تأملات في ديوان «مدن في مرايا الغمام» لمحمد البريكي
عرار:
ناظم ناصر القريشي
لا شيء يشبه الشعر إلا الكتابة عنه...
في البدء كانت الكلمة ثم الإنسان ثم كان الشعر خلاصة الحياة وأثرها في الكتابة وسرها الذي يبحث عن سر، والحياة هي ذاتها سر والماء سر الحياة الأكبر والشعر سر الماء والحياة في حضوره المدهش، هذا ما يخبرنا به الشاعر محمد عبدالله البريكي عبر ديوانه أو كتابه الشعري وهو كذلك (مدن في مرايا الغمام) والصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول، والذي ضم أحدى وعشرين قصيدة خصصها لمدن عربية ومن هذه المدن (بغداد، أم القرى، القيروان، الشارقة، القاهرة، بيروت، دمشق، طنجة، مسقط، عمّان)، لوحة الغلاف رسمتها الفنانة التشكيلية إيمان المعدي، بتجريد أخضر مائي بتدرجات النعناع، ويتحول بامتداده الى أزرق سماوي بتدرجات لازوردي على البياض وهذا ما يشبه الحلم، فأي فكرة مطلقة للشعر تصوغها الكلمات والألوان، وأن تكون في غيمة بين لونين في زمن واحد، فتتعاكس الفكرة على مساقط الضوء في المرايا، فنرى عبر بانوراما الشعر الذي أبتكرها الشاعر وجعلنا نقرأ ونشاهد ونستمع الى الشعر وكأننا نلمس فيه روح الموسيقى، وهو في صورته الطبيعية؟ تلك هي حقيقته الأولى التي نبع منها وتجذر حتى غدا شجرة من غيوم سميائها الحياة في حضورها الأمثل وثمارها المطر، وهي الحقيقة التي تشبثت بحلمها وتحاول أن تتحول الى خيال، والتي أختزنت عبر مرايا الكلام أجنحة الموسيقى الفضية وهي تلمع في ضوئها الشفيف كالندى، كأجراس المطر تحت شغف الفكرة وهي تهبط أنغام على مفاتيح البيانو، ويكملها صوت (الكونترباص) في (أوكتافه) الواسع وامتداداته على قوس الكمان ويرافقه صوت الفلوت وهي تعزف الفرح في الريح، يحفزها يقودها في تناغم مثمر بين الشعر والحضور في الكلمات الى النشوة، والتصوف، والحب الصادق والمتبادل، هذا التناغم الموجود والمرسوم كالضوء على مرايا الغمام في قصائد الديوان و الذي يشعرك بالسعادة والحبور، وبقلب نابض بين الكلمات، فهل كان شعراً أم هو تعاكس الضوء في المرايا...؟ فالشاعر تطلع إلى الأفق، ثم نهض ذاهباً إلى الحلم، وكأننا نحدق في هذا الحلم الذي يعكسه نسيج القصيدة المتماوج، فتأتي فكرة اكتشاف عوالم هذه المدن من خلال قصائد الديوان، والعلاقة بين الشاعر وبينها، فنتبع كلمات الشاعر وهي تأخذنا الى الحياة التي يكتبها، إلى عالم الدهشة والحلم، ونحن نقرأ لنحيا من جديد في مدن في مرايا الغمام والتي ستبدو أنها تظهر كشعاع ضوء صوفي يسعى إلى تمام كماله، عندما تتوهج الكلمات وتمر عبر الموسيقى فتحضر بكامل سحرها وجمالها، هذه المدن هنا، والتي تركت تأثيراً مثيراً للاهتمام في نفس الشاعر، عبرت بنا في رؤية بصرية أبحرت بعيداً، وفتحت أمامنا كمشاهدين للشعر عوالم الحياة فيها ،كماهي وكما نريد وكما كنا نحلم، إذ نفتتح الصباح الذي يتناغم في شوق مع جوهره ويبدأ مع الشاعر الذهب في عشقه في تشكيل ملامح مدينته و الذي يسكب روح الشعر في قصيدة (الشارقة): «تعالي فالصــــباح بنا سيبدا/ وكوني الحـقل كي اختال وردا/ تعالي أطعمي عصفور حرفي/ بملعقة الرضا والوصل شهدأ/ فأنـــت حبيبتي والشـعر لمّــا/ تعكزَ فـوق أدعيــتي ونــــــدى/ تقول لي القصيــدة مــن تــراها/ إذا غنيـتها تختــــــال وجـــدا/ أقول وفي فمي تــلد القــوافي/ بــــــلابل تنشـر الألحــــان ودّا/ هي القمر الذي اكتحلت سمائي/ بفتنتـــه فصار الكون أندى». هذا الشعر الذي يبدو أشبه بالضوء مع كل ما يحمله عند الشاعر من قدسية وسحر ودهشة يشبه إكتشاف نبعاً من الحب بدأ يتدفق في صور بانورامية واسعة عن الحياة ويستجيب للحياة/ للطبيعة حيث اللغة الأم كالعودة إلى الجذور، وكما يكتب الماء أبجدية الحياة، يكتب الضوء أبجديته في المرايا، بكامل صدقها وأمانتها على الغمام، حيث ستمر الكلمات وتعبر كموسيقى الضوء، وكأنغام الماء في موسيقى الغمام،رسم بول كلي مدينة الأحلام، 1921 فشكلها مدينة خضراء تنبض بالحياة وهذا يذكرنا بلوحة الغلاف