قراءة نقدية في رواية" الدجال" للاديب شوقي الصليعي اعدتها الناقدة والكاتبة منى البريكي
عرار:
ربما كانت القراءة بالدرجة الأولى عملية تشرُّب، رغم ان الوعي
يغرق فيها كليًا، إلا أنه يغرق بطريقة تناضحية غير ملحوظة، بحيث لا تدرك العملية. إذن فالقارئ المصاب بفقدان الذاكرة الأدبية يتغير بالتأكيد بفعل المطالعة، لكنه لا يلاحظ، لأن الجهات المختصة بالنقد في دماغه تتغير أيضًا أثناء القراءة وهي التي تستطيع أن تقول له إنه تغير أم لا. وبالنسبة لشخص يكتب، فقد يكون المرض نعمة، بل وتقريبًا شرطًا لا بد منه، يحفظه من الهيبة الشالة التي يوحي بها كل عمل أدبي عظيم ويمنحه علاقة غير معقدة أبدًا مع الانتحال، الذي لا يمكن نشوء شئ حقيقي دونه.
باتريك زوسكند
للروائي قدرة فائقة على الحكي فهو حكاء جيد..
ويملك من أدوات الحكي ما يجعل حكايته تنفذ لأعمق أعماق شخصياتها المحورية و العرضية أيضا .
فكان كمن يمسك بمرآة كاشفة تظهر أعماق النفس وخفايا الوجدان ، ومسارب الفكر إضافة الى نجاح منقطع النظير في وصف الأمكنة و المناظر الطبيعية ببلاغة لغوية استقت تناصا غريبا من النص القرآني كما عادت بنا الى الشعر العربي القديم و دعتنا الى مطالعة كتب اخرى و أدباء و شعراء وقعت الإشارة إليهم.
والكاتب يمتلك الكلمة و المقدرة على تطويعها حتى ليخيل إليك وأنت تقرأ لشوقي الصليعي ، صورة حاو يمسك بمزماره و يجعل الثعابين تتلوى رقصا على نغماته أو ولي صالح ينجح في اقناعك بولوجه إلى عالم الجن و العجائب .
فالكاتب ذو طاقة فائقة على إثارة الحرف وجعله يبوح ، بما يريده لأبطال الرواية .
ويميل الصليعي الى السخرية الشفيفة من بعض شخوصه فيغدق عليهم أوصافا تجعل القارىء بصدد مشاهدة صور كاريكاتورية نقدية بامتياز ثم يعود لشخصية المبدع هذا الفنان الشامل فيرسمها في لوحات سريالية و رومانسية بريشة رسام خبير بالالوان و القيم الضوئية التي تنعكس بجلاء في كل الفصول المهتمة بالادب و الشعر و عالم الثقافة . حتى ان شاعرته و ملهمته تقول :"ان أنامل لم تغمس في صباغ الألوان و أجسادا لم تراقص الموسيقى و شفاها لم تقرض الشعر ،مؤهلة لكل ضروب الشرور. "
بهذا الخطاب على لسان الشاعرة الذي جاء جملة اسمية مركبة يبين الكاتب اهمية الفن الذي يصقل النفوس و الارواح و يسمو بها و هو اختيار صائب يجنبه الخطاب المباشر فيلتزم الحياد شكلا و هو يروي لنا القصة .
"يا له من هذر ملائكي ذلك الذي في أفئدة الشعراء ؛يختلف نهائيا عن الفحش الذي تعودت الإنصات اليه في كل مكان...."حذام .
الشاعر عمارة الهداجي مثال للابداع و حياة بوهيمية كادت ان تودي به الى الهلاك و كان قدر الادباء التعاسة الابدية .
حتى الغانية التي الفت بيع جسدها تحتاج الى مداعبة روحها بغزل يشبعها و يسمو بها على وحل طينها الاسن فتختار الشاعر المهلهل على" النغل"صاحب السيارة و المقابل المادي لخدمة اكرهتها الظروف على تقديمها لكل عتل سافل .و تثملها كلماته الى حد مكافاته بقبلة وقحة افقدته الصواب و هو المحروم و كان قدرها ان تكون بائعة هوى بالفطرة . و لهذه الواقعة ما يبررها في شخصيتها المنفلتة و المضطربة فقد عادت بشاعرنا الى الارض ليتخلص من عبء سرمدي لازمه لستة عقود لم يكتشف فيها طعم الانثى الا خيالا و قريضا.حين يحلم بايقونته مريم فينثال القصيد كالسيل .
اما هاشم فيبقى هائما بين وجه ملائكي يلهمه و شخوص تفرض نفسها على مخيلته لتملا خواء المدينة التي تضج بالمصطنع فيمقتها و تستحيل الحياة فيها كسيحة بلا روح (ص95 )
فيلجا الى استرجاع جنته الضائعة. تلك القرية التي كانت مرتع صباه .و هي الان تحتضن متجره الذي يحوي اعمالا فنية و يبقيه في تناغم و تواصل مع عالمه الفني .
