|
عرار:
إبراهيم خليل صدور هذا الكتاب «آفاقُ الرواية» بعد قرْنٍ من صدور رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل 1913 فرصةٌ مناسبةٌ لطرح الكثير من الأسئلة عن الرواية العربية، وإلى أينَ وصلت. فقد تزامن ظهورُها معَ ظهور المسرحية، وإحياء الشعر العربي القديم، وظهور القصة القصيرة، والسيناريو، والخاطرة، والمقالة الأدبية، والسيرة الذاتية، وغير الذاتية، وأشكال أخْرى من الإبْداع الأدبي. وآن الأوان للنظر في ما بلغته هذه الرواية من صقل وتطوير، ومن جوْدَةٍ في البناء والتعبير، ولا بدّ في رأي المؤلف د. محمد شاهين من التوقف إزاء التساؤلات التي تقودُنا إلى تقويم يحدّد الموقع الذي تشْغله هذه الرواية بين الأجناس الأدبية المذكورة. لهذا جاء ظهورُ الكتاب ليوضّح لنا علاقة الرواية بالتراث أولا، ومدى ما حقَّقته من نُضْج ثانيا، من حيث البنيةُ، والمؤثراتُ الأجنبية، سواءٌ أكانتْ أمريكية (فولكنر) أو فرنسية (ستاندال، بروست) أو إنجليزية (لورنس، فورستر، ديكنز، كونراد، وغيرهم) واللافتُ للنظر وقوفُ المؤلف وقفةً متأنية جدًا، ومترويّة كثيرا، إزاء توظيف الشعراء، والكتاب، لحكاية السندباد ورحلاته السبع، في الفصل الأول الموسوم بعنوان «السندبادُ: حكاية العودة من الشِعْر إلى القصة» (ص14) وهي حكايةٌ شيِّقة من كتاب « ألف ليلة وليلة « تأثر بها الأدباء الغربيّون تأثرًا كبيرًا منذ ظهور ترجمة الفرنسي أنطونيو غالان 1704 لليالي قبل نيف وثلاثمائة عام، وترجمة الإنجليزي ريتشارد يبرتون Burton لها بعده. و يُذكُـرُ لنا المؤلف قصتيْن لميشيل عفلق (1910- 1989) وظَّف فيهما حكاية السندباد توظيفًا ركــّز فيه تركيزًا شديدًا على دوافع السفر، والمغامرة، وتداخُل الواقع في مشاهداته بالخيال الذي لا يخلو من الغرائب، ولا يفتقِرُ للخوارقِ والعَجائب. (ص17) وأما توظيف خليل حاوي (1919- 1982) وهو شاعرٌ لا ناثر، لحكاية السندباد في قصيدته « رحلة السندباد الثامنة « فتوظيفٌ أراد أن يقول فيه: إنه هو السندباد الجديد، الذي لا يتوقَّف عند رحلته السابعة، إذ يقوم برحلة أخرى ثامنة، وإذا كان سندباد «ألف ليلة» أضاع رأس ماله، وخسر في التجارة، فإن حاوي يكسبُ في رحلته هذه البُشرى بالخلاص، والانبعاث: وها هنا الكنوز والحبوبُ والثمار وها هنا الطيوب حبيسة القصور تشير للخلاص، للطريق، جماعة الطيور بعد رحلة الشتاء تعودُ للوطن وعادَ سندباد معنى ذلك أنّ القصيدةَ عند الشاعر خليل حاوي تقوم على رؤية معدَّلة لسندباد «الليالي» الذي عاد نادمًا لما مُني به من خسائر، ومن حظٍّ تَعِس وعاثر، وعند حاوي، عاد مثلما يبدو في هذا المقطع الأخير بنهاية سعيدة، تتشكل بمغزاها همزةُ وصْلٍ بين عفلق وخليل حاوي. وثمة قطعة أدبية نثرية تشبه، أو تكاد تكونُ مسرحيةً من فصل واحد، لنجيب سرور (1932- 1978) وظَّف فيها الكاتبُ السندباد، وحكايته. وهذا العرْضُ لمحاولات عفلق، وحاوي، ونجيب سرور، تليه وقْفة عند قصيدة «مدينة السندباد» لبدر شاكر السياب (1926- 1964) وفيها يتَّضحُ أنَّ الشاعر لا يرى في بغدادَ – وهي مدينة سندباد – مدينةً كتلك التي ظلَّ سندبادُ في رحلاته يحلمُ بالعودة إليها، مؤكدًا