في ديوان (إذ اقيل.. أنتِ) وهو سادس الدواوين الشعرية للشاعر السوري ياسر الأقرع، يجد القارئُ نفسَه في عالمٍ باذخِ الجمالِ، ثريِّ الدلالةِ، تَرِفِ اللغةِ، مذهلِ التأثير.. حيث تجاوزَ المعنى في دقتِه وطرافتِه سقفَ التوقُّعِ، واللفظُ في بنيتِه ودلالتِه حدودَ الجمالِ المتعارَفِ عليها.
ولعلَّ أولَ ما استوقفني في الديوانِ.. هو عنوانُه (إذا قيلَ.. أنتِ) جملةٌ شرطيةٌ محذوفةُ الجواب، تتركُ للقارئِ مساحةً محفِّزةً لإكمالِ المعنى حسب ما تفيضُ به مخيلتُه من المعاني المحتمَلة، وإن كنتُ أرى أن الشاعرَ أرادَ باختيارهِ هذا العنوانَ أن يقول: (إذا قيل.. أنت) كان هذا الشعرُ كلُّه.
قصائدُ ديوان (إذا قيل.. أنت) هي قصائدُ حبٍّ من الطرازِ الرفيع، حيث تبدو الكلمة كائنًا حيًا ينبضُ بالحياة، ويتحركُ في مساحاتِ الأزمنةِ والأمكنةِ ليرسمَ اللحظةَ العابرةَ، والموقفَ الآنيَّ بلغةٍ شفيفةٍ ورؤيةٍ عميقةٍ.. تحوِّلُ العابرَ إلى وطنٍ.. والآنيَّ إلى خلود.
ومن اللافتِ في قصائدِ ديوان (إذا قيلَ.. أنتِ) هو ذلك التناقضُ الجذابُ، والتباينُ المدهش، بين استخدامِ ضمائرِ الخطابِ وغيابِ المرأةِ المخاطَبة. فمن قصائد الديوان (شهية الحزن.. أنتِ) (يا أنتِ.. كم أتعبتني) ( شعري.. وجنوني.. وحضورك) وفيها تبدو ضمائرُ الخطابِ واضحةً جليّةً،  في حين أننا نجدُ معاني الغيابِ تطغى على كثيرٍ من القصائدِ مثل قصيدة(مدمنة الغياب)وقصيدة ( غيابك موت)... وهذه الثنائيةُ الطاغيةُ على الخطِّ العامِّ لقصائدِ الديوانِ هي واحدةٌ من أقوى ملامحِ الإبداعِ في ديوان الشاعرِ ياسر الأقرع (إذا قيل.. أنتِ) وهو مَلمحٌ إبداعيٌّ لا يخطئُه من أوتيَ حسًا مرهفًا، ورؤيةً نافذةً.. تتجاوز ضفافَ النصِّ لتغوصَ في أعماقِه وتستخرجَ لآلئَه.
وثمة قضيةٌ أخرى استوقفتني وأنا أقرأُ ديوانَ الشاعرِ ياسر الأقرع (إذا قيلَ.. أنتِ)، وهي ما تتمتعُ به قصيدتُه من تلقائيةٍ وعفَويةٍ تجعلك تدركُ أنَّ المعاني تتدفقُ عندَه تدفقَ الماءِ من أعلى الذُرا.. والألفاظَ تنقادُ إليهِ انقيادَ الفرسِ البريةِ بعد ترويضِها، فبقدرِ ما تتمتعُ به ألفاظُه في نشأتِها من التمردِ والجنون.. نجدها بينَ يديهِ طيّعةً مرنةً حتى لكأنَّها تشكَّلتْ في داخلِه منذ ولادتِه.. ثم منحها تشكيلاً شعريًّا فريدًا على الورق.
ومن تجلياتِ الإبداعِ عند الشاعر ياسر الأقرع في ديوانِه (إذا قيل.. أنتِ) خواتيمُ القصائد، فقد اعتمد الشاعرُ في خواتيمِ قصائدِه على الإبهار، حيث تسيرُ القصيدةُ (ذاتُ الطابعِ القصصي خصوصًأ) في خطٍّ دراميٍّ محدَّدٍ، حتى إذا ما وصلتِ القصيدةُ إلى خاتمتِها.. أخرجَ الشاعرُ الساحرُ من جعبتِه ما لم نكنْ نتوقعُه.. منتزعًا الإعجابَ الذي يصل بنا حدَّ الدهشة، كما في قصائد: (كبرياء)،(رسالةٌ غاضبةٌ.. إليكِ)، (مشاكسة).
والشاعرُ الذي غادرَ وطنَه، مخلفًا وراءَه ذكرياتِ طفولتِه وأحلامَ صباه، مودِّعًا رفاقَ عُمُرِه الذين شكَّلوا جزءًا من حياتِه، وكثيرًا من وجدانِه.. والتفتَ على حينِ غفلةٍ من الأحلامِ ليبْصِرَ وطنًا مدمَّرًا، ورفاقًا غادروا الحياةَ، وأهلاً وجيرانًا تفرَّقوا في أصقاعِ الأرض، ولم يتبقَ له من ذلك كلِّه إلا ما حمله في قلبِه من جراحِ وطنه، وفي طياتِ روحِه من عبقِ الماضي، وفي كبريائِه من قصائدَ وجدَ حياتَه فيها.. وكيف لشاعرٍ عاش كلَّ هذا الألمِ أن لا يشكِّلَ الحزنُ علامةً فارقةً في شعرِه، وأن لا يتركَ الجرحُ النازفُ في قلبه شيئًا من آثارِه في إبداعِه..!!؟
ولكنْ ما كانَ لهذا الحزنِ أن يكسرَ إرادتَه، أو  يُضعِفَ قوتَه، بل أضفى على قصائدِه ثراءً عاطفيًا وزخمًا فنيًا، وصدقًا قلّما تجدُه في قصائدِ شاعر.. فارتقت القصيدةُ عندَه ارتقاءً قلَّ نظيرُه، وبلغت من التأثيرِ أنَّها - من شدةِ الصدقِ فيها – قد شكَّلتْ جزءًا من وجدان قرائِه ومعجبيه. 
وخاتمة القول: إن قصائد ياسر الأقرع قريبة من النفس والقلب، ليست مغلقة الرموز، ولا بعيدة الأغوار، وهي تجربة ثرية غنية متجذرة، فيها من الخصوصية والعمق في الدلالات اللغوية والنفسية ما يفوق حد الروعة، تحاكي اللوحة الفنية المثلى في اللون والحركة والتأثير في النفس، في لغة شفيفة وصور مبتكرة وأسلوب متفرد، خلق تماهيا بين النظرة الجزئية للأشياء والنظرة الكلية الشاملة في قدرة غريبة على صهر هاتين النظرتين في قصائد شعرية ساحرة الجمال.
هذا هو ياسر الأقرع المتعبد الخاشع في محراب الرومنسية الحالمة، يرتل أجمل ما يمكن أن تجود به قريحة شاعر في ديوانه الخصب (إذا قيل أنت).