و تصبح الدموع وليمة تستدعي جنيته في ابهى حلة حين يتقاسم وجع الابداع مع" جوليت" التي صدقت تداخل خياله الخصب مع واقع وجود الودعة المؤنسة. فهي تشاركه جنون الفنان .
"ان خطيئة المراة الكبرى ،تكمن في لحظتها الشعرية المراهقة التي ما تزال تؤبدها منذ سنوات الجامعة في محبة رجل مخادع تافه " مريم .
شارلوت :"على الطبيعة ان تحاكي الفن "
تستمد لوحاتها من صور جسد فتاتها الذي هو نتاج للطبيعة فتضفي عليها من روحها لتصبح الصورة نتاجا فنيا يتفوق على الطبيعة بما بثته فيه خيالها الجامح و ما زينته بريشتها الخلاقة
ص 124 نص وصفي عانق الروعة لمشهد الفرقة الموسيقية وهي تعزف سمفونية "بحيرة البجع " و عرض الباليه الشيق.
غازي ايوب صحفي متسلق و متزلف و بالمقابل هاشم الباداني فنان شامل وملم يبرح في النقد بلغة الضاد التي يفضلها و يظهر ذلك في مقارنة مستترة بينها و بين العامية .
و هنا ايضا تظهر ثنائية "اليسار/يمين"في الرواية و يتجلى انحياز الكاتب رغم تعمده التستر وراء شخصياته و ابتعاده عن التقريرية المحضة ص127
في الصفحة 132 يحيلني وصف القطة بالعاهرة الى وصف منيف أوزة الصياد" بالزانية ". في "حين تركنا الجسر"
الهداجي يعتبر نفسه مقصلة تاريخية للفن و ينقد ما يقرأه بعين اكاديمية لا تخلو من الذاتية رغم انه موضوعي و متطلب الا انه ينحاز للغة المعجمية المبهرة ص137 و يسمي الاسماء بمسمياتها في زمن استشرت فيه الرداءة و انعدمت الذائقة الفنية الرفيعة و توارى الابداع خلف حصون الفقر ليفسح المجال لثقفوت متسلق لا يرعوي عن نشر التفاهة .لكنه يقر ان المبدع الحق لا يموت حتى و ان بخسه مجتمعه حقه فكافكا مثلا لم تشتهر كتاباته الا بعد رحيله و بعض الادباء العرب لم يشتهروا الا خارج الحدود .بيد ان النقد اصبح طوع اقلام مأجورة .
"اينما ثقفوهم" عبارة مستمدة من الرصيد اللغوي القرآني يبدو أنها تحيلنا الى غاية في نفس يعقوب كما يقال.(ص113 )و يتواصل العب من النص القراني بعبارات متقنة المعنى "ميمما بصره شطر لوحة البورتريه التي تجسد صورة مريم"و كأننا في لحظة صلاة و خشوع أمام عمل فني يبديها هاشم في جو صوفي هادىء
لا يقوضه غير هجوم المتطرفين الهمجي الذي وصفه الكاتب مستعملا ايضا مفردات من القرآن تصف عملهم و دناءة ما تفوهوا به (رجس من عمل الشيطان /يتميزون من الغيظ ...تطفح وجوههم بتعبيرات التشفي و هم يهللون و يكبرون )
و يجد القارىء نفسه أمام أحداث موغلة في الواقعية لينخرط تلقائيا في التنديد بهؤلاء المتسترين بالدين أعداء الحياة.
الجنرال" شخصية ثانوية تتدفق دلالات و معان فهو راو في ثوب حاو و ماسح نعال ينتظر مسح نعليه من غبار الحمق الذي رافقه في شبابه لما كان كالحمار يحمل اسفارا.و يصبح انتظار الاعتذار من ميت ضربا من الجنون و المطلب الشرعي هذيانا حين يكون خارج النص و الاطار الزمكاني المناسب
وقد ارتأيت تقسيم هذا المسعى التحليلي إلى محورين عامين:
-1جمالية الانسجام بين النصوص:
أبحث من خلاله عن أشكال التعالق الجمالي بين فصول الرواية في أفق القول إن الكاتب أنتج لنا فصولا عنونها بمقولات خالدة لأدباء عالميين لتعكس رؤية جمالية واحدة. وهنا تتبعنا القيم الفنية حيث تذعن نصوص فصول الرواية لخطاب إبداعي قائم على فتح المسالك أمام القارئ لتلمس عوالم الفن في صور الحياة الإنسانية. و يتفنن الكاتب في رسم نصوص وصفية للامكنة و الجمادات و الحيوانات و الظواهر الطبيعية ببلاغة تنهل من جمال اللغة العربية و محسناتها البديعية فيستمتع القارىء بمشاهد تلفت انتباهه إلى كل الجزئيات وكأنها رسمت بريشة فنان خالط الأصباغ والألوان و استعمل كل التقنيات و المحامل.
