اللافت للنظر، والغريب، في رواية « أولاد عشائر» لمحمد حسن العمري الذي اقتبس عنوان الرواية من عبارة تردُ فيها، وهي قول بعضهم « أبناء العشائر يفعلون أشياء كثيرة دون أن يتقاضوا عليها أجرًا « (ص38) أنه وَضْعَ الفصل الأول منها تاليًا للثاني الذي يبدأ ص 15 فيما يبدأ الفصل الأول ص 91 ولعله أراد بهذا الترتيب الذي يخالف العُرْف، والعادة، أن يوحي للقارئ بشيء مهمّ، وهو أن الحوادث، والوقائع، التي يرويها السارد من ص 91 – 185 هي وقائعُ روايته، أما ما رواه من ص 15 إلى 90 فهو مقدمات تتضمن بعض ما سيتكرَّر ذِكْره في الفصل الأول الذي أحتلَّ موقعًا متأخرًا مع أن من حقّه أنْ يكون أوَّلا.
ذلك لأنَّ الفصل الذي بدأ به تضمَّن إشارة موجزة لنيفين ذوقان دَوّاس -وهي صحفية- وما جرى لشقيقتها شروق بعد لقائها بصقر ريحان(ص15). وإشارة غير كافية لما حدث لخطيب شروق(حجاب) (ص17) وانتحاره(ص19) وإشارات متكررة للراوي صقر ريحان، ولمقتل عطا -ابن الشيخ شاهر- ومقتل صقر ابن أخت الراوي (ص21) وما يذكره عن الراوي من حيث اختلافُه مع توجُّهات الحكومة -حكومة النهضة– على الرغم من أنه شغل فيها منصب مدير عام لزمن غير قصير قبل أن تعرض عليه حقيبة وزاريّة.
وجريًا على عادة الرواية التقليدية، لا بدَّ من قيام المؤلف بتقديم الشخوص البارزة. فالساردُ، ها هنا، وهو صقر ريحان، يذكر لنا أمه شيخة (ص25) ودعوتها على عطا، وأبيه الشيخ شاهر، وواسطتهما، والمدير المسؤول عن صرف النظر عن تعيين صقر في الوظيفة التي رُشِّح لها من ديوان الخدمة المدنية، وتعيين عطا بدلا منه، لأنَّ لهذا الأخير وسيطًا رفيعَ المستوى؛ وزيرًا أو من يقوم مقامه. لكن عطا اتُّهم باختلاس محفظة المسؤول عن التعيين، ولهذا فقد الوظيفة فورًا. وظلَّت الأم شيخة تعتقد أنه فقدها بسبب دعائِها عليْه.
الشيخ شاهر:
ويترك المؤلف حكاية الدعوة، والوظيفة، مستطردًا ليقدم لنا الشيخ شاهر مع أن هذا الشيخ لا دور له في الحوادث.. فيذكر أنه من مواليد الثلاثينات من القرن الماضي. وأن له أراضيَ في جنوب عمان، واسعة جدا، ومترامية الأطراف، تقاضى من تعويضات شق الطرق، والاستملاك لغرض الخدمة العامة، مبالغ كبيرة مكَّنته من أن يبني ستة بيوت لبناته الست، وبيتا سابعًا لابنه الوحيد عطا الذي لم يُقم فيه، فأحاله مسْجدًا. ثم يروي لنا الكثير من شؤون عطا الذي ظفِرَ بدبلوم لم يذكر لنا في أيِّ تخصُّص، ولكنه غادر القرية على الرغم من أن هذا أغضب أباه الذي ظل يتوق لإعادته مما هو فيه من حياة التشرُّد في عمان بين المقاهي، والمطاعم الشعبية، ودور السينما، والانخراط في صفوف الحمّالين المتخصصين بالقاصات في سوق السكر، وغيره. وقد اتهم بسرقة بعضها، وأدخل السجن، ومكث فيه مدة. ولا يفتأ السارد يجري وراءَ عطا هذا إلى أن يروي لنا حكايته مع المرشح البرلماني فوزي الزاهد الذي لم ينْجح في انتخابات 1989 وأصبح بعد ذلك رئيسًا فخريًا لنادٍ اجتماعيٍّ غير معروف(ص47).
