إبراهيم خليل ما يدعو للانتباه في رواية قاسم توفيق الموسومة بعنوان (ليلة واحدة تكفي) أن الشخصيات هي الشيء الذي يستأثر بانتباه القارئ لا الحوادث، ولا المتخيل السردي، ولا الحوارات التي تتخلل فصولها الأربعة، ولا الحبكة. فهي حكاية اثنين يلتقيان في بار (الريفيرا) قرب الدوار الثالث ليلة 5 حزيران 67 أي عشية الحرب العربية الإسرائيلية التي انتهت باحتلال الضفة الغربية، وسيناء، والجولان. والحكاية من الوضوح بحيث لا تحتاج لأي توصيف. فالذي يستوقف القارئ هو الشخصيتان؛ وجدان، وذيب، الأولى ممرضة، تعمل في مستشفى للتوليد، والثاني بار- مان في حانة الريفيرا في الموقع المذكور آنفا. الممرضة وجدان: فوجدان الزحّار من سكان (جبل القصور) تنتهي من عملية ولادة، وتتوجه بعدها إلى الدوار الثالث في جبل عمان، وبدلا من متابعة الذهاب إلى المنزل، حيث والدتها العاجز وداد، تعرّج على الريفيرا، وتلتقي بالبار- مان ذيب. حدث ذلك ليلة 5 حزيران - يونيو 1967 والإشارة لهذه الحرب تتكرر من حين لآخر بـ (طفّي الضو) - صوت أحد رجال الدفاع المدني يطالب بالتعتيم حتى لا تهتدي الطائرات الإسرائيلية لأهدافها ليلا في عمان- وقد عزَّز هذه الإشارة بما رواهُ السارد عن البار- مان من أنه كتب في دفتر الفواتير تاريخ الفاتورة 5 حزيران – يونيو 1967 (ص37). والملاحظ أن الممرضة وجدان، بدلا من الذهاب إلى المنزل، في ليلة تنذرُ بالكثير من المخاوف، وتتطلب المزيد من الاحتياطات، تبحث عن بار (الريفيرا) لتحتسي فيه البيرة مع (ذيب) (ص11) الذي يشاغلها طوال الليل بثرثرته الجوفاء عن حياته في الماضي، وعن سنيّ عمره فهو في 45 على ذمّة الراوي. وفي أثناء تناولها البيرة مع البار- مان، يقول الرواي في عبارة قصيرة، إن الطائرات أنجزت مهمتها، وانسحبت. أي قصفت أهدافا في العاصمة عمان (ص17). ويضيف الراوي العليم، وهو المتحدث الوحيد طوال هذه الرواية « زجاجتا بيرة احتستهما وجدان- دون أن يرفَّ لها جفن - في جو تهيمن عليه الحرب، ولا تدري ما الذي حلّ، أو يحلّ، بأمها المريضة في البيت « (ص25) وهذا يعني أنَّ الراوي يدين هذه الشخصية، ويتَّهمُها باللامبالاة، فكيف لها في مثل هذه الأجواء، التي تكدرها الحرب، أن تأنس لهذا النادل، فتحتسي، لا زجاجة واحدة من البيرة، بل اثنتين، ثم تصرف النظر عن الذهاب للبيت، وتواصل الثرثرة مع شخص أبرزُ ما فيه أنه متَصَنّع. لكنَّ المؤلف يبدي شيئا من التعاطف مع هذه الممرضة التي لا تظهر اهتمامًا بمهنتها ذات الطبيعة الإنسانية، فيروي لنا بعضًا من ماضيها في فلسطين. يخبرنا مثلا أنها من حيفا، وأنها خرجت من رحم الوالدة، وهي تضحك، بدلا مما هو معتاد عن الأجنة من أنهم يولدون وهم يبكون.