|
عرار:
أحمد علي هلال - دمشق في سياق مشروع روائي زاخر بالعلامات والمغامرات السردية، تبدو الرواية الثانية عشرة للروائي المهندس صبحي فحماوي في سياق من اشتغالات فكرية واجتماعية وثقافية دّالة، بعنوان دال ومركب من لفظتين فحسب وبقدر ما يزيحه العنوان على مستوى استراتيجية العنونة من مألوف وقار في الذاكرة بدلالة لفظة (حدائق) التي تشي بالجمال والرومانسية إلى انزياح في الدلالة حينما تأتي مفردة شائكة لتشي بمضمر العنوان، إذ إن كل عنوان سيؤسس غواية للنص الإبداعي -بحسب كونجور- من أجل تأويل مغاير وبما تستبطنه من اعادة الاعتبار للفرد أو المكان أو المقولة وذلك بأبعاد ايحائية تشي بوظيفة انتباهية صرفة أقرب إلى تقنية الغرافيك واللون، ذلك أن (حدائق شائكة) وبما تحيل إليه من توجه بلاغي إلى استعارة مفارقة، ستأخذنا إلى المقولة الروائية المكتنزة في المتون فهي الجسر الذي سنعبر عليه لمتون النص الروائي، فضلاً عن العتبات الثلاث التي تبتدأ بها الرواية من مثل (إن أجمل حديقة ننشئها لا تعدو كونها تدميراً للطبيعة) أو (هل الجنائن التي ننشئها على الأرض هي تجريب للجنة التي نتخيلها في السماء)، لتصب هذا الخطاب المقدماتي بإشاراته وبوصفه عتبات دالة في العتبة الثالثة أي (طريق الحرير الهادر) هل سيقلب الموازين كلها، وستتبدى حدائق الروائي صبحي فحماوي الشائكة بسبع عشرة نزهة سردية فيما وراء مجاز الحديقة، إذ يستبدل الروائي العناوين بأسماء بعينها وبأمكنة بعينها ببؤرة سردية هي (إرم ذات العماد) وهذه البؤرة تحيل أفعال تلك المدينة المتخيلة الأسطورية والتي تذكرنا بعوالم اليوتوبيا، التي شاعت في الخطاب الروائي زمناً مديداً باتجاهاته وأعلامه، بمشهد افتتاحي يبدأ ضمن حيزين جغرافيين، (مضيقي هرمز وباب المندب)، لتتكشف أحداث الرواية بانتظام دلالتها وبرنامجها السردي، أي بترسيم طريق الحرير وتشييد المكان المتخيل (ارم ذات العماد) بطبقاته وساكنيه والصراعات الخفية فيه على خلفية الشركات النفطية المعولمة اليد واللسان. ارم ذات العماد المدينة الأسطورية المتخيلة والتي يحتمي بها الفلسطينيون انتظاراً لعودتهم لفلسطين، في متخيلها يذهب الروائي صبحي فحماوي ومن شخصية رئيس تتولى سرداً أفقياً تتكامل فيه محكيات روائية هو جبريل عرسال، وما يضايفه من شخصيات ثانوية ورئيسة، لكن أبرزها الشخصيات النسوية بأدوارها المتناقضة، ففي الأغلب الأعم هن زوجات رجال الأعمال القاطنين في ولاية (ارم ذات العماد)، جبريل عرسال هو المتخصص في هندسة الحدائق الأرمية، الذي يُطلب منه بناء حدائق في فلل رجال الأعمال ولكل واحد منهم حكاية ستبدو شائكة بما يكفي وذلك تعضيداً للعنوان (حدائق شائكة)، وستتواتر تلك المحكيات بنزوع استبطاني للشخصيات المختلفة في عالمها وفي أحلامها وتناقضها، بما يعكس هويات نسقية جهراً وتفكيكاً (الفساد، وجشع رأس المال، الاحتكارات، المشاريع العابرة للقارات، الحداثة النفطية غير المتوقعة، العصر النفطي