وسبب ذكره هذا المرشّح أنَّ عطا اختلس محفظته في أثناء الانشغال بالمهرجان الخطابي للمرشحين، أمامَ المسجد الحسيني، ووجد فيها سبعة دنانير أخذها، ثم قذف بالمحفظة في قناة الصرف الصحّي(ص49). ولم يترك السارد اهتمامه بعطا ابن شاهر إلا بعد وفاته، وحضور الجثمان في مركبة لقريته (شعيل) واختلاء أبيه بالجثمان لدقائقَ قبل الدفن (ص74- 80) وهذا الإطناب، في تقديمه شخصيّة عطا، يذكرنا بما قيل في الرواية عن المعلم قطيش (ص40- 44) وطبيب القرية هويمل (ص37- 38) فقد أسهب في الحديث عنهما إسهابا صرف الانتباه عن الشخصيات الرئيسة، وعن الحوادث المهمّة في الحكاية، دون أن يعود الإسْهاب عليها بغير القليل من الفكاهة والسخرية .
وفي الأثناء، يجد القارئ إشارةً بلا تفاصيل لمقتل صقر الصغير ابن شقيقة الراوي أروى (ص51) وهذه الإشارة العابرة سيتوقف لديها المؤلف في نهاية الرواية (ص167) وتتلوها إشارات لمقتل شروق دوّاس، ومحاولات تسوية الإشكالات مع نيفين شقيقة شروق (ص54) وسيعود إليها كعادته في مواقع جمّة، ومُطَّردة، في الفصل الذي وصفه بالأول، مع أن ترتيبه هو الثاني.
شخصيّاتٌ غير سردية:
وفي هذا السياق يجد القارئ ذكرًا لشخصيات غير سردية أقحمها المؤلف في روايته ليضفي عليها بعض الصدق الواقعي، غير الفنّي؛ كبهجت التلهوني، ووصفي التلّ، ومضر بدران، وهاني الملقي، وعمر الرزاز، وجلهم رؤساء وزارة سابقون. ومؤنس الرزاز، وهو شقيق الرئيس المعنيّ بهذه الرواية، فقد كـرَّرهُ مرارًا. وكان بمقدور المؤلف أن يتجنب هذا بذكر اللقب دون الأسماء الصريحة التي تقرّب الرواية من التحقيق الصحفي. فبهذه الإشارات لهم، ولغيرهم، كهنري كيسنجر، وميلان كونديرا، وإليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، وجيمي كارتر، وحتى أدونيس(ص29)، وسواهم ممن نيّفوا على التسعين، استبْعَدَ التخييل لصالح التوثيق على الرغم من أن الأسماء الأخيرة جاء ذكره لها من قبيل الحشو الذي لا يضيف للموقف كبيرَ معنىً. وهذا يأتي على حساب النسَق الروائي، فهو لا يكتب رواية تاريخية، كرواية « العمامة والقبعة «2008 لصنع الله إبراهيم(1)، أو رواية « موانئ الشرق «1991 لأمين معلوف، التي استهلها بذكر السلطان عبد الحميد الثاني، ووريثه الشرعي. أو خاتون بغداد لشاكر نوري التي يذكر فيها مسز غيرترود بيل(2)، واسم المندوب السامي البريطاني على العراق المستر كـوكس، والملك فيصل الأول.
ومما يستدعي الملاحظة إفراط المؤلف في الوقوف إزاء شخصية عطا أحد منافسي السارد صقر ريحان على الوظيفة التي فاز بها الأخير. فقد أهتمَّ بوصفه؛ جسمًا، وعقلا، وخُلُقا، ومزاجًا، وتشرّدًا، وأطال في ذلك، مع أن عطا في الرواية لا دوْرَ له، إلا أنه قُتل، ودُفن، وقد تجاوز الستين، ولم يتزوج قط. وظلَّ على خلاف مع أبيه، وإنْ بدا في أحد المواقف غير جافّ مع إحدى أخَواِته. فالرواية -مثلما يكتشف القارئ- تقوم أساسًا على الإشكالات التي مر بها صقر ريحان بسبب توظيف صقر الصغير-ابن اخته- بدلا من حجاب خطيب شروق. وما تقوم به شروق من تهديده، واللقاءات المتكررة في مكتبه، وهي التي انتهت بمقتلها دهسًا فيما يبدو أنه حادث مروريّ مدبّر. وما صاحَبَ هذه الإشكالات من قدوم العشيرة البدوية -عشيرة دوّاس- من الزرقاء يتقدمها الشيخ أبو راكان والبروفسور المُتلصِّص، وهم جميعًا لا يعرفون: لا عطا، ولا الشيخ شاهر، الذي توفاه الله عن 90 عامًا، ولا علاقة لهم بعشيرته، وهذا واضحٌ، ولا يحتاج لطويلِ بيان(ص180- 185).
