وكالة أنباء عرار / المغرب / حليمة الإسماعيلي

هو القادم من مفازات الزمن المغربي ، من آهاته و زفراته ، من فرحه المغتال و أحلامه المؤجلة ، هو كاتب يكتب بدهشة من يراوغ المدى ، فمحمد شويكة لا يلتمع إسمه فقط بين دروب القص اللذيذ ، إنه يجرب مسارات ومتاهات أدبية ومعرفية أخرى ، بل إنه يسجل الحضور المختلف بالصوت والصورة ، فهو السينمائي و القاص والسيناريست و المنشغل أيضا بالهم السوسيولوجي ، في هذا اللقاء ، نرتحل مع المبدع محمد شويكة إلى قارة الفكر والسؤال ، إلى شجون السوسيولوجيا والكتابة و معاني الانتماء المحتمل .

- ما أهم الركائز والمبادئ الأساسية للقصة القصيرة؟

القاص من يحطم هذه "الركائز والمبادئ" في كل نص لأن مبدأ القصة القصيرة في دوام تجددها.. أعْجَبُ لأولئك الذين يصفون أنفسهم، كل مرة، بأوصاف تصنيفية من قبيل "التجريبي" أو "الواقعي" أو.. أو.. وبعد ذلك تجدهم يتخلون عن ذلك، ويقولون مثلا: سأقطع مع التجريب، وسأكتب القصة الواقعية أو غيرها!

عجبا! كيف يمكن القول بأن الواقعية لا تحوي التجريب وتتسع له وتتبادل معه التداخل والتناوب؟ أليست الكتابة حالة تنتاب صاحبها فتتبلور وفق مسارات قد لا يتحكم في الكثير منها؟

أسوق تلك الأمثلة والتساؤلات لأنه لا يمكن الحديث عن معنى "المبدأ" و"الأساس".. في الإبداع إلا باعتبار ذلك بَدَاهَة نثور عليها كل يوم لأنه يصعب في مجال فلسفة الأدب التحديد النهائي للاتجاهات نظرا لطبيعتها المفتوحة. مثلا، صَنَّفَ نقادٌ مجموعتي القصصية "النصل والغمد" بأنها تجريبية إلى درجة المغالاة، وصنفها آخرون على أنها كلاسيكية! بالنسبة لي، لم أصرح قط بأنني تجريبي أو.. أو.. ولم أتنكر لما قلت: أنا أكتب وكفى.. أحاول أن أتأمل ما استطعت تجربتي الشخصية وتجربة الآخرين وفقا لما يشبهني.

-ظاهرة القصص القصيرة جدا.. بحجم الفقرة، قَلائلٌ كتابها في الوطن العربي وقليل هو جمهورها، لكنها في المغرب العربي تتسع بسرعة في المساحات المباحة.. كيف هي التجربة معكم؟ داخليا (نفسيا) وخارجيا (التلقي)؟

من الصعب جدا التصريح بقلة جمهور القصة القصيرة أو كثرته في العالم العربي لأن الإحصائيات غير شفافة في هذا المجال خاصة من لدن الناشرين، كما أن البحث السوسيولوجي (سوسيولوجيا الأدب) معطوب، وآليات القياس السوسيولوجي المتخصص "Sociométrie" غير موجودة.. وعليه، فإن تجارب القصاصين والنقاد، وحدها، تسعف بعض الشيء في إضاءة العتمة. صحيح أن بعض المواقع الإلكترونية تساهم في الترويج الإيجابي للقصة القصيرة، ولكن فعل القراءة غير مضمون.

شخصيا، أكتب القصة القصيرة دونما هوس بالتصنيفات الفرعية.. وَحْدَهَا ملابساتُ اللحظة الإبداعية كفيلة بجعلها شذرية أو متواصلة، وهذا له علاقة بالظروف النفسية للأنا الكاتبة والمكتوبة (الشخصية).

- كيف تختار عناوين أعمالك؟ وما تأثيرات مضامين القصة لتحديد العناوين التي تختارها؟

العناوينُ حَيْرَتِي الأولى والأخيرة.. أُبَدِّلُهَا باستمرار، أُجَرِّبُ العناوين كما يجرب الرَّصَّاصُ (Plombier) ما أصلحه خوفا من التسرب أو تكرار العطب. أحاول، ما أمكن، أن يكون العنوان عاكسا لروح المجموعة القصصية، ناقلا لجوهرها، مُجَرِّدًا لعوالمها، جامعا لشتاتها، فاتحا لمغالقها.. تفوح منه رائحة منظومتها!

