|
عرار:
مهدي نصير استمتعتُ بقراءة رواية الروائي والقاص والباحث المبدع يحيى القيسي «بابُ الحَيرة» والصادرة بطبعتها الأولى عام 2006 وبطبعتها الثانية عام 2024 والواقعة في مائةٍ وعشرين صفحة، والذي زاد شغفي بقراءتها هو معرفتي بجغرافيا الرواية وأماكنها وبمعرفتي الجيدة باللهجة التونسية التي كانت منبثَّةً في أرجاء هذه الرواية. هذه الرواية هي الرواية الأولى ليحيى القيسي وتنقسم في هيكلها إلى قسمين : الأول ويستغرق ثلثي الرواية تقريباً وتدور أحداثه وتذكاراته حول ومن وفي حياة الراوي والشاب الأردني قيس حوران الذي يدرس في تونس العاصمة ويتعرف هناك على شخصيتين نسائيتين تونسيتين في بداية تسعينيات القرن الماضي وهما على الترتيب سعيدة القابسي التي تدرس الفلسفة في جامعة تونس والمتمردة على العادات والتقاليد والتي تشكل جزءاً من شخصية قيس حوران في تونس، وتشكل ذاكرته التي يستدعيها منذ طفولته في شمال الأردن والحروب التي مرت على فلسطين والأردن عام 1948 وعام 1967 والتغيرات التي طرأت على الأردن وعلى عائلة الراوي واستشهاد أخيه وذهاب أخيه الآخر ناصر مع الثورة الفلسطينية إلى لبنان وذكريات قيس حوران في تفاصيل خدمة العلم والتدريب العسكري وأجواء هذا التدريب التي جسّدت لمن خدموا خدمة العلم العسكرية صورةً حقيقيةً لهذه الخدمة وتفاصيلها وشكَّلت جزءً مهماً من سرد هذه الرواية، شكَّل هذا الجانبان الطفولة والشباب الأول في بلده الأردن وحياته الجديدة في تونس جوهرَ الجزء الاول من هذه الرواية، أما الشخصية النسائية الثانية فهي هادية الزاهري التي ستشكِّل محوراً هاماً في قصة قيس حوران وتحولاته وغيبوباته الصوفية المتكررة. الراوي في جزئيْ الرواية هو قيس حوران وان شاركت الرواية عبره او من خلاله الكتابة التي كانت تكتبها سعيدة القابسي وهادية الزاهري الأندلسية الجذور، قام بناء وهيكل الرواية على الانخطاف والانبهار بمخطوطٍ عربيٍّ صوفيٍّ قديم، وهناك إيحاءات في الرواية تؤشِّر إلى ان المخطوط ربما كان ليس صوفياً وربما كان من مخطوطات التيفاشي او النفزاوي، يغرق قيس بإيحاء وتشجيع من هادية الزاهري بهذيانات وعوالم هذا المخطوط الآسر كما يصفه قيس، في هوامش ومتن الرواية يسيطر على جانب كبير من ذكريات الراوي في تونس أجواء شارع الحبيب بورقيبة وباب سويقة وسيدي بو سعيد وقوس النصر وسوق النحاسين وتمثال ابن خلدون ومترو الشاطئ، ويبرز نهج سيدي عبد الله قِش المرتبط بصورة او بأخرى بمخطوطات التيفاشي والنفزاوي التراثية الجريئة في تناول الجسد والجنس والتي أخذ منها قيس حوران بعضَ تجاربه وأخذ بعض وصفاتها لتقوية الباه وذكرها ببعض التفصيل في متن الرواية، هذه الرواية فعلاً باب الحيرة والشك والإلحاد الممزوج بالتصوف، كنا نقرأ مع قيس حوران في هذياناته مقولات لابن الراوندي وقام قيس بتضمين مقاطع من مقولاته الإلحادية، وتحرَّك الراوي في مناخات المسكوت عنه جنسياً وفقهياً في مخطوطات التراث العربي، كل هذه الهذيانات والكتب والمخطوطات كانت المادة الأساسية في حوار قيس حوران وصديقه التونسي الطيب بن محمود وصديقتيه سعيدة القابسي التي رحلت إلى باريس هرباً وبحثاً عن عالمٍ آخر يُخرجها من انكساراتها وقلقها العميق وهادية الزاهري التي قادته إلى المخطوطات المسكوت عنها في تراثنا العربيِّ والإسلامي. كأن قيس حوران كان يبحث عن معراجٍ صوفيٍّ أو مقامٍ أو معرفةٍ صوفيةٍ تُرمِّمُ بعضَ أسئلته الغامضة والتي كانت تغوص عميقاً في طفولته وشبابه، هذا البحث الصوفيِّ سيطر على هذيانات الراوي وكتاباته