|
عرار:
رفعت زيتون/ القدس هذه هي المرة الأولى التي أتصفّح بها ديواناً للأخ الشاعر عبد الناصر صالح، ومن سوء حظي أنني لم تسعفني الصدف بالحصول على أحد دواوينه، وقد أهداني هذه الفرصة شيخنا وعميد ندوتنا الأسبوعية الشيخ جميل السلحوت، فله عظيم شكري وكثير امتناني. الديوان، ومن صفحته الأولى، يجعلك تشعر أنك أمام شاعر من الصفوف الأولى بلغته وفكره وأسلوبه واشتغاله وبصوره الشعرية واسقاطاته وانزياحاته. فعندما يوظف كل ذلك في بضع سطور فهذا دليل أننا أمام شاعر يعرف ما يريد ويمسك جيدا بحبال البيان. قصيدة «البدوي»، وهي القصيدة الأولى في هذا الديوان، شَعَرْتُها تلخّص كثيراً مما كُتِبَتْ من قصائد، وكأننا اتفقنا على قهر الظلام بسيف الكلمة الصادقة، وجدتُ فيها دعوةٌ للخروج من كل القيود، ولفتح الأبواب على مصراعيها للنور الجديد. يضعنا الشاعر أمام سيل من التساؤلات المباغتة دون انتظار للإجابة، فها هو يبدأ القصيدة بجملة: « لا وقت للعناب كي يشتطّ في النسيان». لا يريد شاعرنا من ذلك البدويّ أن يضيع المزيد من الوقت في التفكير، بل يفتح عينيه على أنصاب الجهل والظلام وأولئك الذين شوّهوا وجه المسيح، ومغول العصر المتمترسين خلف القلاع. واختيار كلمة البدوي كان موفّقًا لمحادثة العربي، فصورة البدوي في كل الأذهان أنه عربيّ. وهذا ابتعاد عن المباشرة في الحديث، وهذا هو شأن شاعرنا في كل ديوانه، فهو يحاكي كل شيء برمز شفيف لطيف غير موغل بالغموض، تاركاً للقارئ كثيراً من مساحات التفكير، ولكنه يسلمه، كذلك، كثيرا من مفاتيح الفهم. تراكيب مُذهلة، وصور بديعة مُتقنة، ولغة بتنا نفقدها هذه الأيام. جاء الشاعر ليقول، بكل ثقة وقوة، أنَّ الشعر ما زال بخير، وأنّ له أهله المدافعين عن أصالته وجماله وسحره، وأنّ هنالك ما زال الكثير مما لذّ وطاب منه. واقف لتوثيق الجمال على بعض جمله ليقرأها من كان لا يعرف شاعرنا، أَنظر هذه الجمل الشعرية التي أقتبس بعضها: «فلأي موت تنتمي كي تبقى النجوم رهينةَ الضوء المراوغ والسماءُ رهينةَ الغربانِ والبرقِ المُزَيّفِ أيُّ موتٍ يصطفيكَ لكي تؤرّخَ للقيامةِ» هنا شعر يحاكي ما قدم لنا الكبار الكبار أمثال محمود درويش. «الخيانة أدمنت لغة الخطاب» «فاحمل صليبك لست موسى كي تشقّ عصاك بحرا « ويكرر السؤال: «فلأي موت تنتمي؟». بعد كل هذا المشهد الأسود من ظلام، جاء شاعرنا لتغيير ما قاله من جاء قبله. فقبله قالوا « تعددت الأسباب والموت واحد» وهو، هنا، يعيد ترتيب الأمور والمسميات ويعطيها تعريفات جديدة، فالموت، في فلسفة شاعرنا، لم يعد واحداً. «أرمم سيرة الشجر المسجى في العراءِ بلا مدائحَ كي يمرَّ دمي وأعيدُ ترتيب الخريطة من بدايتها إلى عام الفجيعة» وما بين «الأسماء حاضرة» و»الأسماء غائبة»، تبقى أسئلة الشاعر تدقّ ناقوس المخاطر كي يصحو البدوي من سباته. ولو سمح لي الشاعر