|
عرار:
د. محمد عبدالله القواسمة من النادر أن يوفّق الأديب سواء أكان روائيًا أم شاعرًا أم كاتبًا مسرحيًا في بيان ما أراد أن يعبّر عنه في عمله الإبداعي. فقد يظن أنه عبّر بنجاح عن أفكار بعينها، ولكنّه قد يكون عبّر عن غيرها، أو ربما عن نقيضها دون أن يدرك ذلك، أو ربما لم ينجح في تقديم ما يريده من أفكار بوضوح ودقة. فإذا كان الأديب قد يجانبه التوفيق في تقديم ما أراده من عمله فكيف إذا كان كما حالتي يجمع بين النقد والكتابة الروائية؟ فلا أظن أنه يكون بريئًا في تعامله مع إبداعه، فهو قادر على أن يُبرّر ما فعله من ناحية، وقادر من ناحية أخرى على أن يُغري القارئ في ولوج الجانب من عمله الذي يلتقي مع رغباته وخلجات نفسه أكثر مما يحتمله الواقع الذي تتناوله الرواية. لعل كشف هذه الحقيقة التي أدركها وأعاينها فيما أقرأ من كتابات النقاد والأدباء عن أعمالهم الإبداعية يدفعني إلى أن أقترب من الصراحة والبوح في الحديث عما أردت التعبير عنه من خلال أحداث رواية «غيوم على الشيخ جراح» وتشابكها مع الشخوص والأماكن والأزمنة والتقنيات السردية المستخدمة. فالرواية كما أرى ليست مجرد حكاية أو عالمٍ سردي منعزل عن الواقع، بل هي عالم تخييلي بمنزلة كناية عن واقع نعايشه. فما الذي أكني به بهذه الرواية؟ لا شك أن اندفاعي في كتابة رواية» غيوم على الشيخ جراح» جاءت نتيجة ما حدث عام 2021م حين أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارًا بإخلاء سبع عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح، في محاولة لطرد السكان وإحلال مغتصبين إسرائيليين مكانهم. وتفجرت الأحداث مساء يوم الجمعة الأخيرة من رمضان 25 رمضان 1442، بعدما اقتحم آلاف من جنود الشرطة الإسرائيلية -في عمليةٍ استفزازيةٍ- باحات المسجد الأقصى واعتدوا على المصلين في المسجد وفي باب العامود والشيخ جراح. كما وقعت مواجهات عنيفة صباح يوم الاثنين 10 أيار 2021 الموافق 28 رمضان 1442 هـ بعد اقتحام آلاف من أفراد الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى وأسفرت عن إصابة أكثر من 331 مدنيًا فلسطينيًا من أحفاد الشيخ الصوفي حسام الجراحي الذي تسمت المنطقة كلها باسمه، كان بينهم سبع حالات خطرة. وقد انتهت الاشتباكات بوقف إطلاق النار الساعة الثانية فجرًا يوم الجمعة 21 أيار، وذلك بوساطة دولية بقيادة مصر. وظهرت بسالة الناس في الوقوف ضد هذه الأعمال. إذن ما أردت أن أقوله مرتبط بهذه الأحداث الواقعية من ناحية، وبتاريخ المكان وما يجري في منطقتنا العربية من ناحية أخرى. فالمكان حي الشيخ جراح، المكان المركزي في الرواية الذي له وجوده التاريخي حتى عند الأوروبيين، ففي صالة البيت القديم لعائلة بطل الرواية صادق صورة كبيرة للقدس يظهر فيها حي الشيخ جراح. وهي من أقدم الصور الفوتوغرافية للمدينة المقدسة، التقطها مع بداية التصوير الفوتوغرافي المصور الفرنسي فريدريك فيسكه في أربعينيات القرن التاسع عشر. مع هذه الحقيقية التاريخية، بوجود القدس وعروبتها قبل قيام الكيان الصهيوني، فإن هذا الكيان ماض لفرض تاريخه المزيف في احتلال الأرض، وطمس التاريخ الإسلامي لهذه المدينة؛ وجرف المقابر، وتغيير المعالم التاريخية الأثرية، واختلاق خرافات تناقض التاريخ والواقع، مثلما اخترع خرافة المتصوف اليهودي شمعون صديق وبنى ضريحا له في مقابل الشيخ الجراحي وضريحه. واختلق قصة الهيكل ووجوده تحت المسجد الأقصى. وتؤكد الرواية الحقيقة الواضحة أن الفلسطيني، وبخاصة ساكن القدس لا يتوانى في الدفاع عن وطنه، وإذا غاب عنه فإنه دائم الحنين إليه، ويعود إليه في النهاية ليدفن في أرضه، وللقدس جاذبية كبيرة لكل من سكن فيها أو حتى مرَّ بها. فبطل الرواية صادق ألغى العودة إلى أمريكا، وعندما رأى حيه مهددًا بالتهويد وبيته مهددًا