|
عرار:
فايزة عبد الكريم الفالح على حين غرّة... دون انتظار... هَيَّجَتْ حواسّ مُدوّنَتي الخدِرة رائحة فوّاحة عتيقة، حارت في البدء. من أين مبعثها...!؟ ثمّ لَحِظتْ أنّها تنبعث من عناوين حاشدة بالعبق الأصيل، كانت مبعثرة هنا وهناك على سطور مُدوّنتي ولم تبالِ...! فما كانت لتبالي إلا بعنوان واحد، اختزله الحرف بين قوسين «شاعر ناقد وأديب... بين أقرانه أريب»، يسترجع ما مرّ به في أعوامه القطاف، وسنينه العجاف...!، يفكّر الأديب في غده، متجاوزاً حدود الزمان والمكان في أخيلته... مستعيراً من سرب المستحيل جناحاً، رُغُم الزمن المريب المُثْقَلُ بمفارقات يومه عن أمسه؛ تطوف في رأسه أحلام قد قَضَت، أو ربّما رؤى لم تُوْلَدْ بعد... مِنضدة التصق بها عبق الفصول الراحلة إليه، وتشرين هذا العام قابع بلا شتاء، يغبط مِحبرته المسيالة بالجود والأقلام الحبلى بالمِداد. يُهدهد على نافذة أفكاره؛ هُدهُده الذي لم يغب عنه للحظة، وإن غاب يجئه من بطون الكتب بخبر يقين. الصور باهري: أربعين سنة في رياض العطاء غير آبهٍ ببيداء الشقاء... والعشرون قبلها تعتصر ألوان الرحيل على أربعة أعوام باكرة، زهوها ربيع الطفولة العابرة... شذاها أسوار القدس؛ ناثرة وروداً خجلى على إحدى تلال عمّان، ورود خدش حياءَها شوكُ غاشم، لطالما تمرّس على القتل، وسفك دماء الورود قبل الأوان. والأديب يُهدهد على طفل في داخله: بين خلجات نفسي «تعيش أنتَ»(1) وأوّل خاطرة رسمتها من صوت عُباب الخاطر؛ على مرافئ سطوري بلا ممحاة موجة عاصفة تعبث بها، كلمات بذرْتُها في جوف إحساسي، ريحانة هي...! لا حبّ ذو عصفٍ فيها يُدمي مُقلَ أحلامي، وأوّل كتاب قَرَأني قبل أن أقرأه يداعب الحريّة فيّ، من أفق «النظرات»(2) وقصّة الحريّة»(3)، حريّة صبيّ ملأ يده مقدار حفنة منها، وخبّأها في جيبه، مُرتدياً بزَّة أبيه العسكريّة، يخال نفسَه يجوب خِيَمَ معسكرات الحرب، منتظراً ليلاً بعد نهار طويل؛ يعود إلى خيمته؛ ليكتبَ رسائل عشقه لأرضه الأمّ «فلسطين»، متسربلاً ثوب أمّه سراً من «أبواب للدخول فقط»(4)، ليُطَمْئِن قلبَه على مفتاح يسكنه البرود؛ يخاف أنْ يأكله الصدأ من طول الجلوس، رُغُم دفء جيب ثوب أمّه، والدار هناك تبكي أحبابها من وجع الغياب، والحنين اللاسع يا فتى، يكاد يفتق فؤاد أمّه، وها...! بالأديب يهدهد على طفل في داخله... القابضة أهدابه على جمر دموع «أحلام ممنوعة»(5). المرآة ووجه الزمان: الخطّ والرسم زاخران، والّلون لا يرضى القتام، والهدف يسعى إذا ما سارت إليه الخُطى الواثقة باتزان، من حيث كانت نقطة البدء، يُصيّرها بالتحدّي، واليقين فيه يغلب ظنّه... مُنجَدِلٌ إصراره بالعزم والإيمان، أسرار الكون بين العلم وإشراقات الفكر... عبارات يزرعها المعلّم القدوة الأريب؛ في أذهان طلبته آنذاك، لتبقى مغروسة في رِبّةِ ذهن الطالب في الأمس البعيد «محمد رمضان الجبور»، وإذ بالغراس تنمو؛ لتكون شجرة مباركة يانعة؛ ليقطف منها طالب بالأمس؛ الذي أضحى معلّما، حين دنت منه ثمارها جنيّة؛ فأكل منها معلّمه الذي أصبح مشرفاً تربوياً فيما بعد، وهنا تلاقى الجبلان تحت قبّة صومعة العلم ذاتها. جيل يترى جيلا... مشكاة نوره العلم، يُنير دروب السابلين إليه، وحيوات العلم تبصر بأعينها، والبصيرة منها تملأ الميزان، وعيون الجهلاء عوراء عمياء؛ إذا ما أستحلس فيها رمد الجهل، فلا ظلّ لهم ولا ظلال غير «جدار الوهم»(6) الضلّيل. وها... بالنور ينمو... يرقص على مرآة