نظرة في كتاب.. «مجامع اللغة العربية في عهود الهاشميين» للدكتور سمير الدروبي
عرار:
نايف النوايسة
لا يشك أحدٌ أن اللغة مرتبطة بهوية الأمة وخصوصيتها الحضارية وشخصية مواطنيها وهيبة شعوبها، وهي من أهم العوامل المتصلة بتقوية الانتماء وتعميق الولاء لمنجزات الأمة على كافة الصعد.. ولو أن لغتنا العربية لم تكن هكذا قوية ومتماسكة لما تذكرنا الإرث الثقافي العربي قيل الإسلام ولا خطر على بال أحدٍ منا، حتى أننا إذا نظرنا في المسائل المتعلقة بالإعجاز القرآني وقوة بيانه سنجد التحدي ما زال قائماً لكلام العرب والمتمثل في الشعر. اللغة والهوية صنوان متوافقان متحدان ويطلاّن من مشكاة واحدة، من أجل ذلك كانتا منذ القديم عنواناً للصراعات في العالم، ورأس حربة تتقدم أي قوة غاشمة تسعى لبسط سطوتها وسيطرتها على الشعوب فاللغة في فهم هذه القوى وعند العلماء والمفكرين هي إرث اجتماعي عظيم فمن يمتلكها ويتحكم بها يسيطر على الهوية العقلية والفكرية والروحية ويوجه دفة المركبة الثقافية على هواه، لخاصية اللغة في أن تكون بوابة لتحقيق التماسك والصلابة للهوية الخاصة أو أن يدخل منها العدو لتدمير مراكز قوة أي أمة. لقد كل هذه الخواطر حاضرة في ذهني وأنا أقرأ في كتاب( مجامع اللغة العربية في عهود الهاشميين) للدكتور سمير الدروبي والذي يقع في ثمانمئة صفحة ونيف موزعة على ثلاثة أجزاء، وتبين لي بعد أن فرغت من قراءته بأن لمجامع اللغة العربية أهمية كبيرة وخدمة جليلة للغة وكافة العلوم والآداب المتعلقة بها، ذلك لأنها أسهمت في الحفاظ عليها من أي تجاوز وتعدٍّ، وحققت لها السبل لتتعايش مع العصر من خلال التعريب والترجمة ووضع المصطلحات الدالة وتأليف الكتب المتصلة بها، وفي نظرة فاحصة لإرث المجامع في بلادنا نجدها كثيرة ومتخصصة ونوعية واجتهدت أيما اجتهاد لخدمة اللغة وحمايتها، فلا عجب إذن من أن يوجه الاستعمار رأس حربته القاتلة لضرب الهوية الخاصة لأي بلد من خلال تشويه لغتها والهيمنة على الثقافة المكتوبة بها بلغة بديلة( استعمار لغوي)، وشن الحملات المسعورة على المراكز والمؤسسات المتصلة بتعليم اللغة والمناهج والمدارس والتعاملات اليومية وإضعاف أدائها. تحدث الدكتور الدروبي عن ظروف تأسيس ثلاثة مجامع للغة العربية في عهود الهاشميين وهي( المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1918 في عهد الملك فيصل، والمجمع العلمي العربي في الشرق زمن الأمير عبدالله بن الحسين سنة 1923 في عمان، ومجمع اللغة العربية الأردني في عهد الملك الحسين بن طلال سنة 1976). أما المجمع الأول فقد خصه د. الدروبي بحديث