بالمصادرة، عزم على البقاء صامدًا على أرضه، واستدعى زوجه كي تظل معه في المدينة المقدسة. وأظهرت الرواية أن الأردن وفلسطين بَلدان على تماس مباشر مع ما يجري في القدس. وفي التاريخ القريب عام 1967 أن شهداء كثيرين من البَلدين سقطوا في الدفاع عن المدينة المقدسة ودفنوا في المقبرة اليوسفية، وقامت بلدية الاحتلال بنبش القبور، ونثرت رفات الموتى ومعظمها لشهداء الجيش الأردني لبناء حديقة توراتية في المكان. ورغم الشكاوى للمحاكم الإسرائيلية إلا أنّ عمال البلدية وسلطة الطبيعة والحدائق ما زالوا يأتون في الليل وعلى ضوء الكشافات يقومون بأعمال الهدم والجرف للمقبرة. وذهبت الرواية بعيدًا إلى أن ما نعانيه في فلسطين وفي الأردن من مشاكل سياسية وثقافية ونفسية واقتصادية كلها مرتبطة بالقضية الفلسطينية وبالاحتلال الإسرائيلي بالذات، وأن الوسيلة الوحيدة للتغلب على هذه المشاكل هي المقاومة والصمود في وجه الاحتلال. وهذا ما يشي به المرض النفسي الذي أصاب بطل الرواية وأفقده القدرة على المشي بسبب ما شاهده من ممارسات الاحتلال في الشيخ جراح. ولكنه يشفى من مرضه حين يتكشف له عمليًا أن التصدي لمحاولات الاحتلال لا يكون إلا بالطريقة الناجحة وهي استخدام السلاح أي بالكفاح المسلح أرقى أنواع المقاومة. وفي نهاية الرواية ما يؤكد على أن اللجوء إلى السلاح، كما حدث في الثورة الجزائرية، ستكون عليه مقاومة العدوان في الضفة الغربية أعني المقاومة بالسلاح الحي، وليس بالحجارة والسكاكين كما كان في الماضي. فالاحتلال لا يقابل إلا بالقوة المسلحة، إنه يوجه رصاص بندقيته إلى عنق الفلسطيني، فماذا على الفلسطيني أن يفعل غير الدفاع عن وجوده وحياته بالوسيلة نفسها؟ ولعل هذه النبوءة التي جسدتها أحداث الرواية بما ستكون عليه المقاومة في الضفة الغربية هو ما يحدث الآن في جنين وطولكرم وغيرهما من مدن الضفة الغربية ومخيماتها. كما لا يغيب عن الذهن أني أردت من خلال تبيان معاملة الاحتلال القاسية للفتاة اليهودية أفيف من حركة السلام الآن، التي انجذبت إلى ابن زيتا أخت بطل الرواية، التعبير عن أن هذا العدو لا يرحم من يقف في وجهه ويقاوم مخططاته حتى من كان من أبناء ملته. ومن خلال تصفية سكان حي الشيخ جراح لأحد سماسرة الأرض وبيعها للعدو أردت القول بضرورة رفض المساومة والتفريط في القضية الفلسطينية، بل وتصفية الخونة ومن يبيعون الأرض لليهود وتأكيد فول إحدى الشخصيات:» إن في كل احتلال يوجد خونة وعملاء. لكن مصيرهم معروف القتل أو النبذ حتى من زوجاتهم وأبنائهم. لن يجدوا حين يموتون مكانًا يدفنون فيه» والخلاصة أني أردت أن أظهر أن ما يقوم به الفلسطينيون في القدس من صمود وتضحية والتمسك بالأرض والمنزل ينطوي على غرائبية واقعية تساندها قوة إيمان وإرادة لا مثيل لها. وفي المقابل فهناك غرائبية عدوهم بما يتمتع به من بطش ووحشية وقسوة وحقد إنساني لئيم لم يمر مثله في التاريخ، ومن وقاحة لا حد لها حيث يأتي اليهودي ليحتل منزل العربي ويقيم فيه، أو يضايق سكانه من أجل طردهم أو إجبارهم على بيعه. إنها غرائبية ليست في الفن بل غرائبية في الواقع المعاين. في النهاية توجه الرواية رسالتها، كما يبدو في العنوان، إلى أن ما يجري في حي الشيخ جراح، الذي هو رمز للأرض المحتلة كلها، إنما هو مثل الغيوم التي مع أنها مثقلة بالهموم والحزن لن تستقر طويلًا وستزول باشتداد المقاومة شأن كل احتلال وظلم. ويبقى السؤال المهم هل استطعت أن أنجح في بناء رواية «غيوم على الشيخ جراح» لتحمل تلك الأفكار السابقة، وتقدمها للمتلقي بوضوح وأمانة وبأسلوب فني بعيد عن المباشرة والابتذال؟ هذا ما أتمناه، ولكن يبقى للمتلقي حرية الإجابة عن هذا السؤال. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 23-07-2023 07:29 مساء
الزوار: 924 التعليقات: 0
|