في مشروعه الروائي، يجنح الروائي أحمد كايد إلى إعادة صياغة سيرته (الذاتية)، وسيرة شعبه وأمته(الغيرية)، بأسلوب فني استطاع من خلاله التعبير الصادق الجميل عن وقع الوجود على وجدانه، وأبدع في روايته»شاطئ السلام» بجدارة واقتدر، سيرة روائية، وصل فيها إلى السرد الكثيف الذي يتقابل فيه الراوي والروائي، ليظلا معا في تداخل مستمر ولا نهائي، وكان الروائي دائما مصدرا لمعلومات الراوي الواقعية والخيالية، الأمر الذي وفـّر للمبدع حرية غير محدودة في تقليب تجربته الشخصية، وإعادة صياغة الوقائع واحتمالاتها، وكل وجوهها. كان السرد الروائي يصعد ويهبط، يُسرع ثمّ يتمهّل، وفق توجيهات الراوي، الذي زوّد روايته بكثير من الجماليات الفنية، ومنها التداعيات والمونولوجات الداخلية، والحوار غير المسرحي، والوصف بكل ما فيه من صور بصرية، ومشاهد سينمائية، وأجمل ما يمكن إيراده هنا، ذلك الوصف الكاريكاتوري الذي كان يورده عن بعض الشخصيات، ومن ذلك وصفه إحدى الفتيات بأنها تمتلك (عينين مثل عيني بائعة اللبن، قصيرة القامة، ملفوفة القوام، تشبه حبة الجوافة في اللون والشكل). مرّ الروائي بتجربة صعبة، تمكن من خلالها، بخفة ورشاقة، أن يتخلـّص من براثن الرواية التسجيلية، والتوثيق، ليبدع رواية فنية بامتياز، بعيدة عن المباشرة، وتمكن بأسلوبه العذب الخفيف الرشيق، والسهل الممتنع، والبعيد عن الإطناب والإسهاب، وبلغته التي دقـّت بفصاحتها وبلاغتها صولجان المعاجم العربية، وبكل ما امتلك من تشويق وجاذبية، أن يقدم لقرائه كل ما يمتلك من إمكانات معرفية وجمالية، أهـّلته لاستيعاب الأحداث، سواء أكانت حروبًا أم ثوراتٍ أم إنجازاتٍ ضخمة، ولاسترجاعها، لإسقاط الماضي على الحاضر، وليعتبر قراؤه مما حصل، وكي لا يكونوا عبرة لمن يعتبر فيما بعد، معالجا خلال ذلك كله، ما فرضته تلك الوقائع من تطورات ـ إيجابية أو سلبية ـ في المجتمع العربي، دون أن يُحدث مطابقة حرفية ومباشرة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة الروائي الذاتية، وبين الوقائع الفنية المتصلة بسيرة أمته العربية. تم ذلك كله، بعد أن توقف الروائي عند ما جرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي حرب عام 1948، وحرب عام 1967، وما جرى فيهما ومن بعدهما، من تواطؤ بين قوى البغي، التي جعلت الشر ينتصر على الخير، متسببا في إبادة وتهجير ومعاناة كثيرين، رغم أن شرارة المقاومة لم تتوقف طيلة سنيّ ذلك الصراع المتواصل حتى اليوم. أحدث الروائي تماسا مع الأقانيم الثلاثة (الدين والسياسة والجنس)، مع التأكيد أنه كان يقترب كثيرا من السياسة بوعي ويقظة وينتقد بجرأة وبصراحة، ثم يعود أدراجه لينأى عنها، بعد أن يكون قد قال ما يريده دون خشية من الرقيب الذاتي أو الخارجي، وقد توقع قراؤه منه ذلك، حين قرأوا إهداءه الرواية إلى الأكاديمي التنويري الدكتور وليد مصطفى، الذي شاركه في دفع حركة السير التاريخية خطوات سريعة ومتقدمة إلى الأمام، ولا ننسى هنا، توقفه الطويل عند الممارسات الخاطئة لأصحاب السلطة في المنزل»الأب»، وفي المدرسة:المعلمون والمدراء»، ولم تخل الرواية من كشف للكثير من الفساد الذي كان يتفشى في حقل التربية والتعليم بخاصة، وفي المجتمع بعامة، عدا عن إيراده الكثير من ممارسات الطلبة المشاغبين، والساعين إلى الانحراف عبر التدخين، أو التحرّش بالإناث كلما سنحت لهم الفرصة، أو تفضيل اللعب وشقاوته على الدراسة أو العمل، كاشفا النقاب عن الأخطاء التي كانت تقع وهو طالب، ثم الأخطاء الأفدح التي اكتشفها حين صارت وظيفته كشف النقاب عما يجري في المؤسسات التربوية. أما الجنس، فرغم تهوّر بطل الرواية أحيانا، واستجابته لمتطلبات مرحلة المراهقة والفتوة والشباب، إلا انه رغم كل ما تعرّض له من إغراءات كانت تسير على قدميها إليه بكل ما في الدنيا من فتنة وأغراء، كان دائما يصحو قبل أن يُلبي نداء المرأة ونداء قلبه، ومتطلبات نزواته، وكان في كل مرة، يعود وقراءه بعد أن وصلوا البحر عطاشى، فكسبنا منه هذا البوح الجميل، وتلك الاعترافات التي التقى بعضها مع ما ورد في اعترافات «جان جاك روسو»، إلى جانب ما تخلل تلك المواقف من سخرية مرة امتلأت بها صفحات الرواية ومنها: أنه عندما اندقّ باب غرفته وهو طالب في الجامعة، وفتح الباب ليرى القادم، فإذا بها من بائعات الهوى، فدفعها للمغادرة، وأبلغ زميله في الدراسة وفي الغرفة بما حصل، وحين اندقّ الباب ثانية طلب زميله أن يفتح الباب، ليلبي لبائعة الهوى أمنياته وأمنياتها، ولما فتحه كان وراءه عامل النظافة يطلب منه تزويده بما لديهم من قمامة. والطريف هنا، توقف الروائي عند تحايل الآباء والأمهات على أطفالهم في كل مرة كانوا يريدون فيها أن يمارسوا العلاقة الحميمة بالحلال، وأيضا طرق الاحتيال التي كان يمارسها المراهقون من أجل اللقاء القصير وما يتخلله من حوار لفظي مكثف وسريع، أو استلام أو تسليم رسالة غرامية. المكان في الرواية متنوّع ومتعدد، ويمتد إلى عدة دول، أما الزمان فيمتد إلى أكثر من قرنين، وكذلك الشخصيات، التي كان بعضها معاديا للروائي وشعبه وأمته، وبعضها الآخر يتعرض إلى ما تعرّض إليه من ظلم، فكان نموّها، أو توقفها عن التطوّر، مرتبطا بالبيئة المحيطة، وبالوضع السياسي والعسكري في منطقة عاشت سنين طويلة في حروب ومقاومة لم تتوقف، ولكن الروائي وصل في نهايتها إلى»شاطئ السلام».
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 07-03-2025 11:02 مساء
الزوار: 55 التعليقات: 0