وبحثه عن شيءٍ غامضٍ يُنقذه. في الجزء الثاني من الرواية والذي سمَّاه المؤلف « مدارات الحيرة « يواصل قيس حوران هذا النشيج عبر ذكرياته المشتركة مع هادية الزاهري التي تصبح في هذا الجزء دليلَ قيس لعوالم المعراج الصوفي عوالم المتصوفة الكبار كالحلاج وابن عربي ودانتي الفلورنسي، وشكَّلت هادية الزاهري الأندلسية الوجع والجذور دليلاً ومرشداً وصورةً من صور باتريشيا دانتي في كوميدياه الإلهية. تنتهي الرواية بسؤال قيس اللايقيني وبعد مروره بغيبوبته الصوفية بكلِّ ابواب المعرفة المائة مع دليلته هادية الزاهري: وماذا بعد؟ انه سؤال هذه الرواية الصوفي الجوهري والذي يحمل بعضاً من السؤال المعرفي الفلسفي العميق: هل هناك معرفةٌ حدسيةٌ عرفانيةٌ لها طريقٌ معرفيٌّ غيرُ طريق العقل ؟؟ لم تُجب هذه الرواية على هذا السؤال وبقي معراجُ قيس حوران معراجاً صوفياً هذيانياً حُلُمياً يمتزجُ فيه الواقع بكلِّ قسوته وتحدياته بالبحثِ عن خلاصٍ صوفيٍّ يؤجِّل المواجهة مع الواقع الفنتازي والسريالي القاسي الذي يعيشه المثقف العربي والإنسان العربي عموماً في بحثه عن هويةٍ لوجوده. لغة هذه الرواية كانت لغةً فصيحةً عاليةً وغير متكلفةِ وخالطها كثيرٌ من اللهجة التونسية المحببة والتي تحدثت بها الشخصيات التونسية في هذا العمل: الطيب بن محمود وسعيدة القابسي وهادية الزاهري. في روايته الاستكمالية الثانية في هذه القراءة «بعد الحياة بخطوة» يولد قيس حوران مرَّةً أخرى في بيئته وقريته في شمال الأردن ويواصل رحلةَ بحثه عبر رحلةٍ فيزيائيةٍ – كما يقول ويصف الراوي الرئيس في هذه الرواية وسأسميه أيضاً قيس حوران – تأخذ من بعض العلوم الروحانية الغربية المعاصرة بعض أدواتها ويمزجها الراوي مع بعض المعارف الصوفية المعراجية التراثية في محاولةٍ للإجابة على أسئلة قيس حوران والتي حاول أن يجيب عليها عبر التصوف والهذيان في « باب الحَيْرة « لينتقل هنا إلى تجربة الاقتراب الفيزيائي من تجربة الموت وغيبوبته، قيس حوران هنا معلم لغة عربية في إحدى قرى الشمال الأردني يُصاب بجلطةٍ قلبيةٍ ويعيش شهراً في غيبوبةٍ على الأجهزة في المستشفى ويتخيَّلُ في هذه الغيبوبة الفيزيائية عوالم ما بعد الموت والتي طاف بنا مع مرشده جدَّهِ لأمه الشيخ علي ومرشدته أختِه مريم وأمِّه وصديقه وأحد أقاربه الراحلين في عوالم: الممر وهو مكان الحساب الأول ليتم تحديد هل روح القادم الجديد روحٌ طيبةٌ أم شريرة حيث تذهب الروح الطيبة إلى «المستقر» أو الجنة الأولى التي هي عالمٌ من الطيبين وذوي الأخلاق في الحياة الدنيا والذين يواصلون حياتهم وعملهم في هذا المستقر، وهنا نقرأ تدخل المؤلف في موقفٍ أخلاقيٍّ لبعض الدجل الديني والتحريمات الدينية المتعصبة والتي تصف عالم الممر والمستقر والحضيض بأوصافٍ لا تليق بربٍّ عظيمٍ رحيم، فنراه يجعل أم كلثوم في جنة المستقر والكثير من الفنانين والمفكرين الذين تم تكفيرهم من غلاة المتعصبين، في المقابل يرينا أن كثيراً من الذين نظنهم مؤمنين وصالحين كانوا كذبةً ويقضون ما بعد حياتهم في عالم الحضيض (الجحيم) الذي لا يوجد فيه لا نارٌ ولا أفاعٍ ولا عقاربُ عملاقةٌ ولا ولا كلُّ هذا الدجل الذي لم يرد عليه نصوصٌ دينيةٌ متواترة، حيث يرى الراوي أن عقوبات هؤلاء الفاسدين كانت عقوباتٍ نفسيةً لا جسدية. في استلهامٍ صوفيٍّ يُشير الراوي إلى عوالم نورانيةٍ أعلى من المستقر كأرض الأنوار وأرض المُشتهى، كلُّ هذا يدور في الجزء الأول من هذه الرواية وهو عالم الاقتراب من الموت الفيزيائي والذي يعود منه الراوي