أن أقتبس من ديوانه، فقط، كلمة» البدوي» لأبني عليها معلقة لفعلت مقدّماً له شكري وامتناني. وأذهب إلى قصيدة أخرى وهي قصيدة «حالات البحّار العاشق». قصيدة برائحة الرمل وصوت الموج وألوان الفرح، وحروف ترصد المشهد من كلّ الزوايا وتغوص في أعماق النفس والبحر. التصوير، هنا، يقفز درجات، تماماً كما نبض الشاعر عند اللقاء تحت مظلة العشق، فتكتمل القصيدة ويغني الشاطئ أغنيته: «الشمس تلبسُ تاجَها وتفكّ قيدَ حنينها للبحرِ والأشجارِ مسرعةً تمرّ كخطوتي لتضيء أجنحةَ الحروفِ وغابة الكلمات». هنا الإبداع في وصف اللهفة واللقاء والرغبة، وحتى اختلاس النظرة، يلمع خلف جفون العشق كشمس تداعب سعف النخيل، تظهر وتختبئ خلفها في لحظات. الشاعر، هنا، يعزف لحنه الجميل على وَتَريْن بتناغمٍ قويّ ومدروس، وتر الحروف والكلمات برمزيتها وجمالها، ووتر الطبيعة بسحرها، برمالها وغيومها وشواطئها وشمسها وشجرها. «أذكرها تراقص موجة فتحت ذراعيها كعاشقة أمام البحر» كم هو جميل شاعرنا هنا في سباحته بين الحروف. «أذكرها تجيء بثوبها الريفيّ يعمرُ صدرها ألق الأنوثةِ تستفزّ أيائل الغابات» لقد طغى، هنا، جمال الوصف بأسلوب بليغ بعيد عن الابتذال من القول، وبرمز جميل واستعارات تقول أن لحروف شاعرنا حلاوة طيبة المذاق. لقد تنوعت جُمل شاعرنا بين الخبرية والإنشائية، وكلها وظّفت لرسم اللوحة كاملة بألوانها التي أرادنا الشاعر أن نراها. قصيدة «سلمت يُمناك»: قصيدة خَبَبيّة أدخلتني في حيرة التفسير، للعدد، هنا، دلالات حاولتُ أن أمسك بعض خيوطها، ورحت أضع افتراضات قد تكون صحيحة وقد لا تكون. أربعة أصوات، هل هي مراحل حياة الفلسطيني، مذ كان طفلا من أطفال الحجارة، إلى أن أصبح كهلا حكيما، فكانت الأصوات أجيالاً. أم أنها أربعة ألوان، ولا أدري لماذا تراءى هذا التصور أمام ناظريّ، فربطتها بألوان العلم، فهل كانت كذلك؟ أم أنها أطياف الجرح الفلسطينيّ، بداخله وضفته وغزّته وشَتاته؟ يبقى المعنى في بطن الشاعر ولنا أن نحلق على أجنحة التفسير والتفكير والخيال، وما يهمّنا هو هذا التأريخ والتوثيق لحياة هذا الكائن فوق هذه الأرض، ليثبت أن فوق هذه الأرض ما يستحق الحياة. أما الصوت الخامس، فهو صوت الشاعر وكأنه صوت الراوي في الروايات التي نقرأها، ينظر من كل الزوايا ويتدخل في الشخوص ويحرك الحياة، يرصد الأحداث، يتنبّأ بما سيكون ،وينظر بعين المتبصّر الباحث، ويطرح الواقع أمام القارئ، كما يراه ويتوقعه، محذراً دون تنبيه، فلا يجدر به أن يكون ملقنا كما معلم في مدرسة، بل يجبر القارئ أن يأخذ العبرة وأن يستعد لما هو آت، وهنا لفتة ذكية لما يجب أن يكون عليه الشاعر غير إتقان الوزن والقافية والعروض والنحو، وهذه الشريحة من الشعراء نادرة نادرة. وهنا، ربما، أسأل الشاعر عن جملتهِ «أعددتَ لهم ما اسطَعْتَ» فلو قال استطعت لما استقام وزن