د. راشد عيسى أعرف أدب هزاع البراري منذ روايته الأولى «الجبل الخالد»، الذي يصوّر فيها زهد العظماء، وموقفهم المتصوف من الدنيا الغرورة والمدن التي تسلب براءة الحياة. ثم توالت رواياته التي قرأتها جميعًا فوقفتُ على مصادر الملاعب السردية عنده، يزاد على ذلك ما أنسته من استشرافات في أعماله من القصص القصيرة والمسرحيات. وحال قرأت هذه الرواية أطلت على ذاكرتي روايته «حواء مرة أخرى»، حيث استطاع فيها أن يقدم أحداثًا تجري في العالم الغربي مع أن أبطالها عرب. ونجح في أن يُبطل مفعول السؤال التطفلي [كيف لروائي أن ينجح في كتابة روايته عن مكان لا يعرفه ولم يعش فيه. في هذه الرواية يؤكد البراري نجاحه في اختراق هذا السؤال عبر ثيمات مهمة من الرواية التي تدور بعض أحداثها في ألمانيا أو لبنان أو الأردن مثلًا. أتوقف عند العنوان قليلًا لأقول: جمع عنوان الرواية اسمين لبحرين شهيرين هما: البحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط. ولهذا الجمع دلالته الرئيسة وهي أن الأحداث تدور حول حوض البحر الأبيض المتوسط، ولكن كلمة الأسود لا تعود بالضرورة إلى البحر الأسود المعروف، إنما للآلام السوداء التي حملها أبطالها من بعض دول البحر الأبيض، وهي آلام متتالية يتناسل أحدهما من الآخر في شبكة عميقة من التعالقات، بحيث بدت الرواية كأنها مجموعة سرديات لأشخاص مختلفين رجالًا ونساءً، وبالتالي فهي مجموعة روايات مؤلفة من حزم صغيرة من القصص القصيرة التي عاشها الأبطال الرواة. فكأن الراوي العالم شاهد وسمع ورأى واستبصر فأراد كشف المكنون من المتواريات النفسية والاجتماعية والسياسية لتعرية المسبب الأول لهذه الآلام وهو سوء طالع البحر الأبيض المتوسط، وهو سوء جيوجرافي أنثروبولوجي انعكس على حظوظ من يعيشون حوله. فهو بحر يتوسط الكرة الأرضية في الشرق الأوسط الذي كان منذ بدء التكوين حلبة صراع للأديان السماوية الثلاثة، ثم جوهرًا للصراع الجغرافي منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين. الأمر الذي ترتب عليه ميلاد حركات مقاومة تريد استعادة الأرض، وهذه الحركات نفسها تعرضت للتشرذم والذبول والشتات لدرجة أن بعض أعضائها وهو أحد شخوص الرواية رحل إلى ألمانيا وكوّن أسرة يتواشج بعض أفرادها مع أشقائهم وأقاربهم في الشرق الأوسط. فترحل بنا الأحداث في دول عدة عربية وغير عربية لتكشف عن مأساة الشتات الأسري، وعمق تراجيديا المواقف السياسية التي أثّرت في العلاقات الإنسانية العاطفية حبًا وكراهية، واقترابًا وابتعادًا، واستغرابًا واندهاشًا من أخلاق هذه الحياة التي تدور في حوض البحر المتوسط، ولا سيما منذ خمسين سنة (حركات المقاومة، وحرب لبنان، والربيع العربي، والتجمعات الطائفية والمذهبية، يزاد على ذلك تصارع الحلم الحضاري بين الشرق والغرب). يتأتى المحصول الجمالي في هذه الرواية من تقديمها على صورة سلايدات من الأفلام القصيرة جداً لتتآلف في سياقها الواحد، مثل مجموعة جداول جبلية ألّفت نهرًا كبيرًا يصب في البحر الأبيض المتوسط الذي ظهر في النهاية مجموعة أنهار مريضة ضالة صبت فيه فكونت حوله هذا التجمع السكاني سيء الحظ أو أسْود الطالع. لغة الرواية مهضومة للقارئ العام وللمتلقي الخاص من حيث وصول المغزى وتوهّج سُرّة الحدث في كل موقف سردي مستقل، إلا أنها متوترة جاذبة في الكثير من السياقات، توترًا انفعاليًّا ضروريًّا يبين عن حجم الاغتراب الروحي والنفسي الذي عاشه الشخوص داخل مسارات الأحداث. وقد لامست بعض العبارات لغة الشعر وسماء المجاز وأخاديع الكناية المحبّبة. هذه الرواية رواية تشظي الأحلام الخائبة وتناسخها في نفوس الشخوص تناسخًا مطردًا. وعليه، فإنني أرى «البحر الأسود المتوسط» رواية ذكية جعلت الجغرافيا نادلة في مقهى حزين، وجعلت التاريخ فارسًا يأكل سيفه إذا جاع وحين يفشل يحوّله إلى وردة للسلام والمحبّة. فالتاريخ القديم لهذا الحوض سيء السمعة فانعكس على التاريخ المعاصر، حيث ضياع الهوية وانهيار الثوابت وانصياع القيم الأصلية إلى مطالب القيم السياسية النفعية الجديدة. إنها رواية (التيه) الذي عاشه ربان سفينةٍ فرغَ وقودها فتناوشتها الرياح المجنونة، والأمواج الحقودة الطامعة وهي في طريقها إلى ميناء مجهول، ربما يكون في السماء وليس في الأرض. تمتاز الرواية بقدرتها العالية على جذب القارئ لإقامة جسور مترابطة بين الأحداث، بمعنى أنها تحترم ذكاءه ليعيد ترتيب الأحداث ويقف على المغازي المتواربة خلفها. فهي عمل أدبي جدير باستحقاق الاحترام الإبداعي والتقدير الفني، لأن الأدب في نهاية الأمر هو عرض فني لغوي ماكر مفتوح على التأويل والتخمين واستشارة عقل القلب وقلب العقل معًا. والأهم من ذلك كله أنها رواية لا تستند إلى تناص مع رواية سابقة، فقدتجاوزت النمطية المستهلكة في الروايات التاريخية والاجتماعية والسياسية. ومزجت غربة المكان باغتراب الإنسان واقعاً وحلماً. فهي لا تُعاتب ولا تُدين تاركة للقارئ فرصة الاستبصار المعرفي والفلسفي بأخلاق الحياة وبتقلبات الوجود وبأحوال العالم العربي في سبعين سنة خلت بحيث ظهر الوطن العربي آيلاً للانهيار الوشيك مع عواصف المحو الذي يلاحقه. لكأن الأمة العربية شجرة تتداعى للجفاف وللخريف المبكر أو هي الآن أشبه بنهر ضيَّع مجراه. ومن هنا تكتسب هذه الرواية مكرمة فنية عالية في أنها أدب تحذيري مسؤول يعرض نماذج من الآلام ليجيب عن أسئلة الآمال.