المتلاطم وانعكاسها على منطقة اللوتس التي نشأت تعبيراً مجتمعياً لكل هذا التدفق النفطي في منطقة الشرق الأوسط) وكل ذلك سيبدو توطئة لمقولات حاكمة في الرواية تخص الصراع العربي الصهيوني وأسئلة التطبيع وعدالة القضية الفلسطينية والعدل الشريد، وذلك ما يتبدى في حوارات جبريل عرسال مع رجال الأعمال، وأكثر من ذلك في رحلاته إلى الصين وهولندا وملاحظاته الدقيقة حول الزهور والنباتات واستنباتها وأنواعها، ما يشكل فضاء معرفياً محايثاً للرواية، لكن الروائي يأخذنا إلى أفعال (البستنة الروائية) إن جاز التعبير، وهو يتماهى مع راويه المطلق والعليم (سوف أخرج أنا الراوي العليم ببواطن الأمور من دائرة السرد وأتركه يكمل سرده بنفسه فهو المطلع أكثر على سرديته) يقول الروائي صبحي فحماوي تاركاً لشخصياته أن تتحرك في حدائقه الشائكة، وهو يقوم بهندسة نصية موازية لما يستنبته في وجدان القارئ ويستحضره أيضاً. المشتتون من فلسطين ومن بلدان عربية أخرى يتدفقون على هذه المدينة النابتة بين رمال الصحراء وبعضهم يتجمع في مخيمات كثيرة تحط في بيداء الرمال اللانهائية ، هذا فضاء ارم ذات العماد الذي يبني مجتمعاً مختلطاً من معظم بلاد العرب وحتى العالم الجديد. سنقف عند حكايات رمزية العلي، ونساء جمعية نساء الانرويل، وعشتار، وساندرا، وكرستين مارتن، والسيدة بهية، وغيرهن من نماذج لافتة ، يخصب الروائي محكياته بهن تطريفاً وتسريداً سيعني في مجازه دلالة حدائق شائكة، وفي جملة دالة يختتم بها القاص بعض فصول عناوينه بالقول: هل أنت تعرف، هل أنتِ تعرفين، أنا لا أعرف، وذلك ما يؤكد العقد مع القارئ المتابع الذي يذهب خلف حكايات الروائي إلى حس الاستبصار الذي يؤسس له الروائي ليحكي عما يحدث وسيحدث ولعل الرواية في راهنها، وبدلالة بطلها جبريل ذي الاسم الكنعاني، وعرسال أي عرش الاله، ستجهر بمتن اضافي هو ما تبثه أخبار التواصل الاجتماعي على الجهاز المحمول، من مثل: (القوة الغربية تسحب آلياتها العسكرية وتخفف تواجدها تدريجياً من المنطقة)، أو (إن أطباقاً غريبة تأتي من الشرق فتضيء الليل في المنطقة التي تنزل فيها، والهجوم السبراني عطل مراكز الإدارة في مطار بن غوريون) لكن ما يشي بالسيرة بعيداً عن خطايا الميثاق الأوتوبيوغرافي والذي يبدو أنه يخضع لتجديد في سياق تمحصيه وانفتاحه على ما هو متغير، ليس فقط جهر الروائي بأعمال البستنة والزراعة وهندسة الحدائق لكبار رجال الأعمال الذين يعملون في ولاية ارم ذات العماد، فثمة ما هو دال أيضاً في رحلات البحث عن الحدائق المشهورة في العالم، ليقول: (الأشجار والنباتات هي عالمي الساحر المفضل، فأنا أعشقها كونها جميلة البهاء ومسالمة ولا تحمل حقد الإنسان وضغائن باقي الحيوانات المحشوة كروزوماتها بالكراهية). رواية تجهر بالتغير في الثقافة والمزاج الجماهيري وأكثر من ذلك بصراع الخير والشر، كما النقاش والحوار الذي تثريه الرواية كقيمة مضافة، ستحمل ثيمة الاستشراف والتنبؤ، لتغدو