أعتقد أن اختيار العنوان انعكاس لفلسفة الكاتب، فلا يمكنني أن أختار نصا من النصوص، صدفة، كي يكون عنوانا للمجموعة لأنني معجب به أو.. أو.. وإنما كي نقرأ من خلاله، وعلى ضوئه، النصوص الأخرى.

العنوان كالقُبْلَة على شفاه مكتنزة، فاتحةُ الدخول إلى عوالم اللذة والمغامرة والشبق.

- ما المميزات الأساسية لأبطال قصصك؟ وهل تشبهك أحياناً في الواقع..؟ ما هي أهم عوامل نجاح القصة التي تساعد على انتشارها واستفادة القراء منها؟

كثير منهم يشبهني.. ليس بمعنى أنني أنكتب؛ بل قصدي أنهم يعكسون حالاتي المزاجية، الإبداعية منها والوجودية. دونما غرق في خضم النظريات، أعتقد بأننا نبدع انطلاقا من محصلتنا الحياتية: زادنا الذي لا ينضب.

الإبداع تَفَاعُلٌ مع الحياة. ذلك هو الفيصل بين المبدع الأصيل والمُسْتَنْسِخِ.

أسعى، أثناء الكتابة، إلى استثمار بعض التقنيات والأساليب الإبداعية التي ألفها القراء فأمزجها بأساليب أخرى.. وكلما تطورت التجربة، وحصل التجاوب البَعْدِي، أزيد من جرعة المزج. قد يفهم البعض بأن الغرض تدميرُ القصة! أجل، الأمر كذلك. التدمير الفني مقبول في الأدب، وهو أساس تجدده.

- يقول الروائي العراقي عبد الستار ناصر: "أخطأت بحق نفسي يوم أعطيتُ الكتابة مساحة أكبر من قراءاتي".. فماذا تقول؟

أُفَضِّلُ أن أتحدث عن التناوب المزاجي بين اللذتين: لذة القراءة ولذة الكتابة اللتان تتعايشان مع لذة ثالثة تتجلى في غبطة المشاهدة، فلا أعتقد أن الكتابة مستقلة عن الصور لأن الجدل قائم بين المتسائلين بين التفكير بالصور أم بالكلمات؟

أبحث عن القراءة التي تثير الحواس كلها، وعن الكتابة التي تستثير روافد الفكر. لكل كاتب طقوسه القرائية وعوالمه، لكن الأصيل من ينسى كل شيء أثناء الكتابة كي لا يستنسخ ويمسخ...

أعمل على تفادي القراءة العشوائية؛ إذ أقرأ وفق مشروع طويل أو قصير الأمد، يسايره برنامجُ مشاهدةٍ متقاطع وذلك بغرض خلق عالم مصغر من المتعة التي قد تغني عن أعطاب الوجود وتحفز على الاجتهاد والتجدد.

- كيف ترى المشهد الثقافي المغربي؟ هل فعلا سيطرت عليه المصالح المشتركة ؟ والمشهد الحزبي والإخوانيات؟ أم هي ادعاءات؟

المشهد الثقافي انعكاس لمستوى الوعي الذي تصل إليه "الأنتلجينسيا" خلال فترة زمنية معينة. إذا اتسم بالشفافية والأريحية والقيم الراقية.. فإن النخبة تكون حِرَاكِيَّة ومنشغلة بتطوير تجربة الإبداع والكتابة، وإن كان المشهد مضببا، كما هو الحال اليوم، فإن الإفلاس يسيطر على المشهد ويعم البؤس الذي يتغلغل في القيم والنفوس؛ إذ يظهر السماسرة والمرتزقة وذوي الأقنعة الجانوسية (نسبة إلى جانوس Yanus).

لقد أصبح مشهدنا الثقافي في حاجة ماسة إلى ميثاق أخلاقي للكتابة لأن المبدع يفلس حين تنهار منظومته الوجودية. ليس عيبا أن تتوحد المصالح المشتركة إن كانت نبيلة وسامية. نحن نعيش حالة قصوى من السقوط تعكسها الانهيارات المتوالية، المُذوية، لكل الإطارات المرجعية التي كانت تؤطر الثقافة المغربية، وذلك راجع إلى انهيار المنظومة القيمية والإيديولوجية التي كانت تحكمها (تاريخيا، يتيح التقهقر إمكانية ظهور قطاع الطرق والعصابات!). نحن في أمس الحاجة إلى نقد الذات والجري قُدُمًا نحو توطيد مقومات العقلنة والتحديث.

