تفاجأت، وأنا أهم بالكتابة على ديوان محمد لافي التاسع (غيم على قافية الوحيد)، بعثوري على بعض الملاحظات السريعة، التي كنت قد سجلتها على هامش ديوانه: (... ويقول الرصيف)، الصادر عام 2010م في حينه. ويبدو أن عنوان مجموعته الشعرية الجديدة، وكذلك معظم عناوين مجموعاته الأخرى تتفتق عن تأويلات مدهشة، تتنازعها مقاصد غفيرة، هو ما أوحى إليّ، واستثار ذاكرتي للعودة إلى ما سبق ودونته حول عنوان ديوان (... ويقول الرصيف)، التي ورد فيها بعض التأملات حول تفسير أو تأويل العنوان، تمثَّلت كما يلي: إن سر وقوع هذه الواو بعد نقطتين متجاورتين ومتتاليتين، هو للتأشير على أنها امتداد متماثل أو مفارق لما قبلها، ينطوي على محمولات خفية أو علنية تستحق النظر والمراجعة، وأن للرصيف (الجمهور) قولاً آخر مستبطن في جوهر الأحداث. الواو هنا ليست للعطف فقط، وإنما هي استدراكية بمعنى ولكن، ولكن للجمهور العريض رأياً آخر فيما نقول وسبق أن قلناه. ولتوضيح هذا المعنى تم الاستعانة بقول عباس حسن في (النحو الوافي)، وهو أن (الاستدراك يقتضي أن يكون ما بعد أداته مخالفاً لما قبلها في حكمه المعنوي)، الجزء الثالث (ص617). وثمة تفصيلات أخرى حول الواو، من ذلك أن المعنى بعد الواو مصاحب في تحققه وحصوله لمعنى ما قبله، وقد يكون زمن التحقق واحداً، لإزالة الالتباس أو الأوهام المترتبة على أي فهم مغاير، أو تفسير مجافٍ للمقصود. هذا يعني أن ثمة منطقاً سحرياً داخلياً، يبني جسور التواصل بين كل قصيدة وأخرى، وبين كل عمل وآخر، بحيث تتجلى أعمال لافي الإبداعية كلها متسقة وموحدة، ومترابطة في إطار أفق فسيح، ورؤية كاشفة، وتمثُل وتشخُص كنسيج متناغم مرصوف في منظومة متماسكة، تتوالف في خيط مشترك، وتستظل بمنطق البحث الفني الصارم، المُعبّر عن وحدة الطرق السالكة لتطور الروح الإنسانية، واستجلاء طموحات الإنسان الفلسطيني المضيّع في سديم العدم، مع أن هذا الضياع لم يفقده الأمل بالإنسان، ولا بضرورة تحري مصائر أصحاب القضية، وظلت ثيمة أشعاره تشتعل ولا تخفت من ديوان لآخر، وتنوس ببطء، ولا تتعالى لتتحول إلى مجرد وعظ أو دعاية ، وتتزيّن كل مرة بطيوب أخرى منعشة، وترتدي أزياء مختلفة يتبدى فيها اللحن أبلغ زخماً وصراحة ــ حيث يبلغ الاحتجاج ذروته... وتنبثق من دخان الحزن واعتصار الألم بوارق أمل، تتدرج إلى مرتبة الانفجار، وذلك لحدة وقع المأساة، التي أحاقت بأهله وشعبه، وقضت على مستقبلهم، ودمرت كل شيء جميل في حياتهم، وأظلمت مسالك عيشه نفسه، ونغصّت مجرى حياته. يأتي ديوان محمد لافي (غيم على قافية الوحيد) تتويجاً لمسيرته الإبداعية في عالم الشعر، وخلاصة لمسيرته العاصفة في دروب الحياة، وامتداداً لدواوينه السابقة التي استنطقت معالم الواقع، وراوغت لتقديم لوحة صادقة ومعقدة للعالم المحيط؛ الذي يصعب تذليله والإلمام به، وفض تناقضاته وسبر أغواره، واستشفاف طيشه