|
عرار:
د. دلال عنبتاوي تعد هذه الرواية نموذجا متميزا بل ومتفردا في التعبير عن أدب السجون ولقد عبرت عن السجن وعوالمه ضمن توظيف عظيم لتقنية القص الروائي أو ضمن تركيزها في الطرح على محاور ثلاثة ذات أهمية كبرى: أولها: عبرت عن ذات الأسير الفلسطيني المسجون وألمه. ثانيا: صورت الآلام الشعب الفلسطيني كاملا وعذاباته. ثالثا: وظفت القناع لإثبات حق الفلسطيني بأرضه وكشفت عن القيمة العظيمة لتلك الأرض وكان القناع الثيمة العظيمة في هذه الرواية. منذ النظرة الأولى لغلاف الرواية تبدو السماء محملة بالكثير من خلال دلالاتها واتساعها وفضاءاتها المترامية ويرافقها اللون الأزرق وقوته الكبيرة التي تسعى الرواية للكشف عنه من الغلاف والعنوان وكأن العنوان يريد أن يقول هذا قناع يشبه لون السماء بزرقته واتساعه وطغيانه وقوته ويظل اللون حاضرا (تحديدا اللون الأزرق) في كل عوالم الرواية ضمن أبعاد ودلالات عدة يتجاذبه الرفض والكراهية حينا وتحضر الشفافية والحلم والرغبة في الانعتاق من فضاءته الشاسعة القاسية الرحبة حينا آخر إن هذاالعنوان « قناع بلون السماء» جاء ذكيا جدا جدا. ولافتا ومعبرا وكاشفا عن دلالات عظيمة وتأويلات كثيرة يحتاج هو الآخر برأيي لدراسة معمقة تفصح عنه وتكشف دلالاته وتأويلاته وسأتجاوز الإهداء وأنتقل لعبارة التصدير... عبارات التصدير: تمثل عبارة التصدير النصي في الرواية الحديثة نوعا من أنواع الأيقونة الوثائقية التي تربط بين النص ومساحة ما من الوعى بالواقع التاريخى، مما يمنح المتلقى توجها أوليا لاكتشاف وجهات نظرالروائي الكاتب المؤلف لهذا العمل الروائي قبل أن يتشكل الراوى في العمل الروائي حيث تعد تلك مساحة ما قبل الدخول إلى المتن الروائى يهتم بها المؤلف قبل أن يوكل المهمة للراوي الذي لم يبدأ عمله بعد، إن عبارة التصدير تحدد منطقة معرفية تصلح للالتقاء والانطلاق لبداية رحلة تستمد خيوطها المشتركة من أرضية مشتركة يبدأ عندها تقابل الروائي المؤلف والنص والمتلقي يعجبني أن أسميها (نقطة التقاء) ففي الصفحة التاسعة وبلا عنوان يلتقي الروائي الكاتب/ والنص/ ونحن... نلتقي مع أهم وأعظم شاعر على أرض فلسطين والعالم العربي حيث تتماهى الذات الروائية المعذبة في أسرها وفي فلسطينيتها مع ذات الشاعر الذي عذبته أرضه وفلسطينيته كذلك وكأنهما يتماهيان في الحضور والألم إن هذا التصدير الذي جاء عبارة عن مقطع مأخوذ من القصيدة الطويلة العظيمة لمحمود درويش المعنونة بـ»الجدارية» التي يقول فيها محمود درويش: غنيت كي أزن المدى المهدور/ في وجع الحمامة/ لا لأشرح مايقول الله للإنسان / لست أنا النبي لأدعي وحيا / وأعلن أن هاويتي صعود... وهنا لا أريد أن أدخل في متاهة المقاربة بين هذا التصدير للرواية والرواية ذاتها إذ ليس هنا المكان لذلك لكنني فقط أؤكد هنا أن هناك تقاربا كبيرا وعظيما حدث بين الرواية كاملة والسطر الأخير في هذا التصدير إذ يلتحم الأثنان الروائي والشاعر في هذا السطر ويأتي النصر ولحظة الانفراج وهزم الهزيمة حين يعلن