شهادة نيفين:
وإذا تحوّلنا من الفصل الذي انتهى بوفاة(شيخة) والدة قاروط ريحان (ص89) إلى الذي يليه، وهو في رأي السارد منقول نقلا من شهادة نيفين شقيقة شروق التي لاقت حتفها في حادث سير مدبر في طريق المطار (ص91) نقول: في هذا الفصل تبدأ الرواية وتنتهي؛ مما يؤكد أن السابق لا يعدو كونه مقدماتٍ، وإشارات. فحجاب الذي ذكر في السابق ذكرًا عابرًا دون أن نعرف عنه شيئا تبيَّن أنه مهندسٌ، وخطيبُ شروق دوّاس التي تعرَّف عليها في مطعم للوجبات السريعة (ص91) وقد حان دورهُ في التعيين، وتسلَّم خطاب التعيين بعد توقيعه من ديوان الخدمة المدنية، متوجِّها صوْبَ الدائرة التي يشغل منصب المدير العام فيها صقر ريحان، وهو الذي ردَّه خائبًا بعد أن كتب على خطاب التعيين:» يوقفُ تعيين حجاب حجاب لعدم الحاجة إليه في الوقت الحالي، ويُعاد ملفُّه للديوان « (ص 93) وكان قد عيَّن صقرًا الصغير -ابن أخته أروى- بدلا منه. ومن باب الاحتراس والتحرُّز احتفظت شروق بنسخة من خطاب التعيين الذي تمَّ وقفه من المدير العام(100) وأسفر هذا، بما ينم عليه من فساد المدير العام، عن جريمة انتحار الشاب حجاب الذي ألقى بنفسه من شاهِقٍ، ولقيَ حتفه فورًا(ص102) في مشهد أطال الراوي في وصْفِه إطالةً فيها غير قليل من التزيّد، والفضول.
ويجد القارئ في هذا السياق تعريفا كاملا، أو شبه كامل، بحجاب. فقد عاش يتيمًا مع شقيقاته الخمس، وجدِّه الذي توفاهُ الله بعد قليل من وفاة الأب. (ص105) وهو ينتمي لعشيرةٍ أردنيَّة تقيم في شرق عمان. وكان قد تعرف بشروق في مطعم للوجبات السريعة مثلما ذكرنا. وفي الأثناء يستَطْرد الراوي متحدثا فيما يشبه الخطبة العصماء عن الفساد الذي شهدَهُ التوظيف زمن حكومة النهضة، ولمْ يفته أن يذكر رئيسًا سابقا لرابطة الكتاب الأردنيين، ومنشوره، الذي يدافع فيه عن الراحل مُؤنس الرزاز، مُفضلا مؤنسًا الروائي على أخيه الرئيس. ولا يجد القارئ سببًا مقنعًا لهذا إلا أنْ يكون المؤلف راغبًا في إثارة هذا الموضوع الذي أساءَ للمَتْن السردي إساءَةً كبيرة، وجعل الرواية محاولة أدبية لتَصْفية الحِسابات.
ويتكرَّرُ التعريفُ بحجاب، فيذكر أنه وُلد لأبٍ فقيرٍ من أسرة جنوبيةِ الأصل، عمَّانية المقام (ص119). وأنه كان يتعاطى أدوية مهدِّئة بوصفاتٍ طبية (مُفَبْركة) أو بلا وَصْفات. (ص121) وأن خطيبته لم تكن على درايةٍ بذلك. وقبل خطوبته كان قد تقدم لابنة خالته التي أبَتْ الزواج منه بسبب أخواته الخمس، وفي المقابل يذكر أنّ (شروقَ) هي الأخرى انتكست مرتين، أولاهما مع شابٍّ اكتشفت بعد الخطوبة أنه مُدْمِنٌ، والثانية من طبيب يكبرها بعشر سنين تخلت عنه لكثرة تحَرُّشه بالنساء(ص123). والطريفُ -المفتعل- مقارنة المؤلف بين انتحار حجاب، والبوعزيزي التونسي الذي أسْفَر انتحارُه عن ثورة انتهت بتغيير النظام السياسي في تونس(ص125) فانتحارُ حجاب لم يسفر -على وفق الحوادث في الرواية- إلا عن مقتل عدد من الشخوص بحوادث الأَرْجح أنّها مدبّرة.
اتصالٌ من مجهول:
وإذا أردنا الدقّة تبدأ مجريات الرواية باتصال من مجهول مع شروق، ليحثها على الاستعانة بشقيقتها الصحفية اللامعة نيفين، والقيام بما تستطيعان القيام به للانتقام من صقر ريحان، والكشف عن فساده، وألاعيبه التي انتهت بانتحار حجاب. وهذه هي عقدة الرواية إذا ساغ التعبيرُ، وحَسُن.