طويل موسع قبل التأسيس وفي أثناء عمله وما تبع ذلك من أحداث أفضت إلى حله، وقد جمع الباحث معلوماته من مصادر موثوقة وبيّن أن مسيرة اللغة العربية مرت في حالة ضعف وقوة من حقبة المماليك حتى يومنا هذا، ابتداءً أظهر حرص أمراء المماليك على العربية بالرغم من أن أصولهم غير عربية، لأنهم تيقنوا من أهمية اللغة في بناء الهوية الحضارية التي وسمت حقبتهم التاريخية بالقوة وتحقيق الكثير من الإنجازات. وحين بزغ نجم العثمانيين بدأت اللغة تضعف وتخبو بسبب انشغال هذه الدولة بحروبها، فأغفلت خصوصيات الشعوب التي انضوت تحت لوائها، وعلى رأس ذلك اللغة، وعندما آلت السلطة إلى الطورانيين وجماعة الاتحاد والترقي غابت اللغة العربية تماماً بسبب الحرب التي شنها عليها دعاة التتريك غياباً كاملاً لولا ثلة من الحريصين عليها أبقوا جذوة الحياة حية فيها ولا تنطفئ. كان همُّ الامير فيصل في بدء حقبة الهاشمين بعد ثورة الشريف الحسين بن علي سنه 1916 هو تعريب كل شيء؛ فاستطاع في السنتين من ملكه على سوريا (1918ـــ1920) من أن يفعل الكثير لهذه اللغة وعلى رأسها تأسيس المجمع الأول 1918 الذي لم يستمر طويلاً بسبب الصراعات السياسية والاستعمارية (فرنسا وإنجلترا) اللتين خرجتا من الحرب العالمية الأولى منتصرتين، وأصبحت الدول العربية التي كانت تابعة للعثمانيين تحت انتدابها، وقد ساعد على حلِّ المجمع أيضاً بعض المتصلين بسلطات الانتداب، على الرغم من حرص رئيس المجلس العسكري علي رضا الركابي على بقاء المجمع، وبإمرة رئيسه الأستاذ محمد كرد علي ومن معه من أعضاء وهم أصحاب علم وفكر وأدب ومتبحرين في علوم اللغة أمثال رشيد بقدونس وعبدالقادر المبارك وغيرهما. وأبرز الكتاب مسيرة تأسيس المجمع منذ اللحظة التي عُيّن فيها محمد كرد علي رئيسا لديوان المعارف، وموافقة الحكومة على ذلك، وقد دفع كرد علي بقوة لتحقيق أهداف المجمع بعد أن بيّن أهميته للغة العربية.
بين الكتاب انجازات المجمع ابتداءً من تعيين رئيسه وتسمية أعضائه واختيار مقره وترميمه ودلالات اختيار هذا المقر، كما رصد قرارات المجمع وكشف عن أهدافه ومنها( خدمة اللغة العربية وجعلها لغة الإدارة والعلم ونشر آداب اللغة وتحقيق مخطوطاتها وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون عن اللغات الأوروبية وجمع الآثار القديمة من تماثيل وأدوات ونقود وكتابات.. وجمع المخطوطات ووضع بعض التواريخ وتعريب الكتب المفيدة وطبع بعض الرسائل العلمية واللغوية في الأوضاع المدنية وإصدار مجلة باسم المجمع العلمي العربي)، وغاب الهدف الخامس عن هذه الأهداف التي ذكرها الدكتور الدروبي.