أنها مدينة الحياة السعيدة. ولكنها لدى السيّاب على النقيض من ذلك، أطلالٌ دوارسُ، وحفائرُ، وخناجرُ، لا تزورها شمسٌ، ولا يطلع فيها بدر: أهذه مدينتي، أهذه الطلول، أهذه مدينتي خناجرُ التتر تغْمدُ فوق بابها وتلهث الفلاة حول دروبها، ولا يزورها قمرْ أهذه مدينتي، أهذه الحفرْ وقد لا يكونُ الفرقُ كبيرًا بين قصيدة السيّاب، وقصيدة خليل خوري الموسومة بعنوان «سندباد بلا انتصار» فمدينتُه هو الآخر يأكلها الضَجر، وتحيط بها الكآبة. وهذا هو شأنُ قصيدة أحمد المأخذي «متى يعود السندباد؟» (ص29). واللافت أنّ المؤلفَ- محمد شاهين - استأنف الحديث عن السندباد والقصة القصيرة بعد الذي كان من حديثه المفصّل عن الشِعر، فقد ظهر عدَدٌ من كتّاب القصة القصيرة الذين استخدموا حكاية السندباد في قِصَصهم، ومن هؤلاء عبد الرحمن فهمي – من مصر- الذي نشر قصّة بعنوان رحلاتُ السندباد السبع... وفيها يقدم لنا الكاتبُ صورةً مغايرةً لصورة السندباد التي عرفناها في «الليالي». كذلك يعرضُ لقصَّةٍ أخْرى بعنوان « الأحزانُ القديمة- خمسُ حكاياتٍ من ألْفِ ليلة وليلة « للقاصّ المصري محمد المنسي قنديل. وهي قصَّة تذكرنا بموت السندباد في قصة ميشيل عفلق. ويظهرُ السندبادُ صامتًا مغلوبًا على أمره في قصة أخرى للمغربي مصطفى المِسْناوي (1953- 2015). وحبَّذا لو أنّ المؤلف نظم تناوله لحكاية السندباد في القصص بعضِها تلوَ بعض بدلا من التفريق بينها بالحديث عن القصائد، ثم العودة للحديث عن القِصص، مما يُضفي على النسق الاضطرابَ، والاسْتطرادَ، مع غياب الاتساق. وتجدُر الإشارةُ إلى أنّ جلَّ ما جاءَ في هذا الفصل من ص 14 –30 ما هو إلا توطئةٌ، وتمهيدٌ، للحديث عن رواية نجيب محفوظ الموسومة بعنوان « ليالي ألف ليلة « 1988. التي عرض لعلاقتها الوثيقة بالليالي من ص 30- 38. وهي، في رأيه، تمثلُ مخاضًا سرديًا غلَبَ على الكاتب محفوظ لسنواتٍ تمتدُّ بين عامي 1967 و 1979 وفيها حدثان مُهمّان، هما: النكسة، ومعاهدة السادات(كامب ديفيد) فصحوةُ شهريار تأتي بعد نكسة تتلوها نكسة. ولهذا فإنَّ الرواية تروي للقارئ حكايةً معقَّدةً للواقع السياسي الممتدّ بين الحدَثيْن. وقد اقنبس المؤلف مشاهد، وحواراتٍ، للسندباد وشهريار والوزير، مؤكدًا بتلك الاقتباسات أنَّ هذه التجْربةَ في كتابة الرواية العربية تمثلُ شكلا جديدًا ألهمتْهُ إياهُ ليالي « ألف ليلة «. فخروجُ شهريار يرمزُ بوضوح لخروج الزعيم من اللعْبة السياسيّة، مخلفًا وراءَهُ أجيالا تدفع الثمنَ باهظا جراءَ تلك المغامرة، أو المقامَرَة، بكلمةٍ أدقّ. وفي فصْلٍ آخرَ من هذا الكتابِ القيّم، يقفُنا المؤلف إزاءَ رواية إميل حبيبي1921- 1996 (المتشائل) مُسْتهلا الحديثَ عنها بكلمة لمحمود درويش يؤكد فيها أنّ الذات « في بحثها عن ذاتها لا تجدُها إلا إذا امتلأتْ بخارجها « - أي بغيرها - إذا صحّ التعبير. وهذا ما يتجلى بوضوح في تلك الرواية. ففي بحث الكاتب عن تأكيد الذات الفلسطينية المهدَّدة بالمحْو « يستثمر» (1) التراثَ الفلسطينيَّ بدءًا بالأسْطورة، والمحكيات القديمة، مرورًا بالحكاية الشعبية التي يذكــّـرنا توظيفُه لها بحكايات جِفْري تشوسّرChaucer