مرة أخرى، والمدهش الأكثر روعة في أن الشاعر محمد البريكي الذهب في عشقه في تشكيل ملامح مدينته على شكل مدينة خضراء بقلب نابض اخضر تحت أجنحة الصباح، وهذا هو ما يحكم عمله الإبداعي، فالإحساس بما كتبه كالإحساس بإبتهاج الضوء وما يرافقه من شجن وحنين وهو يمر خلال الماء، هذا الإحساس الذي يحول كل الكلمات الى شعر حيث يتكاثف المعنى تحت إغراءات سلطة الموسيقى المطلقة وفتنتها ويمنح القصيدة بلاغتها فيتحول الشاعر الى درويش يدور في ملكوت الشعر: «أنـا الدّرويشُ في محرابِ حُلمي/ تملَّكَنـي غرامُكِ واستبدّا/ أُجَوّعُ حلمَ يومي حينَ أُمسي/ وأعلـَـمُ أنَّ حلميَ ما تغـَـدّى/ رقيقٌ خافقــي كجنـاحِ طيــرٍ/ فهــلْ أرتـاحُ لو أبديـتِ صدّا؟/ على البابِ المعتّــقِ بالأمانـي/ يصارعُ خافقـي أمـلاً وبـَـرْدا». الشاعر رائع بكل معنى الكلمة في رسم ما تثيره فيه هذه المدن، من مشاعر وانطباعات وأفكار، محاول من خلال الكلمات أن ينفذ إلى ما هو أبعد من الصور والمظاهر التي تلتقطها العين المجردة فجعلنا نتابع بشوق وتذوق جمالي عميق هادئ تأخذ بها الصورة الشعرية مداها، وهذا هو الوعي في الرصد والكشف، وهذه هي متعة الشعر الحقيقي والمخلص للجمال فيقو الشاعر في قصيدة القاهرة: «كثير بك الأن/ مثل امتلاء المسار/ الذي ودعته رئات الجنوب/ ليفضي بخفة مجراه/ في الأبيض المتوسط/ للحب/ يحمل ذاكرة القاهرة». أن علاقة المتلقي المبصر بالمرئي والمسموع من القصيدة، كالرؤيا في الأحلام التي تتراءى للمتلقي وبتجاه الموسيقى على وجه الماء في المرايا، فلدينا هنا مدن هادئه وعذبه نراها في الملفوظ من كلام الشاعر ونسمع موسيقاها أيضاً، فالشاعر يستحضر مدنه في المشهد البصري من شجرة الأبجديات، مع الكثير من البهجة الى أن تصل الأحلام في مواعيدها، كغيوم لا تتوقف عن الهطول ومن أجواء المجموعة نقرأ: «بلادٌ يمُرُّ الغيمُ فيها مكبِّرا/ فتأتي المعاني في الأحاسيسِ سُكَّرا/ «تَأرْدَنَ» قلبي في مرابعِ جودِها/ وَ»عَمّنَهُ» غيمُ السخاءِ فأزهرا/ وإنّي إذا ما جئتُها بحقيبةٍ/ حملتُ بها قلبي تجلّيتُ أكثرا/ أودِّعُ أمّي وَهيَ تدعو بدمعِها: طريقُكَ يا ابني سوفَ تلقاهُ أخضرا/ فَسَلِّمْ عليها واهدِها الحبَّ سلَّةً/ منَ الوردِ، واهبِطْ في ثراها مُعَطَّرا/ يفيضُ على معناي زيتُ جمالِها/ فيصبحُ حرفي في الأحاسيسِ زعتَرا». وفي توهج الشوق الذي لا يخفي أمانيه بأن يمر على شواطئ دجلة وقت الفجر حيث الأنغام تمتد بزهو الطبيعة على آلة القانون في موجات النهر، فنستمع إلى نغمة التصوير الشعري الأخاذة، وهو يحررها على مقام الأورفه بأنغامه المنسجمة مع بعضها ثم يسلمها الى مقام البيات إذ يقول في قصيدة بغداد: «ها جئتُ أحمل في فمي أعذاري/ فتهيني كي تسمعي أشعاري/ رافقت يا بغداد نبض حقيبتي/ ونداك أيقظ في الخُطى قيثاري/ أودعت في أرض القصيد أطايب الـليمون والسيداف والأزهار/ وحملت نخلي للنخيل فكل/ نخل توأم العُشاق من سُمّاري/ لوحتُ للسَّعَفِ المرفرف، قال لي:/ نخل العراق وإن تباعد جاري». الناظر إلى تجربة الشاعر محمد عبد الله البريكي، سيجد أنه كتب بالرؤيا ورسم كلماته بالتعبير وهي ترتل المعنى، هكذا نعود معه الى الطبيعة وهي الشاعر الأول، العودة الى الرومانسية، كالعودة الى الحياة والشعر الى فطرته الأولى، فهو كمن يصطاد موجة كاملة النمو في توهجها الأثير عبر مقامات التجلي في فيض الضوء ،فالشاعر يكتب الحياة التي تلامس الروح عميقاً في اتساعها عبر الغمام وتعاكس الضوء في المرايا، ونحن نقرأ لنحيا من جديد، كأنما يمنحناً أجنحة سحرية للتحليق بعيداً، الى مرايا الغمام التي تتسع لكل الأحلام، حيث لا حدود للروح كي تسكب شغفها الذي يتسع بحضور الشعر، لكن هناك في ما يكتب الشاعر قصيدة أخرى من الشجن تبدأ من الاكتمال وتنتهي الى الجوهر لا ابجديه لها سوى هذه الإتماعات في الروح، التي كالتماعات النجوم في السماء البعيدة.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 19-04-2024 10:54 مساء
الزوار: 215 التعليقات: 0