|
عرار:
إبراهيم خليل اللافت للنظر في ديوان حميد سعيد الجديد « نجمة .. بعد حين « الصادر عن دار دجلة للنشر والتوزيع بعمان 2022 شيوع بعض الظواهر الأسلوبية التي تكرّرت في تجاربه الشعرية المبكرة والمتأخرة. مع ذلك نلاحظ الإلحاح عليها وتكرارها - ها هنا - بصفة لا ينكرها قارئ، ولاتخفى على متابع. ففي قصيدته « تأتي كما تشاء « التي يتحدث المتكلم فيها عن بغداد، تبرز إشكالية التراسل الدلالي بين الألفاظ. وهو تراسلٌ يقوم على دمج لفظتين للتعبير عن شيء لا تعنيه، ولا تدلّ عليه، أيٌّ منهما. فللغة طفولة، وللريح مضارب، وللأنهار قبائل، وللديدان جحافل، والرصافة – مكان – أميرة، وللنور قوافل، وللظلام يدٌ، والظمأ يأتي من منافي المياه – كذا- وللورد عاصفة، وللرماد مخابئ، وللحرير غابة، أما بغداد، فهي: غابة الزُبُرْجُد الذي مذْ خلقَ اللهُ البلادَ غرستْهُ بين الكرخ والرصافةِ الملائكة (ص9) وهذا التراسُل الدلاليّ لا يقتصر على قصيدته المذكورة، ولا ينْحصر في نصٍّ دون آخر، فنحن نجد في قصيدة أخرى أن السِنْط الأبيض ذو إيقاع يطفو على لغة الماء، وللأبنوس عاصفة، كما للبخور الشرقي عاصفة هو الآخر. وللعطر جموح، وللقصائد جمرٌ. وللحرير فِتنٌ كالضَحِك الأبيض. وللضوء سجادة، والشعر الذي تكتبه العواصفُ تودعه في الضفاف، أو تأتمن عليه دفاتر الماء. جلّ هذه التراكيب تتوالدُ، وتتناسلُ، في القصيدة لتؤكد شيئا واحدًا هو أنّ القصيدة عند الشاعر حميد سعيد قصيدةٌ لا تنتظمُ، ولا تطَّردُ، وفق قواعد المنطق اللساني السائد في النثر، أو الشعر، بل هي نصٌ تطَّرد فيه الكلماتُ اطّراد الأحلام والرؤى، في نسَقٍ يخالف المنطق الذهني والعقلي، مقتربًا من منطق الأساطير. فهي – أي: القصيدة – لا تعدو كونها صفْحةً من كتاب القرنفل، أو بيرق الصولجان. أو شيئًا من ذاكرة الوردة. لذا لا ريب في أن للشاعر منطقا خاصًا به في هذا الشعر، ولبعده عن بغداد، وعمَّن في بغداد، صلةٌ متينة بالتزامه هذا النوع من المنطق الشعري الذي تتغلَّب فيه المشاعر والإحساسات على قواعد المعجم، وقواعد النحْو، وأصول البيان: لماذا أقيمُ بعيدًا عن الحلُم البابليِّ ليتبَعَني الموتُ حيثُ أكونُ.. ويشاركني قهْوتي في الصباح. (ص61) ومثلُ هذا التراسُل، الذي ينمّ عن تفاعلٍ داخلي في القصيدة، وعن فيضٍ دلاليٍ، تندفع فيه المعاني بعضها تلوَ بعض، متجاوزةً حدود الفهم المعجمي، لآخر سياقي،تحتمه الرؤيا الشعرية؛ فالنساءُ يغسلن رائحة الليل – صورة تجمَّعت خطوطها من اندماج الغسل بالرائحة، واندماجهما بالليل، ثم بـ « يوقد جمر التشهي « ولعل في قوله « للرياح قاموسُها» تعبيرًا موازيًا لتعبير آخر في القصيدة، وهو للقصيدة قاموسُها، وللرؤى قواميسُها أيضًا. فالمفرداتُ تعْتصمُ بأضْدادها. وإذا كانتِ المفردات على هذا النحو، فلا مندوحة لنا عن تقبّل قوله « تستفيق الحجارة «. وإذا أقبل الليل يشمّ عرارَ جديلتها، وقرنفل ضحكتها، وتتفتَّح أزهار قصائد شاعرها المنسيّ: هربتْ من صفحاتِ الكتمْان قصيدته ومضتْ حافيةً، تَتَعثَّر في الظلّ (ص40) ولا يفتأ الشاعرُ يواجهُ المتلقّي بهذا السيل العَرِم، المتدفّق، من المجازات في شعره. معلقة الريح، صحائف من سيرة