|
عرار:
د. عماد الضمور/ أكاديمي أردني نشأ المسرح العربي في أحضان الشعر، ومن روحه انطلقت المسرحيّة الشعريّة؛ لتعكس حالة خاصة من الإبداع، تنقل الحدث التاريخي بروح المبدع لا بروح المؤرخ، ممّا يعني التزام الشاعر بأنساق الإبداع المسرحي وأسسه التي وضعها (أرسطو) في كتابه (فن الشعر) والحديث عن قواعد المسرح الثابتة: وحدة الزمان، ووحدة المكان، ووحدة الموضوع. وهي وحدات باتت ضروريّة في أيّ إبداع مسرحي سواء أكان شعريّاً أم نثريّاً. تحرك سعيد يعقوب في دائرة المسرح ونجح في ذلك، كما نجح من قبل عندما تحرك في دائرة الشعر، فحضرت البلاغة والفصاحة، وذلك بلغة دراميّة ذات تصعيد تاريخي فاعل محققاً تأثيراً جماليّاً واسعاً بعيداً عن الخطابية التي يقع فيها كثير من شعراء المسرح. الدراما والدلالة والعاطفة والحدث التاريخي كلها خيوط دقيقة؛نسج من خلالها سعيد يعقوب نصاً مسرحيّاً بلغة الشعر وروحه وعبقه، بل وأكسب مسرحيته طابعاً ثوريّاً مقاوماً نحن في حاجة ماسة إليه.لقد نجح الكاتب في مغامرته الإبداعيّة عندما ولج عالم المسرح الشعريّ بخطى واثقة وبراعة تصويريّة أذكت من وهج الدراما ودورها في صناعة الحدث برؤى إبداعيّة. إنّ كتابة مسرحية شعريّة ذات صبغة تاريخية يتطلّب توفّر درجة كافية من الوعي بالتاريخ، وموهبة جادة تمتلك أدوات فنية قادرة على بناء الشخصية المسرحيّة وجعلها أكثر قدرة على ملامسة الواقع. لقد التقط الكاتب شخصية ميشع ملك مؤاب، وهي شخصية تاريخية ليبني عليها أحداث مسرحيته، وهي التقاطة فنية بارعة بذل فيها الشاعر جهداً فنيّاً مضاعفاً ليضعها في سياق صراع درامي حضاري من خلال استدعاء عدد وافر من الشخوص التي منحت الحوار ثراءً فكريّاً عاليّاً ، وبراعة فنية واضحة ، إذ نجح الشاعر في تعميق العنصر الدرامي وتصعيد الحدث ليصل إلى الذروة مع المحافظة على قوة اللغة والإيقاع الموسيقي. فالشاعر الغنائي شاعر لغة أولاً، وشاعر فكر ومعنى، إذ خرج سعيد يعقوب عن مقتل اللغة الماثل في الزخرفة الزائدة والتنميق السالب للمعنى، واستطاع توفير رشاقة تعبيريّة وإيحاءات تتناسب مع الشخصيات ومستوياتها الفكرية. يبرز الصراع الحضاري بشكل جليّ في المسرحية الشعريّة ، وهو صراع منح مسرحيته بعداً فكرياً واضحاً، فضلاً عمّا تعكسه المسرحية من تعبير حاد عن الهوية العربية ذات الطبيعة الباعثة على التحرير من كلّ القيود الأجنبية، ممّا جعلنا نبحث عن الشعري واللاشعري في النص المسرحي من خلال الأدوات والأفكار من خلال العناصر المشتركة بين الشعر والمسرح مثل: المكان والزمان والشخوص، والشعور، والإيقاع بنوعيه الداخلي والخارجي. إنّ مرجعية المسرحية الفكرية منحتها تأثيراً انفعاليّاً وعاطفيّاً لا يخلو من ذوق جمالي على الرغم من اعتماده التاريخ مادة رئيسة، وجعله إحدى الشخصيات التاريخية مرتكزاً مهماً لبناء مسرحيته التي لم يختمها بمأساة بل بفرح النصر، ممّا وفّر عنصر الحركة وعزز من حدة الصراع الذي شهدته شخصية ( ميشع) في محنتها وصراعها مع العبرانيين. يحاول سعيد يعقوب في مسرحيته إعادة قراءة التاريخ الوطني وبخاصة في ظل استمرار صراعه الحضاري مع المحتلّ، ممّا منحه قدرة على إقامة حبكته المسرحية التي استطاع من خلالها وضع المتلقي في أسباب استمرار النزف الحضاري للأمة، واستمرار المعاناة المعاصرة، وذلك ببعث شخصية ميشع ملك مؤاب من جديد، إذ عمد المؤلف إلى فترة خصبة من التاريخ القديم، وهي حروب ميشع مع اليهود، ومعاناته المستمرة لوقف أطماعهم. ولأن التشابه في الظروف السياسية واضح بين المرحلتين: القديمة والمعاصرة، فإنّ إمكانات المسرح الدراميّة عززت من عمق الأحداث ومرجعيتها التاريخية، وقدرة الفن المسرحي على صهر التاريخ في قوالبه الفنيّة بطرق مختلفة. يعدّ التاريخ إحدى أدوات المبدع في الكتابة الفنيّة، بل هو ملاذه الأول عندما يكون تاريخاً قابلا للاستعادة في الوقت المعاصر، وبخاصة عندما تتشابه الظروف التاريخية. إذ إن استدعاء الشعر للشخصية التراثية إحدى الوسائل المهمة للإسهام في تغيير الواقع الذي تحيياه الأمة، ممّا جعل الانصهار في التراث عاملاً مهماً لإكساب التجربة الشعريّة المعاصرة طابعاً خصباً يتجاوز حدود الزمان والمكان.