الزمان، يهدي هالته للأديب الذي فوّق الأدب بالنقد «محمد رمضان الجبور»، ومازال هُدهُده حاضرا؛ يرى ماء الحياة فيه يقيناُ، من بين بواطن لواعج الطفل الجالس على عرش الحنين، يحنو إليه : أنا وأنت «الطفولة»، «نركضُ في صوب الشمس الملتهبة، نرقبُ ليلاً مُسودّا، ونراقبُ غيماً مربدّا، نشربُ من غيمةِ حبّ دافئةٍ، ونُفكّرُ في صور الوطن المرسوم، على ورقٍ مصقول... نجلسُ حلقاتٍ في ظلّ العتمة، نتخيلُ وجه العنقاء، وجه الغول، ووجه النقمة، ونسافرُ في زورق ورقٍ، نكتشفُ مجاهلَ دنيانا... وبها نكبر»(7)...، «أرقص أنا وأنت، مثل هالة نور، على مرآة وجه الزمان، أنت المكوث، وأنا العبور»(8). ألا «قصيّ»...! أعطنيها... ألا «قيس» هاتها... فكرة من كأس فكرة اسقنيها، علّها تداوي عِلّة... فداونيها... «حين تمرين بخاطري»(8) وهاجسي هي و أنت _ يا بن الصور باهريّ_ حين تردّد في صدري أملاً مبهماً؛ يتدارى وراء نصّ غامض، لا الصبر يسعف تجرّدي من النسيان، ولا الصمت يستر بعض ما أخفيه: «كفى يا قيسُ لا تبكِ/ بدمعٍ جِدِّ هتّان/ فما ليلى وإن عُشقتْ/ تساوي وزن أوطاني/ أتبكي العشقَ منصرفاً/ وتنسى هدم بُنياني/ أتبكي العشق يا قيسُ/ وتنسى جُرحنا القاني/ ديارُ العرب قد سُلبتْ/ وقد مُلئتْ بغربان»(9). كفى لا تبكِ _ يا «قصيّ»_، وكفكف دمع «قيس»_، وداوِ أباك بالبوح لا بالنسيان..!. واجعلني في أحايين كثيرة فكرة تشقّ طريقها إلى دماغي؛ كعبير ياسمينة الدار إذا ما مرّت بخاطري... قم بُنيّ...! ناولني قلمي وقرطاسي؛ لأشدّ على سطور الأدب مُناجاتي، وأكتب على صحائف النقد عنواني... وأقرأُ عليّ أشعاري... فالشعر هو جدُّكَ الأوّل. الشعر هو الجمال الحاضر فيكَ؛ المنبعث من هُدهُد أبيك، هو «الدفقة التي تبعث النشوة في القلوب المهمومة، والمشتاقة والمقهورة والغاضبة والحزينة، هو دواءٌ وطعامٌ وشرابٌ؛ لمن أحبّ الجمال والدنيا». ليست أكاذيب مساء: حين تعصف في ذهن الأديب الناقد «محمد رمضان الجبور» قراءات ممتدّة كمدى اليمّ، يُبحر فيها؛ يغوص في سَبر أعماق الكتب، يقطف من أحشائها: «درر ولطائف من القرآن الكريم»(10). هو والتاريخ؛ وألوان شتّى من صنوف العلوم و الأدب؛ في حضرة هيبة المكان الذي يليق بأمّهات الكتب، كتب طالما انتقاها فكره الغائص في محيط الجمال، مكان يعجّ بعبق التاريخ، رائحته المعتّقة عَلِقت بشغاف قلبه، غَلبت كلّ عبق عتيق في بيته، استسلمت وبقوّة لها شذى شجرة الليمون المتّكئة على نافذة مكتبته، وقهوته المسافر بخارها على متن سرب شعاع الشمس الأسطواني، الحامل معه ذرات غبار الكتب؛ تتراقص على ألحان خمسة آلاف كتاب، عناوينها تغني لـ(المايسترو) الأديب (أوبريت) المجد، ليست «أكاذيب المساء»(11) حروفها الضاديّة تحجّ كلّ صباح للسماء، تعانق ألوانها ألوان الشفق، تهمس سرّاً لبوابة الشرق عند أدراج الغسق؛ تبوح بعشقها للأديب المعشوق العاشق لها... والأبّ يربت على متون أبنائه الستة عشر، والهوس في داخله يمجّ مع المدّ؛ متفوّقاً عليه بيمّ فكره، حين اصطاد منه جزأين من كنز النقد «من بطون التفاسير»(12) والبدر يضيء على درب ربيع العاشق، قاطفاً من رياضه «قطاف وأوراق»(13) محمّلة بالأشواق لأمّه الأرض، يتلو لها مع هزيع الثلث الأخير من الليل «همسات قُرآنيّة»(14). وعند خيمة الصباح الباكر؛ تحطّ قوافل السحب، تهطل «قراءات»(15) من النقد على واحات الأدب، صنوان الخير يمدّ غصنه الرطيب، يندف منه ماء المعرفة، يملأ أنفاس العلم حياة، تنمو