|
عرار:
إبراهيم خليل يثير أدب الأطفال غير قليل من الشجون. وذلك لأن أكثر الذين يكتبونه لا يتقنون الكتابة أصلا، ولا دراية لهم بنفسية الطفل الذي يشبه لؤلؤة داخل محارة، لا بد من كسرها للظفر بتلك اللؤلؤة الثمينة، ولا معرفة لهم بالحدود التي تتصف بها فئات الأطفال العمرية. ولا يفرّقون بين طفولة مبكرة وأخرى متوسطة وثالثة متقدمة. فقلما نجد كتابا أو كراسا شعريا أو قصصيا أو حتى مسرحيا مما بين أيدينا من أدب الأطفال يحمل في تصنيفه ما ينم على أنه لهذه الفئة العمرية أو تلك. مما يدع مسألة التلقي مسألة عشوائية. ولهذا الكثير من التَبِعات. وهذا شيء لا تُعفى منه النصوص المبكرة التي زُعم أنها من أدب الأطفال. فأحمد شوقي مثلا 1868- 1932 في قطعة له بعنوان «الوطن» لا يذكر لنا شيئا عن الفئة المستهدفة بها ، وعندما يبلغ القارئ قوله: «خمــــــائلا كــــأنها/ بقيةٌ من ذي يزن» يفترض الشاعر أنَّ الأطفالَ، ممن خوطبوا بتلك القصيدة، يعرفون من هو )ذو يزن( وأنه (قيلٌ) من (أقيال) اليمن. وأن له في التاريخ ذكرا عن عنايته، واهتمامه، بالحدائق والجنان. وهذا ضربٌ باطلٌ من الظن. فحتى الشُداة، والبالغون الراشدون، والمسنّون من الناس، قد لا يعرفون من هو ذو يزن هذا. وما هي علاقته بالخمائل، والحدائق. وفي مقطوعة أخرى قيل إنه عرَّبها عن إحدى خرافات لافونتين (1621- 1695) الذي تأثر بكليلة ودمنة – على رأي نفوسة زكريا السعيد 1976- يروي في قصيدة (الثعلب والديك) أن الديك أتاهُ رسول يدعوه كي يؤذن لصلاة الفجر، فرفض الديك ذلك رفضًا قاطعًا، قائلا : «مخطئٌ من ظن يوما/ أن للثعــلب ديــــــنا» وهذا موقفٌ افتراضي، لا مسوّغ له في القصيدة. ونتوقع ألا يمر به الأطفال مرور الكرام. وألا يقتنعوا بهذا؛إلا إذا كانوا أطفالا ينقصهم الذكاء. إذ كيف للديك أن يعلم بما وراء تلك الدعوةالتي هي جزءٌ من مكيدة الثعلب المتنكر في أزياء الواعظين، وشعار النسّاك التائبين؟ وهو، أي الديك،لم يطلع على ما كان قد ُذكر في بداية الحكاية. ففي الأبيات الثلاثة عشر لا توجد إشارةٌ واحدةٌ مباشرةٌ، أو غير مباشرة، لعلم الديك بما كان من الثعلب. فمثل هذه الكتابات، التي لا تخلو من الأغلاط الفاحشة، تسيءُ، من حيث أرادت أنْ تحسن، لثقافة الطفل اللغوية والأدبية، وذائقته الشعرية، إنْ كان ممن يتمتعون بالذوق الرفيع. ولا ينبغي لها أن تُقرأ للأطفال إلا إذا ُنبّه على ما فيها من أضْرار، وما يعتريها من عُوار. وفي نموذج آخرَ نجد شاعرًا غزير الكتابة للأطفال، يتنقل تنقلا عشوائيًا في قصيدة(عمودية) من رويٍّ لآخر، معتقدًا أن ألفاظا من مثل: هرّة، وكبرى، وفرّا ، والثأرا، ألفاظٌ متكافئة الروي والقافية. وهذا من أكثر الأخطاء فُحشًا. فعلاوة على جهْله بالعروض، لا يدرك الفارق الصوتي بين الراء المشدّدة وبين الراء غير المشددة. وبين تاء التأنيث الساكنة في هرة، وهي تلفظ كما الهاء، وبين الألف المقصورة في كبرى، والممدودة في فرّا، والمنقلبة عن التنوين في ثأرا. ونجد شاعرًا آخر، يزعمون أنه حُجّة في أدبِ الأطفال، تتكدس في بنية قصيدته ذات المتدارك تراكيبُ لا تسوغ، ولا تجوز، في العربية، لا الدارجة، ولا الفصحى. مثل: فتهاوت في الغريق، بدلا من الغرق، وحاولتْ تسبحُ، بدلا من حاولت أن تسبح، أو السباحة.