لقد وظّف سعيد يعقوب في مسرحيته الشعريّة (ميشع ملك مؤاب المنقذ) التاريخ توظيفاً بنائيّاً ينمو بإسلوب دراميّ مثير منح من خلاله خياله فضاءً خصباً ساعده على منح متلقي المسرحية فيضاً عاطفيّاً ومخزوناً وجدانيّاً يستطيع من خلاله مواجهة قسوة الواقع وتحدياته، إذ استدعى قصة الملك ميشع (ملك مؤاب) ليجعل من بطولاته في مواجهة العبرانيين ذخيرة قوميّة قادرة على إثارة الحسّ القومي ، وبعثه من جديد في قالب معاصر. استند سعيد يعقوب في بناء مسرحيته على موروث شعبي ، وحدث تاريخي قديم، وهي قصة الملك ميشع التي خلدها التاريخ في صموده وهزيمته للعبرانيين (850 ق. م) بعدما أعاق تخاذل الرعيّة طموحات البطل ممّا عمّق من قيّم الشخصية الرئيسة الإيجابية وطموحاتها المستقبليّة. عنوان المسرحية (ميشع ملك مؤاب المنقذ) المتلقي إلى تضاريس المسرحية فكان العنوان المفتاح الأوّل الذي يتوجّه فيه الكاتب إلى المتلقي مباشرة، لينتقل إلى وظيفة إحاليّة (مرجعيّة) تُرشد إلى العلائق التي ينبني عليها النص المسرحي. فقدجاء عنوان المسرحية علامة سرديّة أكثر منها دراميّة ، فهو يُفضي إلى السرد، إذ يتوجه الكاتب إلى التاريخ؛ ليرفده بنماذج حيّة قابلة للتعبير عن التجربة المعاصرة.يكشف سعيد يعقوب في عنوان مسرحيته عن شخصية تاريخية راسخة في الوجدان الشعبي وجعله منقذاً كما كان في الحدث التاريخي، ممّا جعل الشاعر يخضع لأنساق المسرحية التاريخية التي جعلت من الشخصية الرئيسة (البطل) بؤرة مركزيّة تدور حولها الأحداث، وتتناسل معها الحوارات العميقة وصولاً إلى الفكرة الرئيسة الماثلة في المنقذ، وهذا ما وجدناه في مسرحيات أحمد شوقي التاريخية. لم يرفض سعيد يعقوب التاريخ بل جعله حافزاً على مقاومة معركة التحرير وجعله مُثيراً للشعوب، حتى أن المتلقي لشخصية (ميشع) يشعر بأن الكاتب منها شيئاً من القداسة التي منبعها نُبل أفعالها وسعيها إلى التحرير. إنّ وعي المبدع بالتاريخ أمرّ ضروري لإقامة مشروع إبداعي مهم، يستند إلى توظيف التاريخ والإفادة من حوادثه، فأحداث المسرحية ترتبط بشخصية (ميشع) الملك المؤبي المحرر والمقاوم لأطماع العبرانيين في المنطقة العربية، إذ استطاع الكاتب بذكاء الدخول إلى الأجواء التاريخية واستخلاص العبر وتسليط الضوء على بعض الشخصيات الأخرى التي أحاطت بحكم العبرانيين وتاريخهم، مثل شخصيات: آخاب ملك إسرائيل، وجزائيل زوجة آخاب، وعمري بن آخاب، وراشيل زوجة عمري، ويهوه شافاط ملك يهودا، وباروخ أحد كهنة اليهود، ومرخاي أحد أعيان أوشيليم، وناحومي أحد قادة الملك عمري. وإذا كانت الفترة التاريخية التي تدور حولها أحداث المسرحية محدودة فإنّ سعيد يعقوب يعمّق من الرؤيا الفكريّة للأحداث بجعلها أكثر امتداداً في زماننا المعاصر، بل وحاجة إلى جمع الشمل وتوحيد الجهود من أجل التحرير، حيث نجح في تقديم مشاهد مسرحيّة لحالة حضاريّة مهمة من تاريخ مؤاب استطاع من خلالها الشعب المؤابي الانتصار على الأطماع العبرانية في المنطقة. للمسرحية قيمة فكريّة وفنية واضحة، إذ تعدّ مرحلة ناضجة للمسرح الشعريّ في الأردن، ممّا يجعلها تُرسّخ قواعده الثابتة في وقت بدأ فيه الاهتمام بالنص السرديّ يتزايد على حساب الشعر. لقد كشف سعيد يعقوب في مسرحيته الشعريّة عن مقدرة لغوية وشعريّةواضحة، فكثير من الشعراء الذين حاولوا كتابة مسرحية شعريّة تاريخية جانبهم النجاح بسبب ضعف القوة الشعريّة لديهم أو كثافة الشعر الاستعاريّة أو الإيقاعية على حساب أهمية الحوار المسرحي. لكن سعيد يعقوب استطاع ببراعة فنية نقل الحدث التاريخي بسياقاته الفكريّة المختلفة في قالب شعريّ ناجح، ممّا كشف عن نجاح القصيدة العمودية في بناء مسرحية شعريّة ذات دلالة معاصرة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 11-05-2020 01:28 صباحا
الزوار: 1198 التعليقات: 0
|