|
عرار:
د. محمد عبدالله القواسمة ويكون التغزل بالمرأة عند زهير بن أبي سلمى في معلقته مدخلًا للدعوة إلى السلم بين قبيلتي عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء، التي استمرت أربعين سنة. فأم أوفى، حبيبة الشاعر وزوجته الأولى تغادر موطنها حومانة الدراج والمتثلم، وتتركه للبقر الوحشي والظباء تسرح فيه وتمرح. وحين يأتي الشاعر إلى المكان ويتعرفه بعد مشقة؛ لما أصابه من هدم ودمار يطرح عليه التحية، ويدعو لأهله بالسلامة. إنه يجعل من التغزل بأم أوفى وسيلة لبيان ويلات الحرب، وما تلحقه من خراب وقتل وتشرد. «أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَـةٌ لَمْ تَكَلَّـمِ/ بِحَـوْمَانَةِ الـدُّرَّاجِ فَالمُتَثَلَّـمِ/ ودَارٌ لَهَـا بِالرَّقْمَتَيْـنِ كَأَنَّهَـا/ مَرَاجِيْعُ وَشْمٍ فِي نَوَاشِرِ مِعْصَـمِ/ بِهَا العِيْنُ وَالأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَـةً/ وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ/ وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشْرِينَ حِجَّةً/ فَـلأيَاً عَرَفْتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّـمِ/ فَلَـمَّا عَرَفْتُ الدَّارَ قُلْتُ لِرَبْعِهَـا/ أَلاَ أَنْعِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الرَّبْعُ وَاسْلَـمِ». ويستخدم الشاعر كعب بن زهير الغزل في قصيدة «بانت سعاد» التي جاء ليلقيها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، طالبًا منه الصفح على هجائه له والمسلمين؛ ليظهر حالته المضطربة الخائفة من العقاب، لما اقترف لسانه، فيظهر نفسه مقيدًا لا يستطيع فكاكًا من حبه لسعاد. وهي الحالة المشابهة لحالته أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، بوصفها الحالة التي تدور عليها القصيدة كلها. «بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ/ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ». إلى أن يقول: «أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني/ والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ/ وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِرًا/ والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ». ويبدو في ثنايا الغزل في قصيدة الشاعر ابن زريق العينية، أو اليتيمة، أو الفراقية ما يعانيه من قلقين: قلق لقلة الرزق، وقلق لإحساسه بوطأة الزمن. فنراه يفارق زوجته أو حبيبته للتغلب على قلقه الأول، لكنه يقع في براثن القلق الثاني ويفارق الحياة. وهذا ما يظهر في أبياته المشهورة من القصيدة حين يترك حبيبته في بغداد، ويسافر إلى بلاد الأندلس؛ ليتكسب بشعره عند الأمير أبي الخير عبد الرحمان الأندلسي، فلم ينل منه غير القليل، فيزداد همه، وإحساسه بالفراق فيموت في طريق العودة إلى بغداد. هكذا كان غزل ابن زريق أداة للتعبير عن قلقه لا أداة للبقاء مع زوجته التي تشبثت به، ورجته ألا يتركها، لقد اكتفى باستيداعها الله. «أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَرًا/ بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ/ وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي/ صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ». إلى أن يقول: «عَل اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا/ جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ/ وَإِن تُنلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتُهُ/ فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ». ويجعل أبو فراس الحمداني في قصيدته» أراك عصي الدمع» من الغزل أداة للصبر، واحتمال عذاب السجن في بلاد الروم، وأداة للشكوى من ابن عمه سيف الدولة الحمداني أمير حلب عندما لم يعمل على تحريره من الروم. وهو الفارس الشجاع الذي دافع عن حلب وعن حكم أميرها. إنه غزل لا يتجه بالدرجة الأولى إلى الحبيبة، بل إلى ما