|
عرار:
محمد العامري من خلال متابعاتي الحثيثة للروائي عامر طهبوب، تحديدا في السنوات الخمس الأخيرة، لفت انتباهي ما يقدمه من موضوعات سردية يحاول من خلالها استرجاع ما فاته من الذاكرة الجمعية الفلسطينية بأفقها المفتوح والمركب، وعبر رؤية تحمل فكره السياسي المبني على الحوار مع الآخر في أطر الوجود التاريخي وقيمة الإنسان، وقد انزاح إلى ذلك عبر تكشفات الآخر الماكر والمستعصي على المناكفة التاريخانية بوصفها عورة تاريخية بالنسبة له، فكانت سرديات طهبوب تعانق المستقبل في صراح لم تتبدى نهاياته بعد. يظهر الفضاء السردي في جل رواياته بتشكيلات مختلفة تتوحد في منظومة الجغرافيا السائلة في كل مكان، كمن يحمل حكاياته في حقيبة الحكي إلى أي مكان يرحل إليه كجزء من ممانعات النسيان وتحققات الرواية الجمعية لشعب بات يسكن الأرض، فكان المحكي يتبدى في الجغرافي والنصي الشكلي واللغوي والدلالي كمحرك لخلق فضاء سرديا ذي شساعة تستوعب ترميز المسرود التاريخاني وتمظهراته في مفاصل مشتركات السرد عند طهبوب. فهو سارد بالفطرة وألحظ ذلك في كلامه اليومي وطبائع حواراته العادية، موهوب في الإنتقال من فكرة لأخرى دون نشوز، وهذا الأمر تبين في جميع رواياته التي أعادتنا بذكائها إلى فلسطين الواقع والمتخيل في المحكي التاريخاني والشعبي، كصورة قوية من صور الوقوف على تجلياته الاغترابية المنسربة في طيات عناصر السرد المفخخ، وتمظهرات الشخوص باعتبارها نتيجة اغترابية بلبوس اجتماعي، ديني، ونفسي وجودي، ونرى إلى أنها تلصص على نافذة شهوة السرد كجزء من تعويض عن تخيلات ووقائع ماضوية تمتلك قوة ولذاذة في الحكي، مازجة بين قسوة الحدث السياسي ولذة المسرود الشعبي النابض بحيويته والذي يتسع لهموم الإنسان. فقد استعمل كاميرا العين الذاكرية الراصدة لحياة الناس والأماكن الفلسطينية واستحضار ذكي لشخصيات فلسطينية بائنة ومؤثرة. وإذا كان الرهان الإبستيمولوجي يشير إلى محاولات الفهم والتفسير فان منظومات السرد لا يمكن لها أن تنهي الرهان بكونه متحركا ومتبدلا عبر صيرورات سياسية تكاد تكون إنقلابات كوبرنيكية،وهذا يشكل عافية في السرد بكونه متبدلا لفعل تراكمي يتحرك بشكل أفقي وعمودي، وهي تحديات لقوة الوجود وغاياته الرومانسية بعلاقته مع الذكريات وتفاصيلها البعيدة والقريبة، وهي جزء أساسي من استعصاءات النسيان في تمثلات الغائب الواقع سابقا، وقد سبق لبولريكور أن تناول قضية التاريخ هذه من زاوية العلاقة الوثيقة بين التمثل والحكي. وأذكر هنا ما أشار إليه هايدن بقوله: «أن الخطاب التاريخي تمثيل أثير لقدرة الإنسان على ضخ المعنى في تجربة الزمن، لأن المرجع المباشر لهذا الخطاب هو الأحداث الواقعية لا الأحداث المتخيلة. ودلّل على أن مرجع الأدب والتاريخ واحد هو التجربة الإنسانية في الزمن، ولأن الأحداث التاريخية تمتلك بنية سردية لذلك يكون للمؤرخين الحق في اعتبار القصص تمثيلات صادقة على هذه الأحداث ومن ثم التعامل مع هذه التمثيلات بوصفها تفسيرات لها». فعامر طهبوب وقع في شغف المسرود المركب ليجعل الذاكرة السردية في تماس مع التاريخ كإطار يلبّن فيه مداميك العمارة الروائية الغائرة في الأرض والذاكرة، ويتجلى بوصف الرواية وسيطا زمكانيا، وتعالقات بين الذاكرة والهوية في مساره السردي، خاصة ونحن نعيش مجتمعاتعانت الهزائم وما زالت، ونموذج رواية «عائدة إلى أثينا» على سبيل المثال نتلمس عبرها ذلك البعد التاريخاني الذي يعيدنا إلى قوة المكان وتعاضده مع اهله والتي تكشف جزء من الهجرة الكبرى في العام 48 من القرن الفائت، وتعدد امكنة الرواية تشير بصورة غير مباشرة إلى الشتات الذي لحق بالإنسان الفلسطيني، فهي صورة لمدونات يحاول الراوي استرجاعها وتحميلها فضاءات جديدة خيفة النسيان والمحو، ويظهر ذلك في رواية أرواق هارون التي ارتكزت على مخطوطتين أو دفترين لهارون كمركز للسرد ، وهو سياق محوري في سرديات طهبوب كما لو أنه أراد لنفسه خطاً روائياً يتميز من خلاله عن مجايليه، والذي جاء كصورة جديدة لطبيعة المقاومة ضد المحو والحفاظ على الهوية. يظهر ذلك في رواية «في حضرة إبراهيم»، التي ترتكز أحداثها على شخصية هارون، وتطرح حكاية قسوة الاحتلال الاسرائيلي على الفلسطيني ومكانه كذلك، ففي حضرة إبراهيم يذهب طهبوب إلى التخييل التاريخاني بوصفة مادة من الممكن إعادة بنائها بما يخدم السرد وتجلياته في أكثر من موضع من مفاصل الرواية، فالسرد أكثر غنى في استعادة الزمن، بكونه القادر على تطوير مغذيات وحيوات المكان وتاريخه من خلال مضاعفة مركب الحبكات والمواربات التي تقدم عوالم «خيالية واقعية» لتنفتح على فضاء مطلق أمام التمظهرات الزمكانية، وما يمكن تسميته بالهوية السردية المتحركة والتي تسهم في بناء صورة الشخصية وملامحها، بناء على إدراك توليدي للتاريخ وأحداثه والسرد باعتبارهما شاهدين على تحولات الحكاية في التاريخ والفكر، بِكوْن السرد يمتلك خاصية تنامي الأحداث في أزمان السرد عبر صورة معرفية متقدمة. إذ يمكنني وضع مسار طهبوب السردي في مناخات النقد الثقافي المبني على الحِجاج بكونه السلاح الأكثر فتكاً وتأثيراً وخير مثال في هذا السياق إدوارد سعيد في حِجاجه الثقافي، هذه الرؤية التي يقدمها طهبوب في جل مسيرته السردية كمقاوم ناعم يريد تفكيك الرواية الإسرائيلية في رواياتها الباطلة، منتصرا بذلك لوجود الإنسان كقيمة وجود، ونرى إلى علاقة الحب بين «يامن» الفلسطيني وبين «ياردينا» اليهودية، وأعتقد أن طهبوب بهذا الإتجاه يدرك مدى أهمية المُحاججة الثقافية عبر المستند التاريخاني والإنساني كما لو أنه يرى المستقبل في تغيرات الصراع الذي لم يزل محتدما بين أصحاب الأرض والمحتل الإسرائيلي. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-08-2021 11:05 مساء
الزوار: 769 التعليقات: 0
|