ويصحو من غيبوبته ليروي قصَّته للناس وأن هناكَ عالَماً آخر جميلاً وقريباً وأن الموت هو انتقالٌ من عالمٍ إلى عالمٍ أكثرَ جمالاً من عالمنا للأتقياء والأنقياء والطيبين وذوي الأخلاق وعالمٍ أكثرَ قبحاً للفاسدين والمستبدين والمنافقين والمجرمين والسفلة، هنا يدخل الراوي – الروائي - في عالمِ وعظٍ أخلاقيٍّ يُمثِّل الأخلاق الدينية العليا الحقيقية وليست الأخلاق الشكلية الصوتية واللغوية الكاذبة التي عبث بها الفقهاء المزورون والطارئون والدجَّالونَ والتافهون. في هذه الرواية وفي الجزء الأول منها في غيبوبته الأولى يستعرضُ الراوي بكلماتٍ مفتاحيةٍ تؤشر لمراحل من حياة الراوي منذ صرخة ولادته وطفولته ومدرسته ونمط حياة عائلته وإخوته وأمه وأبيه ووفاة أخته مريم ووفاة أمِّه ودراسته الجامعية وزواجه وأولاده والكتب التي قراها والمسلسلات التي كانت في تلك الأيام – سبعينيات القرن الماضي – والأغاني وحرب 67 وناشد أخوان والكعكبان وشرق المتوسط وميرامار وإحسان عبد القدوس و...، إنه شريط حياة الراوي منذ صرخته الأولى حتى دخوله الغيبوبة الأولى، وفي هذا السرد الذي احتلَّ أكثر من خمسَ عشرة صفحة توثيقٌ عميق لنمط حياة الناس في الريف الأردني في تلك الفترة الهامة من حياة مجتمعنا الأردني وحركته وتحولاته. في الجزء الثاني من الرواية والذي يمثل عودته من الغيبوبة الأولى ومحاولته نشر المعارف التي حصل عليها في تجربة الاقتراب من الموت ويحاول الراوي أن يعطيها معنىً علمياً فيزيائياً عبر تأليفه لكتاب عن تجربته أسماه « كتاب الرؤى والأسرار « وفيه رؤىً أخلاقيةً مستنيرةً، يذهب الراوي أبعد في الانضمام لمجموعةٍ روحانيةٍ تُعنى بخبرة الاقتراب من الموت حيث يروي كلٌّ من هؤلاء المنضمين لهذه المجموعة تجربته مع الموت وما بعده، كانت تجربة صديقته مايا الصحفية ومحاولتها الوصول لعوالم ما بعد الحياة بخطوة عبر المخدرات وموتها بجرعةٍ زائدةٍ من هذه المخدرات تجربةً قاسيةً له جعلته ينعزل عن هذه المجموعة ويقع في غيبوبةٍ ثانيةٍ قادته للموت الكامل وعبَّر عنها عبر شريطٍ من الكلمات المفتاحية أيضاً والتي عادت باتجاهٍ معاكسٍ للغيبوبة الأولى ولكنها لم تُقدِّم جديداً للسرد الأول الذهني المرتبط بغيبوبةٍ فيزيائيةٍ، ربما ويمكن أن يرافق هذه الغيبوبة الفيزيائية سيكولوجياً أحلاماً عنيفةً وقاسيةً وترتبط بهواجس ومناخات وفكر وثقافة وأسئلة الذي يدخل هذه التجربة الفيزيائية!. الرحلة والغيبوبة الصوفية والفيزيائية في «باب الحيرة» و»بعد الحياة بخطوة» كانت رحلةً في التراث الصوفي ومخطوطاته وفي العلوم الروحانية المعاصرة وما راكمته من مشاهدات وكتبٍ معظمها غربيٌّ ينتمي لما تمَّ تسميته اختصاراً « NDE « وهي محاولةٌ لعقلنة عالم ما بعد الحياة، هي رحلةٌ سار بمثلها الكثير من المتصوفين والكثير من الروائيين كلٌّ سار باتجاهٍ وركَّز على قضايا ذات اتصالٍ بحياتنا ومشاكلنا وأخلاقنا على هذه الأرض وكيف نتغلب عليها ونتجاوز كأمم وشعوب السقوط في متاهات التعصب والبغض والدونية، ووصفت الكثير من هذه الرحلات والغيبوبات تعصب الكثير من الذين يدَّعون الأخلاق واحتكار الدين والسياسة وهم ليسوا أكثرَ من جهلةٍ دجَّالين لا يفقهون عمق مغازي الأخلاق العظيمة التي هي جوهر كلِّ الأديان ومعنى عميقاً لكلِّ الحضارات البشرية، هذه الرواية ربما كان المغزى العميق لها مغزىً أخلاقياً لتكون حياتنا على هذه الأرض أجملَ وأنقى. جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 06-12-2024 08:08 مساء
الزوار: 274 التعليقات: 0
|