أما المحور الثاني:-2مكونات الشخصية و التيمة التي ركز عليها الكاتب .
فقد حللت فيه مكون الشخصية انطلاقًا من خصوصية التصوير السردي. وهذا ما قادني إلى استخلاص عدد من الصفات الخاصة بشخصيات الرواية ، من قبيل رهافة الإحساس، والهشاشة، والمعايشة المستمرة لعالم الخيال
.و أبدأ بالعنوان الذي يخلق أسئلة كثيرة في ذهن القارىء ولماذا البحث عنه؟ وكيف ستقدم عوالم السرد صورة هذا البحث الإشكالي؟ لنجد أنفسنا في آخر الرواية أمام شرح مبسط للبنيوية المتبعة و تفسير لكلمة الدجال ليصبح الراوي الحالم هاشم الباداني و الروائي المبدع شخصية واحدة فيُلقي الضوء على كل الأسئلة التي جالت بذهن القارىء و يفك شفرات العنوان.
أما الشخصيات فقد بنيت على ثنائية واضحة للعيان (المثقف الحقيقي المبدع و الفنان /المتسلق الكذاب المتطرف )و كل الشخصيات الثانوية أيضا تجول ضمن هذا التقابل بين هاشم المبدع و الناقد الدعي غازي .
فلنتابع أحداث الرواية لنتأكد من ذلك
: يبدي "هاشم الباداني " حاجته لمعرفة ملهمته الشاعرة و يعيش صراعا قبل أن يلتقيها ليعيشا تماهيا و انسجاما شعريا و ثقافيا لا مثيل له و يتوقف السرد التصاعدي لتقديم شخصية "مريم " بوصفها امرأة مثقفة و شاعرة نشأت في أحضان أم رسامة
وفي فقرات الفصل الأخيريعود الكاتب ليخبرنا عن اللقاء الأول مع هذه المرأة الغامضة:
إلى هنا يكتمل التصور المنسجم للأحداث و الشخوص وتتضح صورة الاتحاد بين الواقع والخيال في وعي السارد؛ فالشخصية التي أراد "" تطوير التواصل معها لا تنتمي إلى الواقع الحقيقي بل كانت مجرد طفلة صغيرة عابثة " رفضت المكوث في مخيلته ، وقررت مصاحبته في واقع إنساني. وهذا التعايش او التمازج لا يتم إلا بالتأثير القيمي في النفوس، وعبر امتلاك القارئ الشغوف بالمطالعة والاستمتاع بالأدب.
واعتبارًا لهذه الخصوصية التي تظهر بها شخصية السارد يزول بعض الالتباس عن عنوان الرواية "الدجال "، ويتضح أن البحث المقصود هوذ البحث عن القيم الفنية الأصيلة والأمل في معايشة الخيال اللذيذ والاستعاضة به عن الحياة الواقعية الباردة. ولأن الكاتب ممتلىء بالأدب حد التخمة و لما كان لشخوص الرواية من تأثير عليه، فقد وصل- في نظره- إلى معاني الحياة التامة؛ فانطلاقًا من لحظة تعرفه على "الفتاة الصغيرة " وقع على الأمل المنشود في حاضره ومستقبله
بهذه الصورة إذن، تتحول القراءة إلى بحث عن القيم الفنية المفتقدة. وقد عمد الصليعي إلى وسم هذا البحث الفني بسمة الثقافة الأدبية من خلال تكوينه لشخصية السارد (هاشم الباداني ) تكوينًا ثقافيًّا يسمح له بممارسة البحث عن حياة الفن وبهجتها بالغرق في بطون الكتب إلى الحد الذي تنتفي معه الحدود بين التخييل والواقع. وفي بقية الفصول يجري الكاتب بحثه عن القيم الأصيلة بأدوات مغايرة وبرؤى إنسانية تسع رحابة العالم وتعدده الفريد؛ يفعل ذلك ليمنح للقراءة الخطية لروايته انسجامها الفني والفلسفي العميقين، وليفضي بالقارئ إلى ملامسة العالم في تعدده الإنساني لا ينفي الاتفاق في البحث عن الحياة والفن والعاطفة والجمال .ليكون دجالا تستسيغه العقول و تحبه الأرواح.
عندما أكملت قراءة "الدجال " تأكدت انه ينتمي إلى الواقعية النقدية بما تثيره في الحرف من طاقة تجعله أكثر ارباك و استفزاز للقارىء
والرمزية واضحة و مبثوثة في كل صفحات الرواية مما يزيد من جمالية النص.