منذر اللالا لا يغيب عن الشعراء في عصرنا الحديث استدعاء الموروث بمحمولاته الفكرية والوجودية والعاطفية، للوصول إلى المكنون المراد، وتوثيق الصلة في العلاقات الوجودية وارتباطاتها الجامعة ببن البشر عامة والشعراء خاصة؛ من خوف وحب وقلق وحرب.. وحياة وموت، ولم يكن الشاعر محمد خضير في مختاراته الشعرية «الناسك» بمنأى عن هذا الإطار، طرح الموضوع في ثوب عززه بالجمال والتشويق بتعبيره عن الحب وما يحيط في فلكه، في محاوره الشعرية الرومانتيكية، ولقطاته المختلفة، التي ارجعت المتلقي إلى زمن الجاهلية وصدر الإسلام، وفي هذا الجانب استلهم من التاريخ ما يتقاطع مع التجربة التي يعيشها مشاهدا أو ممارسا، معتمدا على ذكر الأسماء التي ما أن تطرح في السياق حتى تعود بالمتلقي إلى صولة الحرب، وعمق الحب. يلجأ الشاعر محمد خضير إلى استدعاء الشخصيات لأسباب متعددة فنية أو خاصة.. فكثير من الشعراء قد ينأى عن التعبير عن مشاعره والإفصاح عنها، بحجة عدم تمثيلها له، أو أنها ليست تجربته، وهنا يستوقفني الأمر؛ فأنا أرى أن المرء لا يمكن أن يكتب بصدق وتعبير يصل إلى القارئ ما لم يعش أو يعايش عن قرب، لكن الأقرب للصواب حسب رايي أن استدعاء الشخصيات طريقة جيدة للتعويض وإيجاد من ينوب ليعبر وينقل الصورة بما تحمله من عاطفة وحب وفكر وفلسفة. وتبدو فكرة ذكية من الشاعر محمد خضير لأن الشخصيات في مختاراته الشعرية «الناسك» لم تكن مبهمة عن القارئ العربي، فهي الأجدر في علاج الموقف وإيصال المشهد وما يدور حوله بشمولية، وإثارة المغزى بحكم الجامع في التجربة. استعمل محمد خضير في مختارته الشعرية «الناسك» الشخصيات ليرسل للقارئ تلك الإشارات الدالة على قسوة الحب. ومما نجده في شخصيات الناسك أنها تميط اللثام، لا عن مصائرهم المتعددة، فضلا عن خصوصية اللغة، التي أبانت عن جوهر التجربة الشعرية، وموضعها في شعر الحب (الرومانتيكي). من الشخصيات التي تم استدعاؤها عنترة العبسي، وقيس بن الملوّح، والشنفرى، وتأبط شرًّا، وجميل بثينة، والسليك ابن السلكة، هؤلاء واضعو القلوب على الكنوز والجواهر من أثار التاريخ حبا وعشقا ومآلات مرتبكة! والعودة إلى شخصية أخرى تديرها عتبة الديوان وهي شخصية «الناسك» وهو ضدان في جسد وروح، ينادي ظله في المرايا، صوت في المدى يبكي صوته، يحمل الجبال ويجري، غريبا في زحام المراثي، غيمة شديدة السواد تفتش فوق الماء عن وجه معذبها، ماء إذا جف الهوى وتوقف! علمًا أن أبطال وشخصيّات الديوان يجمعهم المجهول لا يعرفون مصائرهم وأقدارهم في المقابل يعرفون.المرأة، والهوى، الجنون، والخيبات، التوهان، الهيام، العذابات، ويذهبون إلى أقدارهم ومصائرهم، ويلاقونها، كَمَن يذهب إلى مواعيد واستحقاقات عابرة، وفي اعتبارهم أنّهم سيعودون بعد تحقيقها وانقضائها، إلى حروبهم، إلى طواحينهم، إلى أحلامهم، إلى عزلاتهم، إلى طموحاتهم، إلى انكساراتهم، سيعودون إلى أيّامهم، إلى أمكنتهم، إلى أزمنتهم، إلى حيواتهم العبثيّة النكراء، لمواصلة مصائرهم وأقدارهم. وأيّ مصائر، وأيّ إقدار..؟ مع العلم أنا نجهل حقيقة مواقف معشوقات الشعراء.. ويخطر في الذهن التساؤل: ماذا كانت تفكّر أو تقول عبلة لعنترة، أو ليلى لقيس، أو بثينة لجميل. هل كانت خولة شقيقة سيف الدولة سعيدة بحبّ المتنبّي لها؟ هل «أحسّت» بهذا الحبّ؟ هل أَحبَّها أبو الطيّب حقًّا؟ وفي المختارات الشعرية «الناسك» لا يكف السياق عن (الشيطنة) الذوّاقة، عن رمي الفخاخ، عن الاختباء تحت موج البحر، الرمال، بياض غيمة، وراء سراج على شباك أعمى، باب مشرع نحو الجنون وفتنة الشعراء، السراب، الغروب وسواد الليل، بين أزهار الياسمين، لتنشد الأغاني، وترسل الصداح، تكتب النشيد، لا تكف عن الغزل، عن المروادة، عن قرص خد الحبيبة! وفاء الاصدقاء، رضى الحبيبة، قلق الليل، غرق الهوى، وعناد الريح! لا ترتد العينان عن وجه الأم ولا عن تعب الوالد، عن رصد أحوال البلاد، عن الشهداء، عن أمهات الشهداء القارىء لقصائد خضير، كما الديوان برمّته، تجمع أسبابا شتّى، وجوديّة وفلسفيّة وحياتيّة، وتقدّم مطالعةً شعريّة واثقة «لكنْ صامتة و...بيضاء « بالقسوة الرهيبة التي تفترس الشاعر قلبا وممارسة، وتفترس بلاده والعالم والشرط البشريّ مطلقا، ليس من صخبٍ في هذه المجموعة الشعريّة. ليس من ضوضاء، بل صقلا وتنعيما وتشذيبا وبناء وصناعة وتطلّبا ومتانة حرف، لتكون منذورةً لمثل هذا القَدَر، كما شخصيات الديوان. فهي تختار قَدَرَها ليكون مصيرَها، وهي تريده، وتتمنّاه، وتتماهى به، وتنسجم، وتتحد. والنتيجة، أنّها لا تضجر منه، من أجل أن يتم للعشاق وصف عذابه وينزع عن كتابه سراب الحب ! عبر خضير عن المغزى من خلال الشخصيات المستوحاة من التاريخ ليسقط الفكرة تارة والتجربة تارة وليحقق الدلالة الجمالية والطاقة الجاذبة للقارئ حتى يشعر بنفسه في المكان ذاته مع الشاعر.. يلازمه ويحاكي صوته.