(ص 26) ومن باب التعاطف أيضًا يذكر في مونولوج منسوب لها « هل كُتِب عليّ أنْ أطرد من وطني، وأن يرحل عني أبي، وأن تَعْجِز أمي، وأنْ أخسر الرجل الذي كان سيجعل عمري حلوًا؟» ص (27) وفي هذا الموقع يحلو - سرديا - الحديث عن ذكريات الحبّ، لذا هُرع الساردُ، ومن باب التداعي، لاسترجاع حكاية وجدان مع عيسى بركات (ص 53) إذ يقرر أنّ الأوان قد آن لكيْ تتحدث الرواية عن علاقة وجدان الزحّار بمعلم الجغرافيا المغترب، واسمه عيسى بركات. فقد قَدِم هذا الشخص لحضور ميلاد شقيقته المتزوجة في المستشفى، و صادف أن هذا المستشفى هو الذي تعمل فيه وجدان الزحّار. وكان قد نَسِيَ ولّاعته، وعلبة سجائره، على إحدى الموائد في الكافتيريا الملحقة بالمستشفى، وهي المائدةُ نفسُها التي اختارتها وجدان بالصدفة بعد آخر عملية شهدتها لتأخذ قسطا من الراحة قبل المغادرة. عيسى – معلّم الجغرافيا – عادَ لأخذ ولاعته، وعلبة السجائر، فوجد وجدان، فكان الحبّ من أوَّل نظرة على طريقة الشعراء العذريّين. ودليل الوقوع في الحبّ قبولها الركوب معه في سيارته ذات الرقم الكويتي، والذهاب لمنزلها في جبل القصور. فوجدان على مذهب: الصديقُ صديقٌ، ذكرًا كان أمْ أنثى، وقد عزا المؤلف هذا الموقف لكوْنها نشأت بلا أبٍ، وبلا إخوَةٍ. فركوبُ سيارة مع رجل غريب كعيسى بركات غير مُعيب (ص61). يشير الراوي العليم ثانية إلى أنَّ وجدان من حيفا، وأنَّ الحرب هي التي دفعت بأبيها للمغادرة عام 1948 إلى عمان. (ص70) وفي الفصل الرابع ص 107- 124 يخلط المؤلف بين محكيات الراوي العليم، وبعض ما يوصف بالمونولوج الذي تسترجع به وجدان حكايتها مع عيسى بركات، حبيب القلب، الذي توفي إثر إصابته بالسرطان في مُغْترَبهِ في الكويت. وفي الأثناء يتحدث الراوي عن فيلم من أفلام هيتشوك بعنوان (المريضُ النفْسيُّ) وعن بطله نورمان بيتس. والغريب أنّ الراوي – كثيرَ التعليقات- يستطردُ كثيرًا، فيقارن بين نورمان بيتس، و ذيب البار- مان. مع أنّ هذا على المستوى الواقعي، والتخييلي، مُستحيل، فعندما شاهدت وجدان الفيلم مع عيسى بركات، وصديقه - في سينما زهران - لم تكُنْ تعرف هذا البار- مان، إذ أعلمنا الراوي بتعرّفها عليه هذه اللحظة، ولم تكن تعرفه عندما شاهدت ذلك الفيلم، أي الوقت المتزامن مع وقت الكتابة الافتراضي. وعلى نحو غير متوقَّع، ومن باب إضاءَة الماضي، يعود بنا السارد ليروي حكاية وجدان من الصفر. بادئا بحكاية والدها أيوب الزحّار، وأمها القابلة وداد، ومغادرتهما البيت في حيفا عام 1948 واستقرارهما في عمان – حي جبل القصور بعد (عرّابة الحفير) على كثَبٍ من جنين، دون أن يفوِّت الكاتبُ بعضَ المعلومات عن تسلسل عائلة الزحّار، واضطراره لقبول المهنة غير المشرفة، أي: بائع متجول، يلاقي حتفه في حادث مروري(ص136). لتغدو وجدان، التي درست التمريض مُكرهةً، بلا أبٍ، وبلا أخ، وبأم ترعاها بعد أن أدركتها الشيخوخة، يذكر الراوي هذا متزامنا مع وجودها في الريفيرا. وهي الآن في العقد الثالث من عمرها (نحو 29 عاما) فهي»لن تبلغ الثلاثين وفي روحها أثرٌ لألام الخيْبَة». ولا يغيب عن السارد أنّ وجدان لا تبالي بما يحدُث على المستوى العامّ، فالحربُ لا تعنيها في كثيرٍ، أو قليلٍ، وهذا غريبٌ. فالمؤلفُ يكرر الإشارة لانفجارات ناتجة عن قصف الطائرات لأهدافها في عمان، ومع ذلك لا تشعر وجدان إلا بقليلٍ من الخوف، والحذَر، بل إنّها تدَّعي مبالغتها في هذا الإحْساس؛ فالقصفُ لم يسفر عن انهيار السفارة البريطانية المقابلة للريفيرا(ص 33). فكلُّ ما يعنيها هو - على ذمَّة الراوي - أنْ تطفئَ ظمأها» بالقليل من البيرة» ص 35 « فهوَ شرابُها العام» (ص 47). وهذا لا يعني أنَّ موقفها من الحرب يتفق مع موقف المؤلف، أو أنَّ رأيها هو رأيُ المؤلف، إذ علينا ألا نخلط بين الكاتب وشخوصه، فقد تُؤْمنُ الشخصيَّة بما لا يُؤمن به الكاتب، ويؤمن الكاتبُ بما لا تؤمن به الشخوص. بَيْدَ أنَّ الراوي نَسِيَ هذا، فنسب لها القول: «يا الله، كم أنا خائفة! ويعلق البارمان على ذلك قائلا: كلنا نخافُ من الحرب».(ص 71) البار- مان: هذه هي وجدان الزحَّار، فمن هو ذيب الذي يحتل الموقع الثاني في هذه الرواية ذات الطبيعة الثنائية: رجل – وامرأة؟ في الفصل الثالث من « ليلة واحدة تكفي « يفتح لنا الراوي ملفّ ذيب، القادم هو الآخر من حيفا صغيرًا مع والده اللاجئ في شاحنةٍ إلى عمّانَ بعد رحلةٍ فقد فيها حِمارَهُ. صرف النظر عن الإقامة في جنين، على رأي السائق، الذي هو أدرى بالموقع الآمن، وقد تزامن هذا البوح مع أصوات القصف الجوي على عمّان الذي ظنَّه قد دكَّ السفارة البريطانية مقابل الريفيرا دكًا. ولكنَّ هذا القصف لم يترك مثل هذا الأثر المتوقع (ص81). نحن إذن في أجواء حرب يونيو 67 ويجد كلٌ من وجدان، وذيب، متّسعًا من الوقت، والصفاء الذهني لتداول الذكريات. فهو يتذكر ما مرَّ فيه من أحداث بالتفصيل، معتقدا أنَّ « ليلة واحدة تكفي» لاستعادة شريط استغرق مروره 45 عامًا. (ص87- 106) لُقّبَ بالسرْسري بادئَ الأمر(ص86) بعد تخليه عن متابعة الدراسة في الابتدائية. وعمل (ساقيًا) في مقهىً قرب جسْر رغدان. ثم رغب في مغادرة المدينة لخيار آخرَ حدَّدْتهُ أجرة السيارة، إذ وجد أجرة الذهاب إلى بيروت أقلَّ من أجرةِ الذهاب إلى بغداد بخمسة عشر قرشًا، فاختار بيروت. (ص91) وفي بيروتَ عمل مع مدام جوزيت - سيدة لبنانية تمتلك بارًا - وفي العمل حقق نجاحًا باهرًا سرُّه كامنٌ في صمته، وقلَّة كلامه، خلافا لمالكة البار التي عُرفت بالثرثارة(ص94) . وفي الأثناء زار أحد الأردنيين بيروت، والتقى بمحض الصدفة بذيب، وأقنعه بالقدوم إلى عمان ليدير معه بارًا جديدا (الريفيرا) يعتزم إنشاءَه على مقربة من الدوار الثالث. وهذا كله جرى قبل بدء أحداث « ليلة واحدة تكفي « بعامين أي في العام 1965 (ص95- 96). فالمؤلف جعل (ذيبًا) يبادر لرواية بعض ذكرياته تلبية لفضول وجدان التي قالت له: «إحكِ لي عنْ حياتِكَ». فغير استراتيجيته السردية فجأة، وجعل ذيبا يترك الكلام الملفوظ (الديالوج) ليدخل في صمتٍ(مونولوج)، وهو يفكر بينه وبين نفسه متسائلا: لماذا تريد أن تعرف عني كل شيء؟ فكلاهما تحتَ تأثير الخمر، ويقرِّر مواجهة سِحْر الأنثى بهذه الذكريات التي يصفها باليُبس.(ص99) لا يهم، فهي بعينيها الخضراوين تبعث فيه أثرًا يشبه السِحْر، فينقاد لها بلا إرادة، يتذكر الحلو والمرّ، حتى إنه ليتذكر تلك اللحظة الحرجة التي عَلِقَ فيها مع ثلاثة من اللوطيين، فتداولوه واحدًا تلوَ الآخر.