بنسيجها الروائي/ الواقعي، وبمتخيل مقتصد مدونة عمل عليها الروائي صبحي فحماوي تتغذى على معطيات مستمرة وآية ذلك اكتنازها بمرجعيات دالة وبامتزاج الشفوي بالقصصي وبنزوع احيائي للأمثال الشعبية، أي مقبوسات الأغاني ومدى تواشجها بدينامية السرد، يكتب في نهايتها «الرواية لم تتم»، وهذا يعني أنها رواية مفتوحة، فمن القصص الدّالة (اجتماع مع امرأتي) إذ يذهب بنا صبحي فحماوي إلى الميتاقص( النص داخل النص)، ليروي ما صادفه خلال أعماله الحدائقية مع شخصية رجب الصافي، رجل الأعمال الشهير الذي لا يقرأ ولا يكتب بل يبصم، وكيف أن أحد أفراد عائلته رفض تسديد باقي أجوره كمهندس مسؤول عن تنسيق حديقته، فلماذا تُخَرِّب السيدة بهية زوجة رجب الأزهار، وهنا دلالة إضافية للعنوان حدائق شائكة، ليسأله أحد أقارب زوجة رجل الأعمال أنت معروف بكونك تكتب القصص وأخشى أن تكتب أسرارنا في قصتك، وهنا يعود الروائي إلى قصة (الجوز الفارغ) ليضعنا أمام من خرّبت الزهور وهي تجهر بالقول أكره الزهور لأنها تُزرع على المقابر، ولهذا أخلع أزهارك ونباتاتك يا جبريل. وإذا كانت حدائق شائكة ستحيلنا إلى متخيل صبحي فحماوي في المدينة الأسطورة، فما يسجل لها هو التعالق اليوتوبي بارث مديد من روايات كثيفة ظلت تشيد هذه المدن في المتخيل الإنساني، لكن ثمة فارق كبير حينما تكون هذه المدينة ارم ذات العماد، ممراً اجبارياً للعولمة المتوحشة وفساد رأس المال، والشخصيات الهشة في مواقفها وصراعاتها من أجل الاستحواذ على المال، وبما تعكسه الرواية من رؤيا في الواقع وما بعده، ستنتظم المحكيات في أفق القراءة وبكل ما انطوت عليه فنيتها ومفارقاتها وحس السخرية والطرافة الذي يتمتع به جبريل عرسال بأقنعة المؤلف الشاهد على التحولات والمصائر وهذا ما يجعل من سرديته أرضاً خصبة لحدائقه المعلقة وليس الشائكة فحسب، بنزهاتها المعرفية والجغرافية ربطاً بتحولات القضية الفلسطينية ومصائرها، إذ الواقع هنا في الرواية واقع آخر يشي بالتماثل والاختلاف الذي يقوم به الروائي تخصيباً للقضية عبر مداخل مجتمعية افتراضية لكنها أكثر التصاقاً بالواقع من أجل احراز رؤية نقدية به، فما تنشغل به هذه السردية العربية الفلسطينية بواقعيتها وأسطورتها بآن هو ما يشكل علامة في تجربة الروائي صبحي فحماوي وثيماته الناهضة في حيزها الدلالي/ الموضوعاتي بوصفها رواية المثقف المختلف في الزمن المختلف. من مضمرات السرد التي تشي بها «حدائق شائكة»، وما تذهب إليه كشفاً وتوريةً حول عشوائيات الأمكنة والأرواح، «تلك المخيمات» التي تستبطن الرواية الحديث عنها «أدى تدفق الاجتياح المستمر إلى إحيائها من جديد وانتفاخ أوداجها، فصارت مدينة عملاقة استطاعت بعد اشتباكات وتآلفات واتفاقيات دولية أن تكون ولاية حرة في الصحراء العربية» عن ولاية إرم ذات العماد، «والتي دفعت رياح السموم الفلسطينيين المهجرين عدة مرات تحت إرهاب الاحتلال الغربي الصهيوني، ليحتموا حول أعمدتها الأثرية