رسيس البناء الروائي ومخاتلة البناء الموضوعاتي في «مقهى البازلاء» لعثمان مشاورة أنموذجًا
عرار:
أسماء رأفت عليان رواية (مقهى البازلاء) عن دار إبداع للنشر والتوزيع في القاهرة للكاتب الأردني (عثمان مشاورة)، وذلك في عام (2016م)، وتقع الرواية في (325) صفحة من القطع المتوسط، وتحكي حكاية (جنرال) فقد منصبه العسكري، وعَمل جاهدًا على تعويض ذلك المنصب بمكانة اجتماعية أوهم نفسه بأنها ستعوضه عن كل ما كان عليه، وفقده. وفي استهلال هذه الدراسة أودّ أن أكتفي بهذا القدر من عرض الرواية، وهو ما وظَّفته أثناء عملية النقد والتحليل؛ وذلك لأترك للقارئ حق قراءة الرواية ومعاينتها والحكم عليها، ولأحفظ حدود الناقد من التغول على حقوق القارئ والتأثير عليه، فباتت بعض الدراسات النقدية في الآونة الأخيرة تُلخّص الرواية، وهذا ما يُفقِد لذّة القراءة ومتعتها. أولاً: رسيس البناء الفني وجماليته نهضت بنية الرواية الفنية على جملة خصائص تركيبية جمالية حققت انشغالاً بالتحفيز الواقعي المتداخل مع الخيال من خلال امتاع القارئبجملة تقنيات روائية متقنةتخلَّقها الكاتب (عثمان مشاورة) حين تقنَّع خلف صوت الراوي العليم في النص؛مما أسهم بتشكيل هندسة مكونات البنية السردية الأساسية للرواية عبر استثمار الإرجاء المستمر للحدث، والاستعانة بالميتاسرد (1)، والمفارقة (2)، وكسر أفق التوقع (3)، وهدم البناء الموضوعاتي (4) بأكمله في نهاية الرواية، وإعادة معماريته من جديد في ذهنية المتلقي. (مقهى البازيلاء) عمل روائي مستجد، وظَّف الكاتب من خلاله عدّة ثيمات موضوعاتية فرعية عملت معًا لتصب في مجملها بالثيمة الأساسية القائمة على التمرد الداخلي للأنساق المُضمرة المُهمَّشة، والمتمثلة في البنى الفردية الصغرى المُشكِّلة لبنية المجتمع الكلية، فجاء حدث الرواية جديًا في ترتيب الأدوار، وأجل نقطة الصراع باستمرار، واعتمدت عملية السرد على نرجسية صوت الراوي العليم رغمًا عن البطولة الجماعية والشخصيات المتعددة، فعادت الأصوات بمجملها لراوٍ واحد مع ظهور لأصوات الشخصيات بشكل غير مباشر، نتيجة التمركز حول الإحساس بالعمق الإنساني السائد المتمثل بالذاتية المفرطة، والحفاظ على (الأنا العليا)، والذود عن مصالحها وأهدافها ومناصبها، ومكانتها، خصوصًا أنها جاءت مرتبطة بمفارقة شخصية القائد العسكري المعتاد على إعطاء الأوامر الذي تحوَّل بين ليلة وضحاها إلى نكرة حين فقد وظيفته ومنصبه. أما توظيف الحوارات الداخلية والخارجية في الرواية، فتمكن الروائي من خلالها كشف الشخصيات من الداخل، وتعريتها أمام نفسها أولاً، ورصد أثر الأحداث التي مرّت بها، وأثر العلاقات المتشابكة بينها وبين الشخصيات الأخرى؛ فكان القارئ بمثابة مراقب للمفارقة، أما الشخصيات فكانت هي الضحية، ومن ثم، جاءت الرؤية السردية محمَّلة بالوعي تجاه بعض القضايا التي حاول طرحها من خلال (مقهى البازلاء)؛ فإذا كان الراوي هو الشخص الذي يروي السرد، فإن الرؤية هي الطريقة التي ينظر بها الراوي إلى الأحداث عند تقديمها، أو هي موقفه منها، وهنا أشير إلى أن الراوي ليس الكاتب، بل شخصية فاعلة في هندسة البناء السردي الجمالية. وفيما يتعلق بالفضاء (الزمكاني) فقد جاءت آثاره واضحة على ملامح الشخصيات وطبائعها وسلوكها، فالأحداث التي سردها الراوي العليم في ميتا-روايته (meta-narration)، والشخصيات التي جسدّها في متخيل المتخيل، كلُّها تحرّكت في أماكن محصورة بحد ذاتها ضمن زمن محدّد يُقاس بالساعات والأيام والشهور والسنين، لكنه جاء زمنًا متقلبًا بين التصاعدي والاستشرافي والآني والاسترجاعي، وذلك نتيجة عناية الراوي، وحرصه على عرض الأحداث وفق تسلسل يجذب انتباه القارئ؛ عبرالبدء بلحظة التأزم (الحدث النووي/ المركزي) ثم اللعب بالأحداث المسرودة عبر بوتقة الوحدة الزمكانية المختارة بدقة. ثانيًا: مخاتلة البناء الموضوعاتي الخطاب الروائي رؤية مخاتلة في عرض الأحداث المتخيلة، فجاءت معالجته للقضايا الاجتماعية والثقافية كردة كتابية عكسية لفعل الخطاب المابعدكولونيالي على أرض الواقع؛ فقد كرس المُستعمِر –من بين ما كرَّس- التراتبيات الاجتماعية القائمة على المناصب فقط، بغض النظر عن العلم، والثقافة، والوضع الاقتصادي للفرد، وهذا ما أرَّق، وسعت إليه الشخصية الرئيسية (نايف صالح الصالح) حيث راوغ جاهدًا إلى تعويض المنصب الذي خسره بمنصب آخر يوازيه أو أعلى منه بشتى الأساليب المتناقضة بين المحمودة والمذمومة، وتجلَّت الردة العكسية لفعل الخطاب المابعدكولونيالي عبر استخدام الأساليب والغايات الكولونيالية لتحقيق غايات نبيلة اقتنعت بها الشخصية، وتحول (الجنرال) إلى مناضل سياسي يعتصم ويتظاهر ويطالب بالحقوق، فعملية التحول والانسلاخ عن البزة العسكرية وفلسفتها -تحديدًا-هو أبرز أشكال الردة العكسية عبر الكتابة (البينصية) المُعريّة للفساد الذاتي والواقعي المتفشي بالمجتمع ككل، هذا المجتمع الذي يعشق أي فرد منه الوصول إلى بيروقراطية المكتب، والتحكم بالناس، أوالحصول على جزء من تبجيلات المسؤول، أو تقديسات الكرسي، كل ذلك تم تعريته عبر هذيانات سردية اجتمعت لتشكل رواية (مقهى البازيلاء). ومن أبرز أشكال مخاتلة البناء الموضوعاتية في الرواية التقديم السلبي لصورة السلطة، ورجل الدين، والمرأة، وهذه السلبية انبثقت من الارتباط البنيوي للموضوعات وشذريتها، فثمة اتساق وتناغم بين الموضوعات الفرعية الهامشية التي قامت بأدوار مركزية في الأنساق المضمرة وموضوع الرواية ذاتها، وهذا من وجهة نظر سيميائية يندرج في مبحث العلاقة بين المعنى وشكله، أو بين المعنى وأساليب تحيينه اللغوية السطحية وما ينتج عنها من دلالات، وأرى أن سبب هذه السلبية في تصوير (السلطة/ رجل الدين/ المرأة) يعود إلى شخصية الكاتب الميتاسردي (الصحفي المجهول) الذي يعمل بالصحافة بعد عمله في المحاماة، وإذا أمعنا النظر نلاحظ أن مهنة الصحافة أكثر المهن التي تطالع الفساد والأخبار السيئة، ومهنة المحاماة لا تقل سوداوية عن الأولى في معاينة القضايا والجرائم فيجتمع كل ما هو سلبي داخل قاعات المحاكم وخلف قضبان السجون، ونتيجة واقع شخصية الكاتب المجهول للمتخيل كانت هذه السلبية، كما أن سمة الالتباس الحاصلة في الرواية لاشك أنها تعكس بعض مظاهر الفارق بين الواقع والأحلام من جهة، وبين الازدواجية الشخصية التي يقوم عليها العمل الروائي من جهة أخرى، فقد تم الكشف عن هوية الشخصية الرئيسية المزدوجة في اللحظات الأخيرة من العمل، وهذا يعني أن لدينا ذاتًا واحدة تقوم بتمثيل دورين مختلفين، وبصورتين متغايرتين في الآن ذاته. الهوامش (1) تجلى الميتاسرد في الرواية حين وُجِد المتخيل الروائي داخل العمل الروائي الأساسي فكان العمل عبارة عن رواية داخل رواية؛ أي متخيّل للمتخيّل. (2) تعددت أنواع المفارقة في الرواية فحضرت المفارقة اللفظية، والمفارقة الدرامية، والمفارقة الرومنسية، إلى جانب السخرية. (3) مثلًا حين اكتشف القارئ بأن معظم شخصيات وأحداث الرواية عبارة عن قضايا منظورة عند شخصية المحامي - الذي تحول إلى عمل الصحافة لاحقًا - لقاطني العمارة التي يسكنها. (4) ذلك حين اكتشف القارئ بأن البناء الموضوعاتي لا يصب في خدمة الجنرال المتقاعد، وإنما يطمح إلى تعرية نرجسيته المفقودة، وكل الذين على شاكلته ممن يستغلون وظائفهم ومناصبهم لخدمة مصالحهم الشخصية.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 25-12-2020 08:54 مساء
الزوار: 1241 التعليقات: 0