فروع النقد مبتهجة؛ فتطرح منها «عناقيد نقدية»(16). ومازال الأديب يجوب بحار فكره، لم تضلّ سفينته وإن عاكسها الريح، ملّاح قادم من «البلد الأرجوانيّ»(17) مرتدياً معطفه العتيق، قماشه مصبوغ ب «أرجوان صور»(18). يخبّئ في جيبه الأيمن (أبجديّة أوغاريت)(19). وما زال محتفظا في جيبه الأيسر من معطفه الأرجوانيّ «الصور باهري»(20)، «ورق البرديّ»(21) منقوشاً عليها غواية ناقد عنوانها « تأمّلات وإضاءات في أعمال الملّاح»(22). إنّها ليلة تشرينيّة مليئة بالشجن والشغف... يجالس الأديب أبناءه الستة عشر، تعانق ذراعيه منضدته الخشبيّة، المعتّقة برائحة الكتب العبِقة، ومدفأته تشعر بلسعة فكره الشغوف الخلّاق... يتفقّد هُدهُده، ينظر صوب أعلى رفوف مكتبته، يجد هُدهُده يعانق كتاباً؛ غلافه الخارجي مرسوم عليه شكل «الطائر الفينيقيّ»(23)... ينظر الأديب إلى هُدهُده متبسماً يهمس لذاته: علّه يأتيني منه بخبر يقين. أمّا أنا....! أتناول قلمي... أكتبُ عنواناً في أعلى صفحة مُدونتي : « الشاعر الناقد الأديب بين أقرانه أريب». الهوامش (1) «تعيش أنت»: مجموعة قصصيّة للأديب «محمد رمضان الجبور». (2) «النظرات»: كتاب «المنفلوطي» (3) «قصّة الحريّة»: من كتاب «النظرات» «المنفلوطي». (4) «أبواب للدخول فقط»: مجموعة قصصيّة للأديب «محمد رمضان الجبور». (5) «أحلام ممنوعة»: مجموعة قصصيّة للأديب «محمد رمضان الجبور». (6) «جدار الوهم»: مجموعة قصصيّة للأديب «محمد رمضان الجبور». (7) نصّ شعريّ/ الطفولة/ من ديوان «حين تمرّين بخاطري» للأديب «محمد رمضان الجبور». (8) ومضة من نصّ نثريّ/ أنا وأنت/ للكاتبة «فايزة عبدالكريم الفالح». (9) نصّ شعريّ/ كفى لا تبكِ يا قيس/ ديوان حين تمرّين بخاطري /للأديب «محمد رمضان الجبور». (10) «درر ولطائف من القرآن الكريم» كتاب للأديب «محمد رمضان الجبور». (11) «أكاذيب المساء» كتاب للأديب «محمد رمضان الجبور «. (12)» قرآن كريم من بطون التفاسير» كتاب من جزأين للأديب «محمد رمضان الجبور». (13) «قطاف وأوراق» كتاب دراسات قرآنيّة للأديب «محمد رمضان الجبور». (14) « قرآن كريم، همسات قرآنيّة» كتاب للأديب «محمد رمضان الجبور». (15) «قراءات» في عالم «مصطفى القرنة» الروائيّ، كتاب للأديب «محمد رمضان الجبور». 16) « عناقيد نقديّة» دراسات أدبيّة، في أعمال «مصطفى القرنة» الروائيّة، كتاب للأديب «محمد رمضان الجبور». (17) «البلد الأرجوانيّ»: بلاد «فينيقيا». (18) « أرجوان صور»: هو صباغ أحمر أرجوانيّ، كان يصنعه الفينيقيّون في مدينة صور اللبنانيّة. (19)»أوغاريت»: أبجديّة تتكوّن من /22/حرفا، أوّل من كتبها الفينيقيّون، وكانت تكتب من اليمين إلى اليسار، على ورق البرديّ، وهي الأصل الذي اشتقّت منه جميع الأبجديّات الساميّة الأخرى، والأبجديّة اليونانيّة، ومنها اشتقّت الأبجديّات الحديثة. (20) «الصور باهري» نسبة لضاحية «صور باهر» من القدس، وهي مسقط رأس الأديب «محمد رمضان الجبور». (21) «ورق البرديّ»: ورق مصنوع من شرائط رفيعةٍ من لبّ نبات البرد. (22) «تأمّلات وإضاءات في أعمال الملّاح» دراسات نقديّة، كتاب للأديب «محمد رمضان الجبور». (23) «الطائر الفينيقيّ»: طائر أسطوريّ ينهض من رماد النيران، لتتجدّد قواه وتعاد دورة حياته من جديد مرّة بعد مرّة، ومعركة بعد معركة، حيث يستحيل قهره أو هزيمته. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 06-12-2024 08:47 مساء
الزوار: 126 التعليقات: 0
|