وانغلاقاته، إلا إذا احتمى الشاعر بمخزون لفظي هائل مستمد من ثراء معجمه اللغوي الفسيح، الذي يتيح له أن يجسد صورة مماثلة لهذا العالم، ويقتضي من القارئ، والأولى من الناقد، أن يفصح عن خصوصية هذه اللغة إذا أراد أن ينبري لقراءة المنتج الإبداعي، وتقييم مضمونه الفني وقيمته الفنية. وأول ما يجذبك ــ كما ذكرت أعلاه ــ هو العنوان: درج العمر أخضر، أفتح باباً للغزالة، مقفى بالرّماة، وأخيراً (غيم على قافية الوحيد). هذه ليست مجرد مفردات متلاحقة بلا قصد، إنها أدوات بناء في سيرورة إنشاء العمل الفني، مستمدة من معجم اللغة القومية، لكنها لغة الشاعر، وأقواله الخاصة به، يرصفها كلمة كلمة ليجدل منها صوراً فنية حية، تشير إلى نهجه الخاص للإحاطة بالواقع والاستغراق في صميم الحياة. وهي هنا في مواقعها معبرة، مرنة تحتمل مدلولات متشعبة وتحتاج إلى فيض من التأمل والتفكير لبلوغ مقصدها، وكشف الغطاء عن محمولاتها. وهذا يعني أن الصورة الفنية لا تقوم إلا إذا استطاع الشاعر أن ينظم الكلمات ببراعة وبترابط متين ذي أهمية ومغزى، يعبر عن قصده وعن المضمون الفعلي للصورة الفنية المتوخاة، التي تفوح بعبق الجدَّة، واستنفار المعلومة المستحدثة؛ مما يلفت النظر إلى ضرورة شرح خصوصية لغة الشاعر وتأويلها، لأن مضمون أقواله يرتكز إلى معنى الكلمات المنفردة، وتشعيب دلالاتها، التي تتناسل جراء سبك هذه المفردات، وتعشيق أواصرها في وشيجة محددة لغرض مقصود. كل حركة في هذا الكلام ذات مغزى وأهمية ــ النظام، تتابع الكلمات، أو الانزياح عن النظم العادية، وطرق دمج المفردات وفق مبدأ اتساع المنطق، أو وفق التناقضات المتباينة، واستجلاب الأقوال المباشرة أو التجوزية غير المباشرة وما شابه ذلك. لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن الفكرة المكتوية تتطلب لاستكمال غرضها ومدلولها إلى بنى تركيبية معقدة، ودائرة واسعة من المفردات، وإلى قارئ نابه يتغلب على صعوبات القراءة، ويشارك الشاعر مكابداته ومعاناته، ومن دون ذلك يبقى الشعر سطوراً بلا معنى، وتظل تجربته الحياتية ملكاً خاصاً به، وهذا يفقده التواصل مع الجمهور، الذي لم يستطع أن يجاري الشاعر، ويكون طرفاً في الإبداع. وعليه، فإن التلقي جزء لا يتجزأ من الإبداع. عناوين دواوين محمد لافي لا تقتصر على اتساع المعنى وتفريعه، وإنما استحضرها بوعي لتكون أداة صلبة لبيان مدى دهائه في القدرة على دمج المفردات المعبرة ذات السحر الخاص وعدوى التواصل. وقد أتاح له استصفاء هذه الكلمات، ورصفها في مجازات جلاء ما كان غافياً وخافياً من ملامح الظواهر القصية ووظائفها قبل دمجها وتركيبها، لتكون سلاحاً له لتجسيد فكرته في صورة ناصعة، تدفع المتلقي إلى التمعن وتدقيق النظر لبلوغ غاياتها، حيث يشرع في التفسير والتأويل لمحمولات: درج العمر أخضر، أفتح باباً للغزالة، مقفى بالرماة، وأخيراً غيم على قافية