(انظر ص 103- 104). مراسلات: وفي غمرة التذكر تلك زعم أنّ لديه رزمة من الرسائل البريدية، وأن بإمكانها الاطلاع عليها. وها هنا تبدأ استراتيجية السارد بالتغيُّر، إذ يتوارى تاركا لرسائل متفرقة من أشخاصٍ لا تجمعُهم أيُّ صفةٍ مشتركة، وانطباعاتهم مشتتة بين السخط والرضا، لتحل مكانه في إدارة دفَّة السرد. وفي هذا الكثير الذي يدفع بالقارئ لترك بعض الصفحات دون قراءة. فيتجاوزها بحثا عما يُسفرُ عنه هذا الطور من أطوار تلك الليلة الطويلة التي لم يظهر لها صبحٌ. ولا أشرقت لها شمس. والفتاة الثلاثينية، والبار- مان نصف الخمسيني، لاهيان عن الحرب المستعرة بحديث الذكريات. وهذا ما يقوله الراوي في إشارةٍ إلى ما يتَّصفان به من اللامبالاة: « سمع صوت كعب حذائها يقتربُ منه بحذر. أدارَ عنقه. لاحَ وجهُها مضيئا مرتاحًا. تحرك في وقفته. مدَّ لها يدهُ. التقط كفَّها. أوقفها بقربه: دعينا نستنشق بعض الهواء. وقفا يرقبان العتمة بصمتٍ. على ظهريهما يسبح الضوءُ المتمرّدُ الوحيد في عمّانَ. ضوء الريفيرا «. وعلى نحو غير متوقع، وفي أثناء استرجاع وجدان لحكايتها مع المغترب عيسى بركات، تدخّل ذيب البار- مان واستأنف الحديث المنقطع سابقا عن حكايته مع الماضي، مع الريفيرا،
وجوزيت، ومع المقهى، ومع الرسائل التي يحتفظ بها بصندوق مما يمكن تسميته بالصندوق الأسود، موْضع أسراره، وهذه الأسرار مع ما صاحبها من ذكريات، وحوار بين البار- مان والزبونة وجدان، ليلة الخامس من يونيو 67 لا تمثل إلا تنويعًا ضئيل الأثر، فهي تصنع من هذا الشقيّ فيلسوفا، مع أنه يبدو في بداية الرواية إنسانا يشبه في سذاجته (الجراسين) الذين لا يعرفون إلا كلمة (تامِرْ عمي تامِرْ) يقولها مستجيبًا لطلباتِ الزبائن. ومثلُ هذا التكوين لشخصيَّة البار- مان في «ليلة واحدة تكفي» علاوةً على أنه شاذ من حيث اختياره، ودوْره، ينطوي على ما يجعل منه شخصية مستحيلة الوجود إلا في مكان واحد هو خيال الراوي. فحتى حين يشعر بأنه على غير ما يرام، ويتذكر أنّ له أخا طبيبًا في عيادة بجبل اللويبدة، ويزورهُ، فيروي حكاية تلك الزيارة روايةَ منْ لا يعرف الأخوَّة، ولا الطبّ، ولا الألم، ولا العافية، ولا صحَّة البدن؛ فهو شخصية فُصّلت تفصيلا على مقاس لا يناسبُ أيَّ إنسان، طويلا كان أم قصيرا، نحيفا كان أم بدينا، متكرشا برقبة أو بلا رقبة. وهذا شيءٌ لم يخفَ على وجدان نفسها التي ما إن رأته حتى وصفته بالمتصنِّع، فهو يتمتع بابتسامة تشبه الورود البلاستيكية (ص30). ابتسامة اكتسبها من مهنته التي تتطلب أن يتعامل مع زبائن مختلفي الأمزجة، والمشارب، فهو يرضي كلا منهم على أيّ حال. الرواية والنكسة: يستنتج القارئ مما قيل عن الرواية أن علاقتها بحرب حزيران – يونيو 67 علاقة واهية، ولو أن الكاتب لم يذكر عبارة (طفّي الضو) وإشارته ليوم 5 حزيران 67، وتكراره ذكر القصف مرتين، أو أكثر، لكان أفضل له وللرواية. إلا أنّ الرواية، بهذه الإشارات، وخلوّها من أن تكون رواية عن النكسة، مثلما جاء في أحد المنشورات، توحي بما لم يكن يخطر ببال المؤلف، وهو أن هذه الشخوص عاشت حرب يونيو- حزيران، ولمْ تعِشْها، فقد كان جلُّ همهما معاقرة الخمرة في الريفيرا، و استعادة الذكريات في ظرف لا يسمح بذلك في الحدود التي يوجبها الخلُق، ويوجبها الانتماء لفلسطين، لهذا غضّوا أبصارهم، وصمّوا آذانهم عن الحرب، وعما يتعلق بها من