|
عرار:
عنان محروس خيرُ ما أستهلّ به الإضاءة، الآية الكريمة: (والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين). أقسم جلّ جلاله بمنابت التين وهي أرضٌ مقدّسة، فيها بُعثّ المسيح عليه السلام، وأُنزل فيها الإنجيل، أما اللون الأزرق فحسب ظاهرة، تُنسب للعالم الفيزيائي البريطاني جون وليم رايلي فهو لون الخداع البصري غير الحقيقي، فما هو إلا انعكاس وانكسار لأشعة الشمس أثناء عبورها الغلاف الجوي، وانتشار جزيئات الضوء في السماء والمساحات الواسعة للمسطحات المائية، فكيف إذا كان البلاء المقيم، زرقة قلب القريب من دماء قلبك؟ والسؤال: هل فعلًا للتين الأزرق مدينة محددة، ترتع ما بين التاريخ الواقعي والخيال، لتتبخر طوال الفصول، عبر قرون متلاحقة، بأسماء وأزمان مختلفة؟ الجواب: نعم يمكن أن تكون، مادام لقبا الشاعرية والشاعر، سبقت السردية والروائي للأديب سمير القضاة، فأصبح مباحًا لها هنا أن تُصّنف مقدّرةً، لتنضم إلى سلسلة من الإبداعات، في سباقٍ موّفق بين الشعر والسرد. التحيّز واضح للعتبة الملهمة (مدينة التين الأزرق) حيث تكرر ذكرها في فصول الرواية، كأنّ ذاك التين الأزرق مَعْلَمًا في كل حين، حتى الرسم المعبر المتشح بالأزرق، اتخذ مكانًا قصيّا على الغلاف، ليتيح لمنصة العنوان المكان الأرحب. الإهداء تحرر من سجن الأنانية وتفضيل الذات، إلى جهة ساميّة، بثينة وما ساهمت به من شغف واحتفاء ونصيحة وأنا على يقين أن الرواية صفة يتصف بها كل موجود من أول الخلق، كل البشر لديهم الاستعداد ليرووا الأحداث، هي فطرة تنتظر الوقت المناسب للظهور، مادامت الموهبة تصهر الواقع في بوتقة الإبداع الشامل، المزدان بهندسة تحتل القلوب، عبر جسر من بلاغة وكفاءة قادرتان على التواصل مع أدمغة من سبقونا على هذه الأرض. وهكذا تكون الرواية التاريخية، حسب وجهة نظر ومسار الروائي سمير، رواية تتخذ مسارًا زمنيًا بحرفية قصصية، مع تغيير الأسماء وبعض المسميات، فكان مسار التاريخ كما يراه الروائي، وظّف فيها النعوت القديمة، مع الإسقاطات الدينية، لكنه حافظ بالمجمل على أسماء جغرافيا الأرض قديمًا وحديثًا مثل عجلون/ جلعاد، فيلادلفيا الاسم الروماني لمدينة عمان، بترا، ميناء غزّة، جراسيا/ جرش حاليًا، ديبون/ ذبيان، الكرخة/ الاسم القديم لمدينة الكرك، سبب تسمية عراق الأمير بهذا الاسم، وغيرها الكثير. ربط الروائي سمير الأحداث بدقة وروية، تداخل فيها مساراته المنتقاة في بنية الحدث، عبر الصراعات الدموية بين الآدوميين، العبرانيين، الرمان، الأنباط وغيرهم. القسم الأول من الرواية (عبّاد): بدأ من معاناته وهو الكبير سنًا صاحب المكانة بين قومه، من غيرة زوجته ومن جاريته سوما وابنه منها، وطلبها منه إبعادهما عن الديار، وكأنها قصة السيدة سارة والنبي إبراهيم وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل، إلا أن الأمر هناك كان للخالق وليس لمخلوق، لكن القصتين بتاريخ الكون موّثقة، وهذا يقاس على الكثير من الحكايا الواردة في الرواية، المتماثلة حدثًا. خسارة عبّاد لابنه، هي جريرة إثمه، بإبعاده عن وطنه انصياعًا لأمر زوجته، والوطن كما كتب الأديب سمير القضاة. الوطن هو المساحة التي تستقبل ركبتيك وأنت تحبو، ثمّ تشجعك أكثر لتقف على قدميك، وما تفتأ تغريك بالمشي حتى ينفلت عقالك، فأحفاد عبّاد في الأجيال التي تلت، نسوا جذورهم وأصولهم الحقيقية. سالوم، صاحب القلب الأبيض الذي قتله حزنه. قيدار القوي البنية، الآمر الناهي في مملكة بترا، الذي قتله الرومان وهو يدافع عن ملكته شقيلة، وقصتها في تناول السم حتى لا