الجمر، و من شذى وردة الكتابة. ومن تاريخ الحزْن المتعالي، فالذاكرةُ تشاكسُ صاحبها مشاكسة تجعل أحلامه السود أحلامًا بيضًا، لا سودًا. سليل الشعر العربي علاوةً على هذا الذي يسترعي الانتباه في هذا الديوان، ثمة إشاراتٌ متزايدةٌ، من قصيدةٍ لأخرى، توحي، بل تؤكد، أن حميدًا سليلُ قبيلة من الشُعراء، والشخصيّات البارزة ذات الذكريات التاريخية التي تطلُّ من بين الأسْطر، لا بلْ من بين الكلمات، والحروف. ففي القصيدة المذكورة « تأتي كما تشاء « يعيدنا الشاعر لليالي العربية، وحكايات شهريار، وشهْرزاد، « أهذا إرثُ شهريار؟». ويعيدنا لابن زريق البغدادي « ماذا حلَّ بالكرْخ « وإلى أبي نواس(الحسنُ بنُ هانئ) وهرون الرشيد، والقصائد القديمة الأولى: هل تعرف الأوغادَ من قبلُ استباح ما خبأه أبو نواس في القصائد الأولى من الأسْرارْ في ليلة موحشةٍ يطرقُ هرون الرشيد الباب َ (ص8) وفي موقع ثانٍ يعود بنا إلى أزْمنة العشْق العذري: ليلى والمجنون، وإلى لوركا، وفتنة الأخْضَر، وإلى الشعر الغنائيّ الريفيّ الذي يعبَقُ برائحة التراب العراقيّ غبَّ المطر: بالقبرْ لو دشّيت .. دِشْ ويّاي ارفعْ لثامَ الموت.. وحبّبْني بثناياي (ص21) وأما مَعْشوقة أبي نواس (جِنان) فتظهر في القصيدة « رؤى بغداد « وسْطَ لفيف من الرموز؛ عبود الكرخي، وعليّ بن الجهم القرشي- شاعر « عيون المها بين الرصافة والجسر « – وزرْياب، وما يوحي به اسمه من فتون الأوتار، والألحان، فضلا عن صاحبها أبي نواس، وقوله عن المتجرّدة: « وأسْدَلتِ الظلامَ على الضياء « وغاب الصبح منها تحت ليلٍ وظلّ الماءُ يقْطُرُ فوق ماءِ « فحينَ رأت شخْص الرقيب أسدلت الشعر الفاحم ليتهدل على الجسد البضّ، مثلما ينسدل الليل على العاج، تاركةً الماءَ يقطرُ فوق ماء: « فظل الماءُ يقطر فوق ماء « (ص35). ويختلطُ بهذه الاقتباسات، وينْدغمُ، سوق الوراقين، وبيت الحكمة، وفلاسفة الهند، ومقولات الصين.. وبخلاء الجاحظ؛ بالعطر الأندلسي، وقمصان الشام، وطين المشْخاب، وعنْبره، والبرَحيّ البَصْري، وخوخ ديالي المسكي. وهذه الرموز الشعرية تتألق في القصيدة مثل رقعة رقْش عربية غنيَّة بالزخارف، والأشكال الهندسيَّة، والنمنمات النباتيّة الدقيقة، والتعريق مع والتوْريق، فهي غابةٍ متشابكةٌ من الجماليّات، لذا لا بُدَّ من أنْ يجتمع معَ هذا كله بشر الحافي(227هـ) وطقوس العشْق الصوفي: هربتْ من صفحات الكتمان قصيدتُه ومضتْ حافيةً ، تتعثَّر بالظلّ يحاول أنْ يدخلَ في الظلّ ليوقفها وغلَّقتِ الأبواب(ص 40) ومن (زليخة) عزيز مصر، ويوسف الصديق، إلى عوليس الأودسّا، وسندباد الرحلات السبع، في الليالي، تتدافعُ هذه الرموز، بما يرتبط بها من ظلالِ المعاني، تدافُعَ الأشرعة، والمراكب، في مياه الخليج، إلى أن تحطَّ في مرفأ أبي الطيب المتنبي (354هـ) فلكلٍّ فروضه، ولكلٍّ عاداته: لكلّ امرئ من دهْره ما تعودا وعادةُ سيف الدولة الطعنُ في العِدا ولسنا نودُّ، في هذا المقال أنْ نقول – مثلما يقول آخرون مُقلِّدين لا مبتدعين- إن حميدًا في ديوانه هذا يهيمن عليه أسلوبُ التناصّ، أو تواشجُ النصوص. ولكن الذي ينبغي أنْ يقال، وعليه المعولُ في تجديد النقد لا على المحاكاة، والتقليد، أنَّ تجارب حميد في هذا الديوان، مثلما هي في غيره، تعبيرٌ عن صوت شاعر مثقف هضم التراث الشعري العربي، وغير العربي، وتُعدّ القصيدة لديه- تبعًا لذلك- صورةً لهذا المزاج الذكيّ الذي تتوهَّجُ فيه مثلُ هاته الإشارات، والاقتباسات، لتنمّ على تعبيره الذاتي المبتكر دون الانسلاخ عن التراث، بما يمثله من بناء ثقافي قومي وإنساني. فبإشارة لعوليس تارة، وللوركا تارة، ولبول سيزان الفنان التشكيلي الفرنسي الانطباعي (1839- 1906) تارةً، إلى أصناف من النخيل المنتشر في سواد العراق، وإلى ما تنمُّ عليه النخلة من اتحاد عضوي بالإنسان، تتحقق وحدة الوجود الثقافي: يا بلادي التي أنشأتني كما النخل أوصيكِ بالنخل إني على موْعدٍ والغياب وأوصيك بامرأة ستكون معي حيثما كنتُ تنْذر أن تقصّ جدائلها كيْ يعود الذي راح منها (ص58) البناء والنسق: وللبناءِ موقعُه اللافتُ في قصائد حميد سعيد التي كتبت بين 17 آذار(مارس) 2019 و28 كانون الأول – ديسمبر 2021. ففي بعضها يغلبُ عليه النَسَق المقطوعي، أي أنَّ القصيدة تنمو عن طريق ائتلاف المقاطع التي قد يتخللها من حين لآخر حوارٌ، فتقترب بذلك من النسق الدرامي. وهذا واضح في قصيدته من حميد سعيد إلى سعدي يوسف (1934- 2021). فالمتكلِّم يخاطبُ فيها الشاعر الراحل بلهجةٍ هي أقرب للعتاب، والبوْح، منها إلى اللوم: هل أعاتبكَ الآنَ كيفَ ذهبتَ إلى ما ذهبتَ إليه دعنا نعودُ إلى زمن الأخْضر بن يوسف* كنتُ رأيتُ – رأيْنا- تقاويمَ أخْرى (ص70) وفي « نخلة الله « يخاطبُ المتكلم الشاعر حسب الشيخ جعفر (80 عاما) متخذا عنوان ديوانه الأول (1969) عنوانا للقصيدة. يقول بعد فيض من الذكريات عن المعاناة مع الشعر، والزمن، والأوضاع: لكَ ما أبقى زمانُ الوصلِ من أوهامهِ البيضِ ولي منهُ انتظارُ الغائبينْ (ص65) وفي نصوصٍ قليلةٍ من هذا الديوان يغلبُ على البناء الإيقاعُ السَرْديُّ، ويطغى الزمنُ على النسق الشعري. بحيث تبدو المقاطع، والعباراتُ، كأنها تروي حكايةً وقعَت في مكان (في المدينة. س) وفي زمن ما، وحوار بين شخوص، الفقير إلى الله مثلا، والشُرُطي المدجَّج بالشك، دون أنْ يضنَّ الشاعر على المشهد المحكيّ بشرائح من الوصف الذي يرسم صورةً للمَشْهد: هلا رأيتكَ من قبلُ يبدو الفقيرُ إلى اللهِ مُرْتبكا يستعيد ملامح أخرى وينأى عن الشُرُطيّ يغدو سعيدًا بما هو فيه (ص27) وتبعًا لهذا البناء تنْقسم القصيدة إلى عدَدٍ من المرويات، أو المحكيات، يفْتـَتِحُ الشاعرُ كل واحدة منها بعبارة في المدينة س. أو تنتهي بهذه العبارة.؟ وهذا النسقُ، الذي نعني به توالي المحكيات، لا تخلو منه قصائد أخرى. وذلك يؤكد، في ما يؤكده، أنَّ الشعر، على الرغم من غنائيته اللافتة، لا مندوحة له عن اللجوء – من وقت لآخر- لذكر ما يمرُّ به الشاعرُ منْ مواقفَ على سبيل السرد الشعري الذي لا يذْهبُ بألَقِ القصيدةِ، ولا يجورُ على طابَعها الغِنائي(1). *** *الأخضر بن يوسف ومشاغلة ديوان لسعدي يوسف صدر ببغداد 1972 1. للمزيد انظر كتابنا: القابض على الجمر- حميد سعيد، هبة للنشر ، عمان، ط1، 2017 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 16-04-2022 11:28 مساء
الزوار: 966 التعليقات: 0
|