نداءات أو شعارات أو حتى قصف. الشخوص: وقد طغى عليها عنصر التشخيص، أي الاهتمام بالشخصيات، فمن حيث الوقائع لا وقائع فيها بالمعنى الفعلي إلا إذا عدَدْنا ما يتذكره ذيب، وما تتذكرهُ وجدان عن عيسى حوادث. وهذه التذكارات جاءت في قوالب من الحوار النمطي الذي يستمر صفحاتٍ محدثا الشعور بالرتابة لدى القارئ. وقد شذَّت عن هذا بعض الفقرات التي تخللت الحوار، وتجلى فيها تدخل المؤلف في محكيات الراوي العليم، كالتعليق مثلا على الخوف الذي شعر به المطرودون من حيفا وهم يستمعون لأقوال السائق (ص 128). أو تعليق المؤلف على الحب الذي جمع بين وجدان وعيسى (ص 118) أو تعليقه المتكرر عن أثر الذاكرة في نسج الحكاية (ص102) وهذه التدخلات عدا عن أنها تضعف مهمة الراوي العليم، وتترك مهمة التذكر للراوي لا للشخوص، وفي ذلك أحد المآخذ التي ينبغي أن تذكر، فقد كان الأولى بالكاتب أن يترك لوجدان، أو لذيب، أن يبوح بما يتذكره، من غير أن يعزو ذلك للراوي. يقول مثلا على لسان الراوي ما يأتي « جاءت اللحظة التي جعلته فيها زبونته الحسناء ذات العيون الخضر والفم الشهي يتكلم، ويحكي لها عن سيرته في بيروت « (ص103) فما الذي يعرّف السارد بهذه الحوافز فيتحدث عنها، والحال أنّ مثل هذا الشعور ينبغي أن يفضي به ذيب نفسه لا الراوي. ومثل هذا يتكرّر كثيرا، مع أن المؤلف يحاول من حين لآخر أن يعتمد المونولوج في مواقع أخرى، إلا أن هذه المواقع بالذات هي الأوْلى باعتماد هذه الطريقة في الكشف عن حوافز الشخوص، ودوافعها للتذكر، والكَشْف عما يدور في أعماقها من هواجس. وعلى مستوى الحبكة، نلاحظ أن الوقائع جرت في ليلة واحدة، لكن المؤلف وقع في إشكال إذ اضطر للحديث عن نتائج الحرب مع أنَّ النتائج لم تظهر لا في اليوم الأول، ولا الثاني، بل ظهرت في اليوم السادس. وتبعًا لذلك جاءت إشارته للإذاعي أحمد سعيد في موقعها إشارة مفتعلة، وخاطئة، لأنه لم يصرح «هزمنا..» إلا بعد اليوم السادس، على فرض أنه صرح بمثل هذا التصريح، وهذا ما نَسْتبعِدُه. السرد غير الخطي: وفي الجانب السردي تلاعبَ الكاتبُ بترتيب الحوادث، فجعل ما هو متقدم منها يُروى متأخرًا، كالحديث عن وفاة أيوب الزحّار في حادث سير بعد وقوع الحدث بزمن طويل جدا. كذلك رواية ذيب عن مجريات بيروت مع جوزيت بعد وقوعها بزمن طويل أيضا. أي أن المؤلف عدل عن السرد الخطي، وعني بالسرد المتكسر الذي يسمح للراوي بتخطي دورة عقارب الساعة. وهذا من الناحية الفنية ُيحسَبُ للكاتب، فهو يضفي على الزمن السردي شكلا مخالفا للترتيب الافتراضي المتبع، وفي هذا ما يضفي على النثر شيئا من الشعرية. وعلى مستوى الحوار، لا يُعبّر، في كثير من الأحيان، عن طبع مميز للمتكلم، أو صفة ما، وإنما هو حوار نمطي يستمر في اطّراد متَّصل، وكأن المتكلم يدلي باعترافات أمام قاضٍ، وهيئة محلَّفين، وهذا صرفَ الحوار عما يتصف به عادة من خِفةٍ، إلى شيء قريبٍ من السرد الذي يضْطر القارئ فيه لتجاوز صفحاتٍ، لا فقراتٍ، دون قراءَة*. *للمزيد عن الكاتب انظر كتابنا: مشكلة البنية في الرواية العربية المعاصرة، ط1، عمان: دار الخليج للطباعة والنشر، 2022 ص 53- 64