ومن المهم أن نذكر أسماء أعضاء المجمع وهم (محمد أمين سويد وأنيس سلوم وسعيد الكرمي وعيسى إسكندر المعلوف وعبدالقادر المغربي ومتري قندلفت وعز الدين وعلم الدين التنوخي وطاهر الجزائري)، ولكل واحد من هؤلاء سيرة علمية عطرة ووظّفها توظيفاً مخلصاً بنجاح المجمع. أما ساطع الحصري الذي رغب محمد كرد علي بانضمامه معه في المجمع فإنه فضّل أن يأتي عن طريق جمعية العربية الفتاة ليكون مديراً عاماً للمعارف وعلى غير إرادة الركابي رئيس المجلس العسكري. من هنا تبدأ الخيوط التي لها علاقة بموقف الحصري وأمثاله من المجمع، والدفع بحله سنه 1919. ويبدو أن فض المجمع كان لأسباب سياسية حزبية تقف وراءها جمعيه الفتاة العربية التي تذرّعت بالظروف المالية للمجمع، فكان لابد من حله، وما ذلك إلاّ لتصفية الحسابات بين الحصري وجمعيته مع المجمع، وقال عنها كرد علي (تشفياً من بعض الأحزاب التي لم أشأ أن أسايرهم على العمياء). وبالنتيجة تم إغلاق المجمع تحت وطأة هذه الخلافات، ولم يكن محمد كرد علي عضواً في جمعية العربية الفتاة ليتم دعمه، كما لم يكن ساطع الحصري مؤيداً لبقاء المجمع بسبب انضوائه في الجمعية وناوأ المجمع العداء بدواعي علمانية ليبرالية، وحين حُلّ المجمع لم يبق فيه إلا موظفان لا وزن لهما. وفي قراءة للظروف المصاحبة لتأسيس المجمع العلمي العربي في الشرق عام 1923 في بداية عهد الأمير عبدالله بن الحسين يقتضي الأمر الدخول في السياقات التاريخية لصدور إرادة الأمير، فقد اختلف الباحثون في تاريخ التأسيس وأهدافه وغاياته، إذ أن هناك من ينكر تأسيس المجمع في الأصل، وهناك من يحدد له تاريخاً، ويرجح الدكتور الدروبي رأي الأستاذ عبدالكريم خليفة الذي يذهب إلى أن هذا المجمع تأسس في تموز 1923 وكان الشيخ سعيد الكريم رئيساً له ولم يستمر لأسباب مالية وعلمية وبشرية.. ويذهب الدروبي إلى أن عدم استمراره يعود لأسباب استعمارية وسياسية، واعتمد الباحث على مصادر أساسية صادقة في نقل خبر صدور الإرادة الملكية بتأسيس المجمع العلمي الأول وهو ما ورد في جريدة الشرق العربي، وأما المصدر الثاني فهو الوثيقة التي نقلها السيد عدنان الخطيب عضو مجمع اللغة العربية بدمشق في كتابه (المجمع العلمي العربي مجمع اللغة العربية بدمشق في خمسين عاماً)، وأما المصدر الثالث فهو ما ورد في كتاب (من أعلام الفكر والأدب في فلسطين) للأديب يعقوب العودات (البدوي الملثم). وبحث الدروبي في الدلالات التاريخية للإرادة وتسمية أعضاء المجمع، فضلاً عن الكشف عن الأيديولوجيا التي قام عليها وإعلان الرعاية الأميرية له وكذلك قوميته بالإضافة إلى الاهتمام بآثار البلاد والحفاظ عليها وتأسيس مجلة باسمه. وأسهب المؤلف في رصد سير حياة رئيس المجمع والأعضاء، كما بحث دوافع الإرادة وأسباب صدورها وأفاض بالحديث حول ذلك، وبين أهداف المجمع وأعماله وجلساته وقراراته ثم مصيره والمآل الذي انتهى إليه سنة ???? وفق ما ذكره يعقوب العودات في كتابه المار ذكره. وفي الحديث عن المجمع الثالث في عهد الهاشميين يرصد الدروبي بدقة كافة الظروف التي أدت إلى تأسيسه؛ ففي سنة 1973 بدأت الجهود لتحويل اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر إلى مجمع لغوي، واطلع المعنيون بتأسيسه على تجارب الدول العربية (مصر وسوريا والعراق)، وفي حزيران 1976 صدرت الإرادة الملكية بتأسيس المجمع بقانون خاص به هو( قانون مجمع اللغة العربية الأردني) وضم القانون ثلاث وعشرين مادة. رصد د. الدروبي جهود المجمع لتعريب التعليم العلمي الجامعي وتحقيق التراث العربي الإسلامي ونشره كما ذكر إنجازات المجمع وما حصل عليه من جوائز عربية وعالمية. هذا الكتاب ثري بالمعلومات التاريخية والتحليل العلمي والسياسي والرصد الثقافي الدقيق، والحق أنه يحتاج إلى وقفة متأنية لقراءته والوقوف على عظيم فائدته.. وهو إضافة نوعية حقيقية للمكتبة الأردنية والعربية ولكل الباحثين في مثل هذا المجال