الوحيد. وبمساعدة هذه المجازات أسبغ الشاعر على فكرته مزيداً من الوضوح والحضور اللافت، الذي يستدرك من السياق؛ فالتوازي بين غيم وقافية الوحيد مثلاً، عبارة عن تجسير بين صنفين من الظواهر المصطفاة من الطبيعة وعالم العلاقات الإنسانية، أفضى إلى نقل الدلالات بصمت إلى ما تراءى للشاعر، ونكّد عليه عيشه، وضبّب شعره واستجرَّ قوافيه لترسيخ التوازن بين هذه الظواهر: غيم، قافية، وحيد، ومكّنها من إنعاش وحي القارئ واستفزاز وعيه لالتقاط مراميها وغاياتها، التي تتوهج وتسطع عند قراءة قصيدة (غيم) المهداة إلى الأديب والمفكر والمناضل محمود شقير، والتي يختمها لافي بـ(غيم على قافية الوحيد) بعد أن كرر كلمة غيم عشرين مرة، وكل مرة يتلفع الغيم بخساراتنا وسوء مآلاتنا، فالغيم يخيم على جميع الوجوه وعلى كل الآمال والأحلام: غيم رجيم غيم على الراحل والمقيم هكذا، يتكشف سر غمه، وإسقاطه على قافيته مبنى ومعنى لتشخيص القهر الذي يكابده الشاعر، ويستقريه على ملامح الجميع، الراحل والمقيم. التشخيص هنا يرتكز إلى منظومة متكاملة من الوسائل المختلفة: تفاصيل غير عادية، استعارات، تقاليب الكلام، وتحديدات خاصة وغيرها. وكل هذا جاء وفق طبيعة الشعر الغنائي ــ البناء المحكم، والإيقاع الموزون المقفى ــ للقبض على المضمون بقدر كبير من الحيرة والانفعال، واستثارة الأحاسيس، ودفع المتلقي إلى مشاركة الشاعر معاناته والاندماج وإياه. دعنا نلج عالمه الشعري، ونقرأ أول قصيدة في ديوانه، وهي موجهة إلى الفقيدة زوجته، تحت عنوان (انتظار): منذ السابعة صباحاً وأنا في البيت أدور نظفت البيت والصالة و«الكوريدور» ما علق على المكتب من عبث الأمس، وأعددت غداء الطفلين والملكة ما دقت باباً من يومين لم تكسر غيبتها بعدُ قصيدة مكثفة وكأنها بيان عرض حال موجز، اجتبى الشاعر بعض العبارات البسيطة الموحية للتعبير عن أشياء عادية من الواقع، وصقلها ووضعها أمام عدسة مكبرة، فأدى ذلك إلى بث الروح فيها، بعد أن كانت مهملة زرية، لا تستحق التجسيد الفني، تم غزوها واختطافها في حراكها الداخلي، وتجسيرها لتحفيز ملكة الشعر، والقول بأن كلام النثر الجاري يتحول على يد الشاعر اليقظ إلى شعر غير مسبوق، يزول فيه التناقض ما بين الكلام العادي والقول الشعري المنظوم، الذي يستنفر الصوت الموسيقي الإيقاعي، كما هو الحال في أدور والكوريدور، والطفلين ويومين. وهذا مؤشر على قدرة لافي على تحويل الشكل إلى مضمون دالٍ معبر، مفعم بشاعرية لا تقتصر على الجانب الدلالي، وإنما تتعداه إلى الجانب الصوتي، المسمى ميزان الشعر ومعياره، وقابليته للتذكّر جراء استخدامه وسائل الكلام العادي الجاري في الحياة العامة، وإحالته إلى إبداع مختلق يحاكي روح الشعر المتوثب الشامخ، المتماهي مع جوهر الكائنات.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 13-12-2024 09:22 مساء
الزوار: 184 التعليقات: 0