|
عرار:
غسان إسماعيل عبد الخالق يحدث أحيانا، أن يطلب كاتب ممن يثق بمعرفته وإبداعه ومصداقيته، تقديم كتابه للقرّاء، وخاصة إذا كان الكتاب إشكاليا ويحتاج لمن يسلط الضوء على بعض خباياه. ولا ريب في أن تقديم النصوص النقدية يظل أيسر بكثير من تقديم النصوص الإبداعية؛ لأن طبيعة الخطاب النقدي تحتمل العتبات التمهيدية، ولكن تقديم النصوص الإبداعية يظل مغامرة محفوفة بالخطر؛ لأنه قد يسهم في تفهّم النص وقد يغدو حاجزا كثيفا حاجبا له. ومع أن ظاهرة تقديم الكتب قد انحسرت مؤخرا، نظرا لتزايد الإلمام بمخاطرها ومحاذيرها، إلا أن التقديم في حد ذاته، ما زال يمثّل اختبارا معرفيا وإبداعيا وأخلاقيا قاسيا؛ لأنه يتطلّب تكثيفا موضوعيا وفنيا وتجردا من الأهواء والانحيازات، إلى درجة أن كبار الكتّاب يحجمون غالبا، عن خوض معتركه. وتعد رواية (أعمدة الغبار) التي صدرت عن دار أزمنة في عام 1996 للروائي إلياس فركوح، من أبرز الأمثلة على الكيفية التي يمكن وفقها للتقديم أن يحيد عن هدفه الرئيس -وهو الإسهام في تقريب العمل الروائي للذائقة العامة- ويندفع بدلا من ذلك لتصفية الحساب مع طيف إبداعي آخر شخصا ونصا؛ حيث اضطلع بتقديم هذه الرواية الروائي الأشهر إدوار الخراط، على نحو صادم ومغالط واستفزازي. لقد اتسم التقديم الذي صدّر به الروائي إدوار الخراط رواية (أعمدة الغبار) بما يلي: أولا: الإسهاب الشديد على غير المعهود، حيث بلغ سبع عشرة صفحة! ثانيا: لم يقتصر على التنوية بمزايا الرواية كالمعتاد، بل تجاوز ذلك إلى التنظير بخصوص الرواية ما قبل الحداثية والرواية الحداثية. ثالثا: رغم الجهد الذي بذله إدوار الخراط للظهور بمظهر المنظّر الموضوعي المجرّد من الهوى، إلا أن القارئ الحصيف والناقد البصير لن تفوتهما حقيقة أن المستهدف الحقيقي هو نجيب محفوظ أو الرواية المحفوظية. لقد أكد لنا التقديم الذي اضطلع به إدوارد الخراط، خطورة اندفاع المبدع للكتابة في النقد بدوافع شخصية، لما قد يترتب على الشخصنة من مهاترات. كما أكد لنا خطورة تورّط المبدع في الكتابة النقدية حتى لو كان مثقفا كبيرا، لما قد يرتكبه من أخطاء لا تليق بتاريخه الأدبي. وقد أدى هذا المحذوران بإدوارد الخراط إلى الوقوع في المغالطات التالية: أولا: زعمه بأن مهمة الناقد لا تتمثل في تلخيص العمل الروائي وتحليل شخصياته وإبراز الصراعات الداخلية لهذه الشخصيات، بل تتمثل في معايشة العمل الروائي وإعادة خلقه! وكأنّا به يدعو النقاد إلى إنشاء نص على نص انطلاقا من أحاسيسهم وانطباعاتهم وليس انطلاقا من البروتوكول النقدي الذي يبدأ بإيجاز العمل ثم الاتجاه إلى تحديد شخصياته فالانهماك في في تحليلها وإبراز أبعادها ودلالاتها، وصولا إلى الاجتهاد في تفسير دوافع العمل وتأويل غاياته ومراميه. وفي حدود علم كاتب المقال، فإن النقاد المعدودين، على اختلاف مدارسهم واتجاهاتهم ومناهجهم، ما زالوا متمسكين بخارطة الطريق هذه، ومن نافل الحديث أيضا، القول بأن تجاوز هذا البروتوكول من شأنه أن يؤدي بالناقد إلى تقديم ما يحس به هو وليس ما ينطوي عليه العمل فعلا. ثانيا: كل المواصفات التي أوردها إدوار الخراط بخصوص الرواية المحفوظية، من حيث؛ التسلسل الزمني أو تطور الأحداث وتأزمها أو تنامي الشخصيات أو واقعية السرد ومنطقيته أو انطواؤه على غاية ودلالة ومعنى، هي مواصفات الحداثة بلا منازع. ومن اللافت للنظر أن تغيب هذه الحقيقة عن ناظري مبدع ومثقف كبير بحجم الخراط الذي خلط بين الكلاسيكية الأرسطية والحداثة المحفوظية، رغم أن وجوه الشبه بينهما معروفة؛ لأن كلا منهما يحتفي بالاتساق والتناغم والرصانة والغاية بطريقته الخاصة. ولأن مراعاة النسق أو النظام وإبراز العقلانية المنطقية وتصعيد النقد هي كلها من أخص خصائص الحداثة. ثالثا: كل المواصفات التي أوردها الخراط بخصوص الرواية التجريبية من حيث؛ تحطيم النسق وعدم مراعاة تسلسل الزمن أو الحدث وعدم الاحتفاء بتقديم تبريرات منطقية أو عقلانية فضلا عن التطويح بالغاية واليقين والجدوى هي مواصفات ما بعد الحداثة بلا منازع أيضا. ومن اللافت للنظر أن يُلحق الخراط التفكيك بالحداثة ويتجاهل حقيقة أن تقويض النسق والعقلانية وتصعيد الشك والعبث فضلا عن التطويح باليقين والجدوى هي من أخص خصائص ما بعد الحداثة؛ فكان أن ألحق (أعمدة الغبار) التي تنتمي إلى عالم التجريب ما بعد الحداثي بنقيضها! رابعا: صحيح أن الرواية المحفوظية اتسمت بالثبات النسبي شكلا ومضمونا طوال عقود من حياة مبدعها، لكن هذا الثبات رسّخ أركان الرواية العربية المعاصرة ومتّن بنيانها. وليس صحيحا البتة، ما زعمه الخراط بخصوص بروز شخصية الراوي العليم أو المبالغة في التمهيد والتفسير والتبرير في الرواية المحفوظية؛ فهذه كلها أو بعضها مزالق عانى منها روائيون واقعيون عرب بنسب متفاوتة، لكن نجيب محفوظ ليس منهم، ومن التجني الشديد نسبة هذه المزالق له تصريحا أو تلميحا. وخلاصة القول في هذا التقديم المسهب، أن إدوار الخراط وظّفه للتعريض بالمشروع الروائي المحفوظي في المقام الأول، متخذا من التنويه بمزايا (أعمدة الغبار) ذريعة لهذا التعريض، وأن لغته وخطابه اللذين اتسما بالحدّة والنزق الشديدين، قد حالا إلى حد بعيد، دون إفساح المجال لقرّاء ونقّاد الرواية كي يتلقّوها بعفوية ودون الشعور بخشونة العتبة التي اضطروا لاجتيازها مرغمين. ومع أن هذه الرواية تحديدا وضعت اسم الياس فركوح على خارطة الرواية العربية الجديدة، إلا أن الأطروحة التي تصدّرتها أسهمت في حرمانها مما تستحقه من مقاربات على صعيد الشكل والأسلوب والمضمون والدلالة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 29-09-2022 11:07 مساء
الزوار: 662 التعليقات: 0
|