وشيءٌ آخر، إذ نجد بعضَهم يختَتمُ البيت، مع أنه موزونٌ مقفى، بمقطع قصير، لا طويل، مثل( الأملَ، و العملَ) والصواب أن تكون الأملا والعملا. وهذا عدا عن أنه ناشزٌ صوتيًا، لا يتفق مع أبسط قواعد العروض، وضرورة أن ينتهي الشطر الثاني من البيت بمقطع طويل، لا قصير. وقلَّ أنْ نجد نصًا شعريًا للأطفال يخلو من هذه المشكلات الفنّية، كقصيدة عُصفور المطر لعلي البتيري. فاللافت للنظر أنَّ هذه القصيدة ذات الموضوع المعروف، المألوف، غير الطريف، ولا الجديد، تخاطبُ أطفالا يمكن أنْ يُصنّفوا في الطفولة المتوسطة أي الذين تنوف أعمارهم عن التاسعة، وتقل عن الرابعة عشرة، وفيها ثلاثة أركان هي: الطفل (سمير) والجدة ، والعُصفور. الذي وصفه بعُصفور المطر.ولكن القصيدة يؤخذ عليها الإمعان في الطول؛ فهي تتألف من عشرة مقاطع قصيرة، يتضمن كل واحد منها جزءًا من المتْن الحكائي. ومن حيث النسق الموسيقي، والإيقاع،لا نجد فيها ما يُؤخذ على الشاعر. بيد أنه يقول في المقطع الثالث منها ما يأتي: يا جدةُ عندي عصفورٌ في شباكي كم أهواهُ كم تُعْجبني موسيقاهُ يُلاحظ أنَّ المتكلم في القصيدة هو الشاعر، لا سمير، بدليلٍ هو وصفه لتعلقه بالعصفور بعبارة « أهواهُ «. ولا نظنّ طفلا في سن العاشرة،أو أكثر،يستبدل أهواهُ بأحبه، فهي مفردة تتجاوز المستوى اللغوي لدى هذا الطفل. كذلك استعمال (موسيقاهُ) للدلالة على زقزقة العصفور، وتغريده،فهي لفظة تنمُّ على تجاوز الشاعر وعي المتكلم(سمير) بمفردات اللغة، لما هو أكبر منه وأعلى. ولا نظنه على دراية بأن زقزقة العصفور موسيقى كتلك التي تصدُر عن الآلات، وتُسْمع عن طريق الراديو، أو عن أيِّ طريق أخرى. وقد تكرر مثل هذا في قول الشاعرعلى لسان سمير مخاطبًا عصفور المطر: أبشرْ أبشرْ.. يا رمْزَ الطربِ أبشر أبشر.. بالقفَص الذهبي وهذا أيضا كالمثال السابق،» فرمزُ الطرب « شيءٌ يتجاوز فيه الشاعر قاموس الطفل، ووعيه بألفاظ اللغة. وإذا نحن تجاوزنا شعر الأطفال، وتحولنا منه إلى القصص، ألفينا النثر، بسبب طبيعته من حيث هو اسْترسالٌ، واطّراد، في المحكيات السَرْدية، أيسر من النظم، ومحاولاتُ النجاح فيه أكثر، وأوفر. ففي حكايةٍ عن « العُقاب والنَعامة « لمؤلف غير معروف، يجدُ الطفلُ فيها تجمُّعا لعدد من الطيور يواجه خطرا كبيرًا، وهو تربّص العُقاب بها ليصطاد أحدها فيكون وجبة دسمة بسبب شعوره بالجوع. وهذه مقدمة شيّقة لأطفال يحبون، بصرف النظر عن الفئة العمرية،ويرغبون في سماع القصص التي تبعث الشعور بالترقُّب، والتلهُّف، لمعرفة النتائج التي تؤول إليها المحكيّات. ويزيد الأمر تشويقا السؤال الذي طرحه الراوي على المتلقي قائلا « فما هي الحيلة؟ « لأن العقاب كان قد قرر أن يلجأ للحيلة للوصول إلى غايته، والفوز ببغيته. وهكذا ينتظر الأطفال بشوق معرفة تلك الحيلة. وتربّص العُقاب بالطيور التي شُغلت بسفاسف الأمور. فهذا يتباهى بساقه الطويلة، وآخر يتباهي بالقنزعة التي تزين رأسه كالتاج، وذلك يتباهى بالنوم واقفا، وهذه النعامة تتباهى بكونها الوحيدة التي تستطيع دفن رأسها في التراب، فكانت الفريسة السهلة للعُقاب. ولا يستطيع المتتبع أن يقف على ثغرة في هذه الحكايةالقصيرة. فهي علاوة على البساطة، واللغة الملائمة للطفل، تنتهي بفكرة يستخلصها الأطفال بأنفسهم دون أن توجَّه إليهم في قوالب الوعظ أو النصح. وذلك شيء قلما يأنسون إليه لكثرة ما يُوجَّه إليهم من مواعظ، ونصائح؛ في البيت؛ وفي المدرسة؛ وفي النادي. وقد تكونُ القصة أكثر ألوان الأدب ملاءَمةً للأطفال بصرف النظر عن أعمارهم. فهي استجابة للقول المتكرِّر: يا جدة ، احكي لنا حكاية. وقد تعددت أنواع القصص التي كتبها الأدباء للأطفال بدءا بخرافات إيسوب، وخرافات لافونتين، وحكايات مكسيم غوركي(1868- 1936) وغيره. وبعض هذه القصص تصطبغ بالصبغة الشعبية، وقد تنحو منحى الخرافة،أوالأسطورة، أو تدور حول أشخاص، ووقائع، مستمدة من التاريخ، ككتابة القصص عن أبطال خاضوا معارك الشرف، فتكون القصة من تأليف الكاتب، لكن الحكاية، والشخصيات، مستمدة من المراجع. وثمة نوع من القصص يوصف بقصص الخوارق، وهي التي تظهرُ فيها الغيلان، والعفاريت، والجان، والمردة، وعلاء الدين الذي يخرج من المصباح السحري.أي أنها قصصٌ تضمّ ما هو غريبٌ وعجيب. علاوة على هذا كله ثمة قصص تدور على ألسنة الطير والحيوان. وبعضها قد يحسب في قصص الخيال العلمي الذي يحتاج لوسائط أخرى غير أدبية فتغدو أقرب إلى السيناريو. عزيز وعزيزة وبين أيدينا الآن مجموعة قصص بعنوان « عزيز وعزيزة « لفخري قعوار، الذي اتجه بعد تجارب متراكمة من الكتابة للكبار لكتابة قصص الأطفال ومسرحياتهم،فنشر عددا منها، وهذه المجموعة هي الأخيرة(2010).وفيها إحدى عشرة قصة قصيرة يقابلها مثل هذا العدد من القصص القصيرة جدًا. وبعض هذه القصص لا نعلم لم أدرجها القاص في أدب الأطفال مع أنها قصص عادية كغيرها من قصصه الأخرى. فالقصة الأولى عزيز وعزيزة تتناول موضوعا مما يهتم به المقبلون علىالزواج، ثم الزواج، ثم المشكلات التي تنشأ بين الزوجين في الأشهر الأولى، ثم يتطور الأمر إلى المشكلات التي تواجه الأسرة، حتى اضطر الكاتب في نهاية القصة للحديث عن الراحلين والموتى. وهذا كله – لا بعضه- مما لا يأنس إليه الأطفال، بل ينزعجون منه انزعاجا شديدًا. فتعود القصة على الكاتب، والقارئ، بنتائج عكسية. وفي قصة حب متبادل شيء من هذا القبيل.فقد تجد آذانا مصغية لمن هم في سن المراهقة. ولكنها في جلّ الأحوال قصة كغيرها من القصص التي يكتبها المؤلف، لا للصغار، بل للكبار، الذين يفرقون تفريقا دقيقًا بين العشق والحب.