الموسومة بحكايات كانترْبَري The Canterbury Tales (2). لذلك نجدُهُ – أيْ إميل حبيبي- يستحضرُ ما يُعْرف باسْم صندوق العَجَب، متخذًا منه شيئًا شبيهًا بالتقنية التي يستعين بها ساردًا الكثير من الحكايات عن بدْر، وبدور، وسواهما. فصندوق العَجَب، فضلا عن أنه رمزٌ شعبيٌ، ثمة تداخلٌ فيه مع المسرح، كما في « لكَع بنُ لكَع «. ومن هذا المزيج كله اهتدى إميل حبيبي لما يسميه شاهين ذاتًا جمعيّة تسمو على أيّ ذاتٍ أخرى، وعلى أيّ ظرف، وكلِّ سياسة، فعملية التوحُّد بين الذات وما هو خارج عنها، أو غيرها، أشبه بتوحُّد الأعضاء المختلفة المتباينة في جسْم الإنسان. وفي هذا السياق يتَّضح أنَّ ثمة ما هو متقابل، أو متواز، بين ديمتري في رواية دكنز(1812- 1870) الآمال الكبيرة، وسعيد في المتشائل، فكلا الكاتبين اسْتطاع أنْ يبْدع بسرده للحوادث واقعًا جديدًا بكلمات تختزل المسافة بين الذاتِ وما هو خارجها، بين الخطاب والواقع، بين البداياتِ والنهايات. ونجح كلٌ منهما في أنْ يجعل اللغة تعبّرُ، لا بلسانِهِ هو، بل بألسنتنا جميعًا، لأنه جعلنا نعيشُ في هاتيكَ الوقائع. والحديثُ عن روايةِ غسان كنفاني(1936- 1972) « ما تبقَّى لكُم « حديثٌ غير بعيد عن تناول المؤلف لرواية « المتشائل « المذكورَة لإميل حبيبي، أو «يوميّات سراب عفان» لجبرا(3). فالرواياتُ الثلاث تمتُّ بصلة متينةٍ، وكبيرةٍ، بروايات غربية. فالأولى لا ينكـرُ مؤلفها تأثره بوليم فولكنر Faulkner الأمريكي(1887- 1962) صاحب رواية الصخب والعنف Sound and the Fury The 1929 التي نقلها للعربية جبرا إبراهيم جبرا. وهذا- بدوره- لا يُنْكر تأثره برواية « الأحمر والأسود « Le Rouge et le Noirللفرنسي ستاندال 1830(انظر ص 96) ولا يُنكر أيضا تأثرهُ برواية « صورة الفنان شابًا « للإرلندي جيمس جويس(1882- 1941). وبالعودة إلى غسّان كنفاني، وروايتهِ « ما تبقّى لكم « يرى المؤلف أنّ كنفاني- ربما- كان قد اطلع على مسرحيّة « مكبث « لشكسبيرShakespeare ، ولا سيما الجزءَ الذي اقتبس منه فولكنر عنوان روايته. وهو قول مكبثMacbeth في خاتمة المسرحيّة: « إنّ الحياة مليئة بالصخب والغضب. ولا مغزى لها « وهذا فعلا ما عناهُ فولكنر بالعنوان، وما عناهُ كنفاني، إلا أنّ هذا الأخير يوحي بتفاؤلٍ لا نجدُه في رواية فولكنر. فأقلّ ما يعنيه عنوان كنفاني أنَّ ثمة شيئًا ما تبقى في جُعْبة الحياة، مع أن هذا الشيء غير معروف، وغير محدَّد، وغامضٌ في رؤيته، ومنظوره (ص163). وينْفي المؤلفُ أن يكون هذا القدْر الضئيل من التفاؤل في عنوان رواية كنفاني مستمدٌّ، أو مُسْتوحىً، من قصيدة عزرا باوند(1885- 1972) وقوله: ما تحبّونَهُ حقًا هو ما تبقّى لكم ويستشهد بحوارٍ مع كنفاني، أُجْري، ونُشر، قبل اسْتشهاده(نموز1972) يعترف فيه بهذا التأثر الذي جمع بين روايته ورواية فولكنر المذكورة في قَرَن. ونحنُ نظنّ أنّ القاسم المشترك بين الروايتين يتجاوزُ العنْوان، ودلالاتِه المباشِرة، وغير المباشِرة. فعلى الرغم من تقديرنا لما يقوله المؤلف، يتّضح للقارئ أنَّ الشيء المشترك بينهما هو (التكنيك) السردي الذي اسْتخدمه فولكنر أولا (1929) ثم استخدمه كنفاني