تجاوَبَتْ شروق مع المتَّصل، واقتحمت مكتب صقر ريحان بعد أن أثارت نيفين الموضوع صحفيًا (ص 134) وإعلاميًا. وتحدثت شروق للمدير العام، وطلبت منه أن يقدم اعترافا في بثٍّ حيٍّ ومباشر يقرُّ فيه إقرارا صريحًا لا يحتمل الموارَبَة، أو اللبْسَ، بتعيين ابن شقيقته أروى بدلا من حجاب صاحب الحق بالوظيفة، مما تسبَّبَ في انتحاره. وبعد لقاءاتٍ عدّة، ومساوماتٍ، عرض عليها فيها مبالغ كبيرة جدًا لقاءَ طيّ الموضوع، فأصرَّت على طلبها إصرارًا عنيدًا، مما دفع به لليأس من التفاوض (ص141).
حادثٌ مروري:
بعد هذا فوجئ الجميع بالحادث المروري الذي أسفر عن مصرع شروق في طريق المطار، وأفاد شهود عيان بأنَّ السيارة التي ضربت الفتاة ذات (لوحة أرقام) حكوميّة. وأن السائق شبه أصلع يرتدي نظارة سوداء بعدسات كبيرة. أما نيفين فلم يخطر لها ببال أن تتم تصفية شقيقتها شروق بهذه السرعة.(ص149) وفي هذا الموقع أعادنا الراوي للتعريف بالشقيقتين، وهو شيء غير مناسب. (ص157) علاوة على أن العودة للحديث عن صقر ريحان، وما عاناه من أمراض سببت له العزوف عن الزواج، فبلغ الستين عازبًا، هو الآخر في موقع غير مناسب، ولا ملائم.(ص159) وفي حمأة هذه الحوادث عاد بنا المؤلف لصقر الصغير الذي سارع لنجدة خاله. فلقِيَ هو الآخر مَصْرعه في حادثٍ غامض.
وفي مقابلةٍ أجريت مع الخال اعترف بما كان منه (ص171) مدعيًا أن المهندس المنتحر كان يعاني من متاعب نفسية، ويتعاطى أدوية مهدِّئة، وأنه كان مهيئًا للانتحار بهذه الظروف، أو بغيرها. وعلى الرغم من ادّعائه الاعتذار عن التكليف بحقيبة وزارية، إلا أنه كان أول الحضور في أول اجتماع للمجلس بُعَيْد التعديل الوزاري. فتقبّل التهاني والتعازي من زملائه في آن.(ص185).
تساؤلات:
وهذا ما لا يتوقّعُه القارئ. فبعد الفساد الذي اتُّهم به، واعترافه بما نسب إليه، يغدو وزيرًا في حكومة النهضة، فشيءٌ لا ينسجم مع الواقع الافتراضي، بيد أنَّ المؤلف، يريد أن يقول من وراء السارد: إن حكومة النهضة حكومة فساد، لا أكثر ولا أقل، وهذه هي الأدلة التي لا يستطيعُ، كائنٌ من كان، أنْ ينكرها، أو أن يستهين بما فيها من حجج برهانيّة على صحة هذه الاستنتاج ودقته.
على أنّ نهايات الفصل لا تخلو من غموض يثير لدى القارئ عددًا من التساؤلات. فالسارد لم يقل لنا: إن شروقًا، بعد مغادرة المكتب، اتجهت إلى طريق المطار، ونحن نفترض أن المدير، وهو من سكان جنوب عمان، يغادر إلى منزله سالكا طريق المطار، أما شروق، فما الذي يجعلها تسلك ذلك الطريق؟ وسؤال آخر، وهو كيف تأتّى لصقر الصغير -ابن أروى- أن يعلم بما جرى مع الخال ليهرع لنَجْدته؟ وهذا يُسْفر عن سؤال آخر، وهو من هي الجهة التي كانت تتربّص بابن أروى، وأطلقت عليه النار فيما كان يقود سيارته عائدًا من لقائه بالخال نحو المنزل في شعيل؟ وثمة سؤال ثالث، هو: هل الإشادة بأولاد العشائر في الرواية تسوِّغ هذه الجرائم التي تأتي بنتائج عكسية، فهم، كغيرهم، منهم الطيبون، ومنهم الفاسدون، وأكبر دليل على ذلك ما نجده في الرواية. وثمة شيء آخر ينبغي ألا يفوتنا التنبيه عليه، والإشارة إليه، وهو خروج الكاتب على النص مخاطبًا القارئ مباشرة. وقد تكرر هذا في أكثر من موقع، كنصحه لنا ألا نبحث عن موقع (شعيل) على محرك البحث (غوغل) لأن هذه التسمية منه، وليست موجودة على أرض الواقع، وهذا -في العادة- تدخل من المؤلف غير مقبول في الروايات المتقنة.
***
1. انظر الدستور الثقافي 24/ 5/ 2024
2. انظر عنها في كتابنا: في الأدب العراقي الجديد، ط1، عمان: دار الخليج، 2024 ص 93-96