- ما هي الأسماء التي أضاءت مخيلتك وتأثرت بها، وما زلت تقرأ لها إلى اليوم؟

أنا معجب كثيرا بالتجارب ذات المرجعيات الفلسفية المنفتحة على الفنون والعلوم الإنسانية لأنها تجعلني غير بعيد عن نفسي وعن مجالات اهتمامي وعملي. إذا تأملنا، مثلا، العدد 218 من مجلة "Sciences Humaines" المخصص لموضوع "الأدب: نافذة مفتوحة على العالم"، فإن جل الإشكالات المطروحة به تلتصق بالفلسفة والحياة: هل سيساهم الأدب في إسعادنا؟ لماذا نقرأ الروايات؟ علاقة الرواية بالحياة الباطنية؟.. إذا، الأدب في عمق الوجود.

أجدني أعود، من حين لآخر، لمحاورات أفلاطون وكتب نيتشه وشذرات الحكماء إضافة إلى روايات وقصص كُتَّاب أمريكا اللاتينية.. وهي عوالم تلبي حاجياتي الذوقية والنفسية والمزاجية.. كما أنها تختلف من قارئ إلى آخر لأن الذوق شخصي يصعب التحكم فيه من جهة الوعي.

- هل تفكر بالقارئ أثناء كتابتك؟ وأي نوع من القراء يشغلك؟

أفكر في الكتابة أولا. أنشغل بمشروع الكِتَاب الذي أبلوره ردحا من الزمن. يعيش معي، يصاحبني ويخاصمني، يعاشرني ويغادرني.. أعتقد أن موضوع القراء بَعْدِيٌّ لأنه سيكون عائقا إن هو سيطر على وجداني ومخيالي.. أعترف بأن عوالم ما بعد الكتابة (أقصد التلقي خصوصا) عوالمٌ مفاجئةٌ، فهي تثير قضايا لا تكون في وعي الكاتب أثناء اللحظة القصصية. لذلك، قد يخيب القصد عندما ننوي شيئا ويطالعنا القارئ بشيء مناقض لنيتنا الأولى. لم أعد أراهن على أفق انتظاراتي الشخصية، بل أستمع أولا لرأي القراء، خصوصا أولئك الذين لا تربطني بهم صلة الألفة، وأغلبهم قراء أتواصل معهم عبر الإنترنيت.

ليس هناك وصفة "جاهزة" ولا "سحرية" يستطيع الكاتب من خلالها أن يتنبأ بسلوك قراءه، بل مجرد تخمينات قد تتحقق وقد لا تتحقق.

- كلمة أخيرة لقراء الوكالة توقع بها هذا اللقاء؟

أتمنى أن تسعف الأفكار الواردة في هذا الحوار في خلق جسر تواصلي يشرع أفق التواصل المستقبلي فيما بيننا...

أتمنى أن يكون للكلمة رجعُ صدى في زمننا الضَّاج هذا! فالكلمة فيصل بين شطري المتاهة: الدنيا (موت/حياة).

سيرة ذاتية

محمد شويكة قاص وناقد أدبي وسينمائي من مواليد مدينة قلعة سراغنة بالمغرب سنة1971، يشتغل الآن كمدرس لمادة الفلسفة، صدرت له المجاميع القصصية: «الحب الحافي» سنة 2001، «النصل والغمد» سنة 2003، «احتمالات» سنة 2006، «خرافات تكاد تكون معاصرة» سنة 2007، «القردانية» سنة 2008 و«ارتباطات» سنة 2009، وفي مجال النقد والتنظير الأدبي: «المفارقة القصصية» سنة 2008، أما في النقد السينمائي فصدر له كتابان هما «الصورة السينمائية: التقنية والقراءة» سنة 2005 و«السينما المغربية: أطروحات وتجارب» سنة 2008، إضافة إلى كتب مشتركة من بينها في القصة «منارات» (2001)، «أنطولوجية القصة المغربية» (2005)، «الحاءات الثلاث: مختارات من القصة المغربية الجديدة (أنطولوجية الحب)» (2007)، وفي النقد السينمائي «سينما داود أولاد السيد: المرتكزات والخصوصية» (2007)، «صورة المهمش في السينما: الوظائف والخصوصيات»(2008)، «سينما مومن السميحي: قلق التجريب وفعاليات التأسيس النظري» (2010) وكتب أخرى.