وبين الغضب وتوتر الأعصاب. وثمة قصة بعنوان « أهواكْ، واتْمنّى لو أنساك « تذكرنا بأغنية مشهورة من أغاني الخمسينات لعبد الحليم حافظ. فأيُّ هؤلاء الأطفال الذين تخاطبهم القصة يعجببهذه الأغنية، أو سمعها ذات يوم، بعد أن عرض للغناء ما عرض من تراجع في الكلمة، والصوتِ، واللحن، حتى أصبح النعيق، والزعيق، لدى بعضهم، أفضل من أغاني العندليب، وعبد الوهاب، وكوكب الشرق. الأسلحة وفي هذه المجموعة قصة وُفق فيها فخري قعوار أيما توفيق. ونظنها مثالا جيدًا، ونموذجا راقيا لقصص الأطفال الذين هم في مرحلة متوسطة. وأول ملاحظة تحسب في إيجابيات هذه القصة هي جمع الكاتب بين الجدة ومجموعة من الأطفال الذين ينتظرون أن تُحكى لهم حكاية. وقد وعدتهم بحكاية عن الأسلحة. فثاروا في وجهها. وهذه الثورة هي الشيء الثاني الذي يحسب في إيجابيات هذه القصة. فقد تنبه الكاتب إلى أن الأطفال لا ينبغي لهم أن يكونوا (إمّعات) يقبلون بأيّ شيء، ويسمعون ما يراد لهم أنْ يسمعوه. وثورتهم هذه جاءت في الوقت المناسب، لأنهم يرفضون الحكاية ابتداءً لكونها عن السلاح. فقد أثارت هذه الكلمة الرعب لدى معظمهم، فأحبوا ألا يسمعوا هذه الحكاية التي تذكــّـرهم بمقتل جارتهم بسلاح زوْجها، الذي لا بد أنه مجرمٌ لقي جزاءه على أيدي الشرطة. أما الجدة التي تذكرنا بجدة غوركي، فلم تفاجأ بهذه الثورة، وأطالت الانتظار ريثما تسمع آراء الجميع. واتّصفت بالتأني، وسعة الصدر، والحِلْم، ولمْ تغضب. وسألتهم سؤالا عمّن يُقتلون فيالحروب. واتسعت أحداقهم دهشة عندما قيل لهم بأن الأسلحة من بنادق، وقذائف، وطائرات، هي التي تقتل الرجال المحاربين، وتبعث بهم إلى القبور بدلا من العودة إلى بيوتهم، حيث أطفالهم ينتظرون تلك العوْدة. وفي هذ اللحظة تحكي لهم عن طرف من الأطراف صنع قنبلة لا تقتل، ولا تؤذي، إلا الإنسان. وقد تكون هذه الإشارة للأمريكان، ولقنبلة النيترون، من الإشارات المفتعلة في القصة التي يتمنى القارئ لو أن المؤلف عدل عنها لإشارة أخرى، لا رأفة بالأمريكان، ولكن هذه الإشارة في ظننا تحتاج لمستويات ذهنية، وعقلية، أين منها الأطفال؟وعندما تنتهيالحكاية، ويذهب الأطفال للنوم، لا ينامون بهدوء. إذ من المتوقع أن تتناوب عليهم الكوابيس بسبب حكاية الأسلحة التي تدمر الإنسان وحده، وتُبقي على ما عداه. والمضحك في الأمر أنّ من يصنعون هذا السلاح هم الذين ينادون بوقف سباق التسلح مع أن هذا التعبير الأخير يحتاج لصحفي مخضرم كفخري قعوار لفهمه. وفي التفاصيل يجدُ القارئ تعليقاتٍ يقاطع بها الأطفال الجدَّة. قأحدهم ما إن سمع اسم القنبلة حتى قال اسمٌ صعب. وآخر يعلق على استمرار ضرر الأشعة آلافا من السنين، بقوله – ياه!. وأخرى تعلق: لم لا يخترعون شيئا لا يقتل أحداً. وهذه التعليقات تجسّد تفاعل الشخوص بالحكاية. وتبعا لهذا التفاعل تحقق القصة تواصلا فعالا لدى القارئ الطفل الذي بلا ريب سيَجِدُ في هؤلاء الأطفال قدوةً له، ونموذجًا منه، وفي تعليقاته بعض ما يُفكر فيه. صفوة القول وزبدة الحديث هي: إن هذه القصة – كما سبق لنا أن نوهنا- نموذج مُسْتَحْسَنٌ ينبغي لمن يكتبون قصصا للأطفال أن يقتدوا به، ويحتذوه، ويقلدوه. فهو يخلو من المزالق الفنية التي وقع، ويقعُ، فيها الكثير من الكتاب. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 02-09-2022 10:08 مساء
الزوار: 570 التعليقات: 0
|