تأسر، مقاربة مع كليوبترا، حكاية خالدة. رام الذكي، وكابوس طوبيا، رام الذي أصبح لقبه فيما بعد «ذو العين الواحدة» صاحب حكمة. من يجمع الثروات العظيمة، قد يدفن تحتها يومًا ما، لكنها لا تستطيع سقي جثته، كما تفعل الغيمة مع الزرع كل عام. وقبل أن تهبط السماء في بترا (القسم الثاني من الرواية) كان الصراع قائم اختلافًا على نظريتي اللاهوت (التعمق بمعرفة صفات الذات الإلهية)، والناسوت وهو كل ما يشير إلى البشر، والمذهب النسطوري (الذي يذهب بأن تكوين يسوع من جزأين، إلهي هو الكلمة، وإنساني بشري هو الجسد)، وهروب كعب حفيد رام ذو العين الواحدة أو كعب العيني من البطش الديني حيث كل شخص يرى نفسه مؤمنًا، كما يعتقد هو، وينفي صفة الإيمان عمّن لا يشاطره اعتقاده، كما خطّ الروائي سمير. ومحاولة الأشهل ابن كعب هداية أهله، وبحثه عن نور يضيء على الأكوان كافة، وعبد مناة بن الأشهل ونوبات التخيل، التي أصابته وهو مازال طفلًا، ومهابته بين قومه وعلمه وحكمته، زواجه من حوراء وإخلاصه لها. سفره إلى زيزيا وخلوته وبعده عن الدير، المغيرة الصديق الناعم اللطيف، من أحجم القوم عن اقتران بناتهم بهِ، الشك بما يدور بين عبد مناة بن الأشهل والحوري، الشاب الصغير، وتأويلات عديدة لنصل بعدها إلى الأرض الملعونة «سدوم»، وهي قرية سكن فيها قوم لوط قرب البحر الميت. اختلاط الأنساب بالزواج وشراء الجواري بغاية المتعة والإنجاب، والترحال بقصد التجارة أو الحج، الهجرة من بترا إلى ربّة عمون بسبب الظلم، بعد أن ضيقوا عليهم أبناء عمومتهم، كلها إسقاطات تاريخيّة دينية توثيقية، في وصفها إسهاب في شتى مناحي الحياة البدوية والحضرية القديمة، أسماء الشواطئ، البحور، الأيام، الشهور عند الأنباط مثلًا، معلومات ليس من السهل حصرها في رواية واحدة. قد نهاجر أيضًا، حبًا وهياما كما فعلت الجليلة، نهاجر إلى ما نعشق في زمن كانت المرأة فيه ممتهنة تباع وتشترى، كانت ومازالت ممنوعة من صواب القرار، مقيّدة، بالكثير من المشاعر والأطماع البشرية. الكرة، الضغينة، الحيرة، اختلاف المعتقدات والعادات البالية، والحب بدون أمل، ناصية إعدام لأنثى لا يعلم عنها المعشوق شيئا، امرأة تجد أحلامها في رجل متزوج وفي لزوجته لامرأة غيرها مريضة. عبد مناة، رجل مختلف صاحب مروءة عالية، أمير نادر، أسطورة خارقة، نتوق إلى أمثالها في واقعنا المعاش والأساطير الخيّرة مباحة، دائمًا سيولد إنسان يلمس حياة الآخرين بمحبة، يتذكرونه بالخير، ويعتزون به منقذًا شهمًا سيتكرر بيننا، عبد مناة بن الأشهل، أو أشهل بن عبد مناة، لا فرق فهل فعلًا انتهت الرواية عند الصفحة 280، أم ننتظر قريبًا جزءًا آخر، تابعًا لها، قد يكون عنوانه إن، صدق حدسي، مدينة النور؟ علّنا نجد حكاية الحقيقة المغيّبة. ويخال لي أنها ستحتاج وقتًا أطول، فكمثل صعوبة خطّ الرواية التاريخية الدينية المتشعبة، أيضًا ليس من السهل بمكان، سَطرِ إضاءة وافية تسير بخط مستقيم حيادي، دون خصام مع معتقدات النفس وما نشأت عليه. وأعتقد أن قراءتها بوعي، وتأويل مجرياتها، يحتاج التكرار والتروي الزمني، ليبحث راغبها بجديّة عن المقاربة، ولا يتوه في تعقيد التسلسل أخيرًا. لأن الشعر ترّبع بكامل أناقته على صفحات فصول الرواية، وساهم بشاعرية النص الروائي، سأنهي الإضاءة بأبيات للروائي الشاعر سمير القضاة على لسان جليلة بنت سلّام: قلبي بحبِّ الشهمِ مجنونُ والسرُّ في الأحشاءِ مدفونُ أسيرُ يا حتفي إلى حتفي فالسمُّ عمانٌ وعمّونُ. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-09-2024 09:23 مساء
الزوار: 88 التعليقات: 0
|