كل منهما من خلال السطر الأخير ... الذي يقول فيه محمود درويش وأعلن أن هاويتي صعود... الشاعر والروائي يلتقيان هنا في التعبير عن الخروج من الألم والهزيمة والهاوية إلى لحظة الصعود التي تحمل الوقوف بوجه هذا الظالم الصهيوني والانتصار عليه لتنقلب هزائمنا كلنا وهاويتنا كلنا إلى صعود وهذا أمل الفلسطينين كافة وأمل كل المعذبين في هذا العالمين ونحن أولهم ... وبما أن هذه الرواية تعد نموذجا متميزا لأدب السجون لابد من التوقف عند السجن وعوالمه ولقد وردت لفظة السجن في هذه الرواية أكثر من (10) مرات فهاهو الراوي يحكي في ص (23)على لسان البطل: السجن كثافة يا صديقي نور السجن كثافة عبارة أطلقها محمود درويش في فضاء زنزانته الأولى أثناء حنينه لقهوة أمه وخبزها .. لم ألتقط أسرار العبارة إلا عندما اشتد عودي في المعتقل... ويسترسل الراوي في السرد عن السجن وعالمه ناقلا عن مراد مما أفاض به في البوح فيقول في ذات الصفحة: هكذا قال لنور في إحدى رسائله لتؤدي به الكثافة في النهاية إلى التحاقه ببرنامج البكالوريوس الخاص بالأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني ليتخرج حاملا شهادة في العلوم السياسية ألحقها بعد عدة سنوات بشهادة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من كلية الدراسات العليا التابعة لجامعة القدس. يمكنني القول هنا أن السجن بطل هو الآخر في هذه الرواية حيث يتشارك مع مراد ونور وأور البطوله في سردية السجن والحديث عنه وعن دهاليزه والالآمه فهاهو الراوي يحكي عن مراد وسجنه في ذات الصفحة قائلا: واجه مراد حديد المعتقل بإرادته الفولاذية وهزم بالأمل المتدفق من حبر قلمه ليبارز الحرمان والانتزاع الحاد والممنهج للإنسانية من زمنها ومكانها أدرك مراد الكثافة لدرجة أنه عاتب نور في رسالته الأخيرة بسب انشغاله التام بسيرة المجدلية وعدم انهماكه بقضايا معاصرة بحاجة للبحث مراد الذي يحاكم الأمور من زاويته لم لا؟ فهو المنهمك الآن بإعداد دراسة بحثية حول البنية الكولونيالية للنظام الصهيوني كان يريد لصديقه الالتحاق مثله بالاشتباك مع محددات الاحتلال السردية والفكرية دون أن يعلم أنه هو من أوقد في صدر نور نيران المجدلية. في الحقيقة أن الراوي هو الذي يسرد هنا لكنني ألمح تداخلا غير عادي بين الكاتب والراوي وكأنني أسمع وأرى باسم خندقجي يبوح بذاته ويعريها يعبر بشفافية عن ذاته من خلال كلام خاص يحكيه ويحكي عنه وكأننا أمام مقتطفات من سيرته الذاتية التي قد يلجأ لكتابتها مستقبلا. وينقل إلينا الراوي عبررسالة بين مراد ونور ما قاله مراد في ص (47) قائلا: أهديك التحية العابقة بصداقتنا واعذرني على هذه الرسالة المقتضبة فأنا منشغل حتى الثمالة بالدراسة التي أعدها عن الكولونية الصهيونية بالمناسبة أريد أن أوصيك على كتابين آخرين هما: الثقافة والإمبريالية لإدوارد سعيد ودراسات مابعد الكولونيالية لبيل اشكروفت من جهة أخرى أرجو أن تتخلى عن تلك العبارة المقيتة حول السجن الأكبر والسجن الأصغر أنت لاتعرف معنى السجن الأصغر يا نور.. السجن أفظع واقعة في الحياة... غربة حديدية صدئة.. وأما السجن الأكبر فأنت تحبس نفسك به.. أنت من تصنعه.. نلاحظ هنا إصرار مراد الحديث عن السجن لنور وعقده المقارنة بين أعظم وأخطر سجنين في العالم سجن المحتل وسجن الذات الذي يبين مراد أننا من يصنعه... ما رأيكم؟ ثم يتابع الراوي النقل عن حوارات السجن الذي يشكل بؤرة الرواية من خلال ملاحظة يضعها في نهاية الرسالة قائلا: كم أحسدك يامراد على سجنك الأصغر لأن واقعك الحديدي هذا واضح الملامح مكون من معادلة بسيطة لكنها قاسية: سجن سجين سجان ولكن هنا في السجن الأكبر الأمور لم تعد واضحة... وكأن الروائي وعن سبق الإصرار يريد أن يضعنا بالمفارقة والمقارنة بين من يعيش في داخل السجن وبين من يعيش خارج السجن وكأنه يضعنا في المواجهة الصادمة بيننا وبينه؟ ويستمر الراوي في توصيف السجن وعوالمه وتأخذ نبرته في الحديث عنه شكل الاستهزاء والسخرية فهاهو في ص (139) ناقلا عن في حواره مع مراد قوله: ألم يصلك أي من هذه البالونات أيها اللاجئ الأسير مراد؟! آه... أعذرني لقد نسيت أن السجن لا سماء له... وكم أجد هذه العبارة مفتوحة على تأويلات عدة! لابد أن أتوقف هنا لأقول إن السجين عادة لايستطيع الخروج من ذاته الأسيرة المسجونة ضمن غرفة ليس لها سماء وإذا كان مبدعا مثل باسم خندقجي فإنه يظل مأسورا وأسيرا للتعبير عن واقعه وعن واقع سجنه ضمن بنى متعددة كل ما يحلم به وتصبو إليه نفسه هو التحرر من هذا الألم المادي والمعنوي. لقد وظَّف الكاتب الروائي باسم خندقجي في روايته هذه كل تقنيات الرواية كاملة، إلَّا أنَّ الذي استوقفني هو توظيف تقنية الوصف فيها بشكل متميِّز، ولهذا مايبرره بشكل كبير ولافت فأنا قد قمت سابقا بدراسة الوصف في الأعمال الروائية إلا أنه في هذه الرواية يملك دلالات خاصة ومتميزة إذ أن الروائي وكما هو معروف لدينا أسير في سجون الاحتلال الأسرائيلي لا يملك إلا غرفة صغيرة بأقصى حد لاتساعها مترين في مترين ومغلقة الجوانب والحواف سقفها العتمة والسماء بعيدة عنها أيما بعد لكنني أجزم هنا أن مخيلة الروائي باسم خندقجي كانت طافحة بالصور والأخيلة واللغة والجمال لذلك لفتني الوصف فيها ذاك الذي اخترق عوالم السجن والزنزانة إلى عالم رحب فسيح تكاد تظن في معظم لحظاته أنه يملك فلم رصاص وورقة ليرسم وريشة فنان وألوان ليصور لنا شخصياته وأمكنته فجاءت واضحة جلية ومرسومة بمنتهى الدقة من خلال وصف برع به بل وأجاد أيما إجادة لذا أحببت التَّوقُّف عنده من خلال تحليل الرواية والوقوف على توظيف تلك التقنية فيها بشكل قوي ومتميز بكافة أبعادها ودلالاتها... وهذا ما أعمل عليه في دراستي القادمة للرواية . ختاما، لا بد من أن نعتز ونفتخر بهذا النوع من الأدب ونعطيه القيمة والاهتمام لأنه يؤرخ ويوثق بكل شفافية لحالة شخصية إنسانية أولا وحالة عامة تاريخ شعب عظيم مازال يقاوم. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 02-08-2024 11:04 مساء
الزوار: 139 التعليقات: 0
|