التي تطاول السماء»، ذلك المضمر البعيد في دلالة العنوان «حدائق شائكة»، إذ تتعدد طبقات الرواية وتتواتر محكياتها بكثافة شخوصها وتسريد حيواتهم بما يعني للقارئ الذهاب أكثر إلى عوالم مسكوت عنها شكلت فضاء تلك المخيمات، أي الغنى الفاحش في مقابل الفقر المدقع، بل وأكثر من ذلك عالم الأغنياء ذوو الوفرة المادية والتقنية في مقابل عالم الفقراء الحالمين فحسب بشقة يقيمون أحلامهم عليها، وما تذهب إليه الرواية من تعضيد متخيلها/ الواقعي، هو التقاط تلك القيم الإنسانية التي تبددت في زمن العولمة ورأس المال المتوحش لتكون الرواية بهذا المعنى وبسياقاتها المعرفية رواية المصير والوجود، والحس النبوئي بأفق من استشراف لا يتعلل بالواقع فقط، بل يتجاوزه ليخلق مأثرة الروائي صبحي فحماوي، تلك المأثرة الشديدة الحساسية في صوغها وتشكيلها المعرفي والتاريخي والإنساني، إذ تبدو الرواية بهذه الدلالات المفتوحة فضلاً عن بنيتها المعمارية أي في هندسة الأرواح والأطباق الطائرة والحروب السيبرانية، وتنسيق المواقف، واقتفاء قولها المرصود رواية غير زمان ومكان، حيث أفعال التطييف المشتبكة مع دلالاتها المفتوحة، والتي تزحزح ما استقر في الوعي القار، وذلك عبر جملة المثنويات التي اشتغلت عليها، أي الفقر/ الغنى، الواقع/ المتخيل... ما يعني أكثر في مراياها الطليقة هي رواية الأرواح التي تتوق إلى الانعتاق من متعاليات الواقع ومضمراته، امتداداً للمشروع الكبير الذي تنكبه الروائي صبحي فحماوي في قراءته للتاريخ والوقوف عند فجواته المحتملة وقراءته بعين الروائي الذي يعيد تأليف الواقع بمحفزاته الأدبية.. التحفيز الواقعي والجمالي والتأليفي، ذلك ما تعنيه أدبية الرواية –حدائق شائكة- في متخيلها السردي وتعالقاتها السيرية فيما تعنيه «إرم ذات العماد» المدينة المتخيلة، ومن تم ترحيلهم إليها عشوائياً لتتمدد وتتكاثر على أجساد بعضهم وجثث البعض المندثر «بيوت جميلة وقصور فخمة»، «كان المشتتون من فلسطين تدفيشاً وتعذيباً وقتلاً للصامدين منهم يتدفقون على هذه المدينة النابتة من بين رمال الصحراء وبعضهم يتجمعون في مخيمات كثيرة تحط في بيداء الرمال اللانهائية المتاهات... تجاورهم جبال من نفايات المدينة التي تنث عليهم غيوماً من الأدخنة الكيماوية الممتزجة ألوانها الزرقاء بالصدئة بالرمادية المشحونة بروائح اليورانيوم المنضب والزرنيخ والفوسفور، وغيرها من روائح جهنم التي لا تطاق»، كل وما يتصادى في الرواية من أحداث، تقف كمعادل حسي/ رؤيوي للروائي صبحي فحماوي، بحدوسها وما تكشفه عوالمها من دهشة وترقب وتطريف سردي باذخ، يجعل من تلقيها رواية حياة في قطعة منها هناك أو هنا، لتحفر في ذاكرة متلقيها، وفي الذاكرة الثقافية والإنسانية وبما تثيره من أسئلة تشي بها متونها المتصلة من حساسية نقدية، تجعل منها رواية الرؤيا بامتياز. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 02-09-2022 10:00 مساء
الزوار: 497 التعليقات: 0
|