأنثاه،يناديها أين الهروب؟ ليكشف لنا بوضوح أكثر ماهية السّر الذي يؤلم أنثاه، فتجتهد في إخفائه، هاربة من واقع مليء بالحزن والآلام. تفنن الشاعر في السطور السابقة من القصيدة بالاستعارات، والمجازات، والصور البلاغية، فالليل ألبسها رداء، والكحل يشتاق للعيون، والوهم فراش، فالقصيدة مكتظة بالرموز البلاغية، والدلالات الإيحائية التي عالج الشاعر من خلالها قضية من قضايا المرأة، التي تتحمل ضغوط الحياة بصبر، مخفيةً رغباتها التي لا تستطيع البوح بها، خوفاً من نظرة المجتمع المترتبة على ماهية هذه الرغبات. أنثى السّراب، ما سُّرك المدفون إلا صبوتي فأنا أسير، أسير عينيك المشبعة اشتياقاً للجنون ولست أرجو فكّ أسري... بل إنني سأظلُّ مهما طال ليلي أقتفي ضوء الصباح، لأنه جسري إليك وليس في عينيّ إلا صورة الحلم الموشى بالسراب بدأ الشاعر في هذه الأسطر الأخيرة من القصيدة، يكشف حقيقة ذلك السّر المدفون، الذي حاولت أنثاه أن تخفيه، لكنه يعلمه، فهو صبوة العشق الذي تأجج في نفس الشاعر ونفسها. فهو يسير في الحياة وهو أسير مكبّل بعينيها المشبعة بالاشتياق لجنون العشق. لكنه رغم هذا الأسر لا يطلب الخلاص، بل يعدها أنه سيبقى مهما طال به ظلام الليل يبحث عن السبيل إلى ضوء الصّباح، فهذا الصّباح الواضح، هو ما ترجوه أنثاه، فهو الطريق الوحيد إليها، لأنها لا تحب العلاقات المخفية في ظلمة الليل، فالشاعر يواصل مسيره إلى تلك الأنثى، وليس في عينيه إلا صورة حلمها الذي يوشّيه السّراب. تحمل قصيدة التفعيلة هذه، والتي بنيت على تفعيلة (متفاعلن) على وزن بحر الكامل ، نغماً موسيقياً هادئاً، مناسباً لنبرة الحزن التي تسيطر على القصيدة، والتي تحمل وحدة موضوعية تدور حول حدث واحد، هو ذلك السّر الذي يدور بين الشاعر وأنثى السّراب. وقد اجتهد الشاعر في رسم الصور البلاغية، واستخدام التشكيل اللوني، والصوتي، موظفاً جماليات اللغة، وعناصرها البلاغية من مجاز واستعارات وطباق، وتشبيه، في نسيج محكم،شكّل تناغما صوتياً هادئاً، نقل من خلاله مشهداً لونياً ،مسكوناً بعمق العاطفة، وجمال الشاعرية، ليبرز من خلال قصيدته قضية إنسانية للكبت العاطفي لدى نموذج من النساء.