حل بالشاعر، وفيه دعوة لابن عمه ليهب لإطلاق سراحه. وفعلًا يتحقق له ذلك بعد أن اطلع سيف الدولة على القصيدة، وسير الجيوش لمحاربة الروم وإنقاذه. يقول الحمداني: أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبر/ أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ/ بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ/ وَلَكِنَّ مِثلي لا يذاع لَهُ سِرُّ/ إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى/ وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ/ تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي/ إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ/ مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ/ إِذا مِتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ». واحيانًا يلجأ الشاعر إلى نوع آخر من التغزل بأن يُلبس مكانًا ما لباس الأنثى ويتغزل به لإضفاء الغموض المحبب للنفس، مثلما جاء في قصيدة «زحلة»، وقصيدة «أنشودة المطر». ففي قصيدة «زحلة» يتغزل أحمد شوقي بمدينة زحلة التي زارها في عشرينيات القرن الماضي، ويناديها بجارة الوادي، والمقصود وادي العرايش المطل على زحلة، والمتدفق في نهر البردوني الذي ينبع من مغارة في سفح جبل صنين في لبنان. ويظهر شوقي زحلة معشوقته الحسناء الفائقة الجمال بقوله: «يا جارَةَ الوادي طَرِبتُ وَعادَني/ ما يُشبِهُ الأَحلامَ مِن ذِكراكِ/ مَثَّلتُ في الذِكرى هَواكِ وَفي الكَرى/ وَالذِكرَياتُ صَدى السِنينِ الحاكي/ وَلَقَد مَرَرتُ عَلى الرِياضِ بِرَبوَةٍ/ غَنّاءَ كُنتُ حِيالَها أَلقاكِ». وفي قصيدة «أنشودة المطر» يبدأ بدر شاكر السياب قصيدته بذكر عيني الحبيبة، ويصفهما تارة بغابتي نخيل قبل الفجر، وأخرى بشرفتين يبتعد عنهما القمر. وما حبيبته غير وطنه العراق الذي يعاني من البؤس والفقر. «عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ/ أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر». ويذهب بعض الشعراء بعيدًا في استخدام التغزل بالمرأة حين يجعل منها أداة لوصف المرض؛ فهذا المتنبي في قصيدة له يحدثنا عن امرأة تزوره في الليل، ولكن يتبين لنا بعد القراءة الواعية بأن ما يتحدث عنه هو مرض الحمى. إنه يخاطبها كأنها فتاة تحرص على زيارته في حياء، فيستقبلها بالترحاب، لكنها تأبى أن تعيش في فراشه بل في عظامه، يقول: «وَزائِرَتي كَأَنَّ بِها حَياءً/ فَلَيسَ تَزورُ إِلّا في الظَلامِ/ بَذَلتُ لَها المَطارِفَ وَالحَشايا/ فَعافَتها وَباتَت في عِظامي/ يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسي وَعَنها/ فَتوسِعُهُ بِأَنواعِ السِقامِ/ إِذا ما فارَقَتني غَسَّلَتني/ كَأَنّا عاكِفانِ عَلى حَرامِ». ومثل زائرة المتنبي زائرة لسان الدين بن الخطيب، التي يظنها بعضهم بأنها امرأة يتغزل بها الشاعر بكلمات رقيقة، وصور مادية، وحوار عشقي واضح. واستنادًا إلى هذا الظن يغني بعض أبيات القصيدة المطربان صباح فخري وفيروز، ولكن الرأي المرجح بأن الزائرة هي المرض. يقول الخطيب: «جاءَتْ مُعَذِّبَتِي فِي غَيْهَبِ الغَسَقِ/ كَأنَّهَا الكَوْكَبُ الدُرِيُّ فِي الأُفُقِ/ فَقُلْتُ نَوَّرْتِنِي يَا خَيْرَ زَائِرَةٍ/ أمَا خَشِيتِ مِنَ الحُرَّاسِ فِي الطُّرُقِ/ فَجَاوَبَتْنِي وَدَمْعُ العَيْنِ يَسْبِقُهَا/ مَنْ يَرْكَبِ البَحْرَ لا يَخْشَى مِنَ الغَرَقِ خاتمة: رأينا من خلال عرضنا لحالات كثيرة من التغزل في قصائد لشعراء من عصور مختلفة، أن الشاعر قد يخدعنا؛ فنظنه يوجه غزله إلى امرأة بعينها، ويُحمّل غزله إعجابه وحبه لتلك المرأة. ولكنه في الحقيقة يجعل من هذا الغزل وسيلة للتأثير في المتلقي، وأداة للتعبير عن عالمه الداخلي أو الخارجي. فليس من هدف الشاعر في النهاية غير تجويد عمله، من خلال التعبير عن همومه وأحزانه، وعما يجرى في محيطه. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 08-11-2024 09:01 مساء
الزوار: 80 التعليقات: 0
|