في روايته التي صدرت بعد « الصخَب والعنف « بزمن غير قصير(1966) وهذا تاريخ مُبكــّـر إذا أخذ بالحسبان السياق المعرفي لشيوع هذا (التكنيك) في الرواية العربية. والمؤسِفُ أنَّ المؤلفَ بالغَ في الحديثِ عن الصلة بين عنوانيْ الروايتيْن، وبينهما وبين روايات أخْرى للورنسLawrence (1885- 1920) وغيره، على حساب البناء الذي لم يُعْطهِ حقَّه من الدرس، والبَحْث. فكلاهما يستخدم ما يُسمى بالمونولوج monologue استخدامًا متواصِلا في كثيرٍ من الأحيان، مسلطًا الضوء على العالم الذهني الداخلي للشخوص. فبدلا من أنْ يعْهد كنفاني للراوي بوَصْفِ ما يمورُ في دخيلاء زكريا، أو مريم، أو حامد، يتركُ للكثير من التداعيات أنْ تنثال على الشخصية من وَعْيها الباطني، أو مما هو محفوظ، ومختزَنٌ، في اللاشعور. ولأنَّ تجربة غسّان كانت الريادَةَ الأولى على هذا المستوى، فقد فرّق بين هذه التداعيات، أو المونولوجات، وما عداها، تفريقًا يعْتَمد على الطباعة. فما يقوله الساردُ أقلّ سوادًا مما طُبعت به هاتيكَ التداعيات. ومع هذا، فإنّ ما يذكرهُ المؤلفُ من مَلاحظَ عن وجوه الشبه، أو الاختلاف، بين شخصيَّة حامد، أو مريم، أو زكريا، وبعض شخوص كونراد في Heart of Darkness «قلب الظلام» 1899، أو 1902 من الإضاءاتِ التي لا بدَّ منها للكشْفِ عن المدى الذي بلغته الرواية العربية من تطوُّر فني يضعُها على قدم المساواة مع الرواية العالمية في أوروبا، وغير أوروبا. علاوةً على أنَّ ما أثارهُ من مَلاحِظَ عن توظيف الروائيَين وكتاب القصة لحكاية السندباد، ورحلاته السبع، أو الثماني، وليالي ألف ليلة، وصندوق العجب، والأساطير، والحكايات الشعبية، في المتشائل، وما سلَّطه جبرا من الضوء على علاقته العُضوية بالمكان، وكونه فلسطينيًا يبحَثُ في الرواية عما يؤكد هويته المهدَّدة، يشير بهذا كله لما في الرواية العربية من تداخل مع الأجناس الأدبية الأخْرى، ومن تواصلٍ ملموس بالتراثِ الثقافي، وبذلك يجيبُ المؤلف عما أثارهُ منْ تَساؤلاتٍ في مقدّمتهِ، وما نبَّه عليهِ من إشكالاتٍ في فُصول كتابهِ، وهذا حسْبُه. هوامش: يكثر استخدام هذه الكلمة(يستثمر) في مثل هذا السياق. واللافت أنه استخدام غير دقيق لما في الكلمة من إيحاءاتٍ، وظلال اقتصادية، أين منها الأدبُ شعره ونثره؟ انظر ما كتبه إلبرت بطرس عن هذا في كتابه: جفري تشوسر، ط1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009 وانظر ما كتبناه عن المؤلف والكتاب في القدس العربي بتاريخ 2 / 9 / 2021. انظر ما كتبناه عن « ما تبقى لكم « في كتابنا : في القصة والرواية الفلسطينية، ط1، عمان: دار ابن رشد للنشر ، 1984 ص ص 115- 129 وانظر ما كتبناه عن رواية يوميات سراب عفان في: جبرا إبراهيم جبرا الأديب الناقد، ط1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001 ص ص 52 - 60وما كتبناه عن رواية (المتشائل) لإميل حبيبي في:كتابنا الرواية. التاريخ. السيرة،ط1، عمان: أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، 2012 ص ص 203- 216 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 01-04-2022 10:25 مساء
الزوار: 1036 التعليقات: 0
|