الخَبَب هنا في كلمة استطعت. القصيدة أخذت طابع الحركة المكثفة باستخدام أفعال متلاحقة (سلمت، تهزّ، تطارد، تشعل، تبقى،تكبر، ترسم، يفوح، تحفظ، تتقن، ....). من جهة أخرى، تعددت في الديوان قصائد الإخوانيات ،وفاءً لرموز تستحق أن تخلد في الكتب، فكانت قصيدة (لم يبتعد صوتك المشتهى) وفاءً لفدوى طوقان، وقصيدة (وجه الغزالة.. ماسُ جدائلها) إلى فارس عودة، وقصيدة (يزهو بقامته) إلى عزت الغزاوي، وقصيدة (طيور الفينيق) إلى كفر قاسم، وقد اخترت القصيدة الأولى للحديث، بشكل موجز، عنها لأكثر من سبب، أحدها أسلوب الشاعر وتلك الصور التي تخللت القصيدة وسبب آخر هو الوفاء والتقدير للكبيرة فدوى طوقان. قصيدة «لم يبتعد صوتك المشتهى» وقد جاءت على تفعيلة المتقارب. تشفّ القصيدة عن حزن بعمق البحر، وحبّ بحجم الكون، ووفاء يجعل الدنيا أكثر جمالا. فهي بكائية، بامتياز، على ما جاء فيها من جمال وبلاغة وصور. «وحدك الآن... لا لستِ وحدك» حوار لطيف مع روح الشاعرة كأنه يربت على كتفها مهدّئا روعها أنّ قلوب الكثيرين معك. «لا لستِ وحدك، تفتتحين البياض على أفق يتراوح بين بكاءين» وهل الحياة غير هذا الأفق الضّيق بين بكاء البداية وبكاء النهاية؟ ثم انتقال إلى الضفة الأخرى «خلف الجدار خطى الراحلين»، وبعد هذا النفي القسريّ « من سيجهز للموت أغنيته»، هو الأسود المتأهب دائما، يجلس القرفصاء على بعد ثانية من الزمن لتكون المباغتة. الشاعر لم يجعل البشر يبكونها بل أنسن الجبل، وبثّ الرّوح في الكلمات، «ومن سيهدهد وجنة جرزيم؟» «ومن سيحرر الأبجدية من صدأ الكلمات؟» وهنا لفتة ذكية لدور الشاعرة وإبداعها، ودورها في تحرير الأبجدية من الصدأ ومن الابتذال والتقوقع. وتتلاحق صور الموقف العصيب برمزية اتخذت أبعادا أخرى، وارتفعت وتيرتها أكثر من القصائد السابقة، وربما كان هذا الارتقاء ضرورياً لرقيّ صاحبة الذكرى. «الصدى ممعن في الأفول فهلاّ نفضّتِ عن الثوب خيط الأفول» وأتساءل، حقيقة، من يتقن بثّ هذا الحزن بكلّ هذا الجمال وسحر البيان؟ فالصورة، هنا، مذهلة ومتقنة غاية الإتقان. ثم تنفجر الأسئلة على ثغر الشاعر، بعد سلسلة مُسلّمات تقوم عليها حياتنا ونفعلها في وداع الراحلين: «أيّ رذاذ يغذّي أصابعنا ثمّ يثمر معجزة بعد سبع شموس وموت؟» فهل، فعلا، هذه الحياة عبثية إذا كانت كل النهايات تمرّ في ذات الطريق؟ «فمن يفتح الآن باب الصباح على الأسئلة؟» لكنه يعود ليقول أن مفارقة الأجساد لا تعني النهاية، فهناك من يتحولون إلى شيء آخر جميل، هناك من يصبح عطراً كلما تذكرناه وأغنية كلما مرّ طيفه، «لم يبتعد صوتك المشتهى عند مفترق العمر»، كأنه يرفض فكرة الموت، لم يبتعد صوتها فهي حيّة ما زالت، ولكن، في المقابل، يأتي الإقرار، فالحزن لا يكون إلا على من رحل «لم أبتعد عند حزني». ثم تأتي ساعة العودة إلى الذات، ويعود بنا الشريط لرؤية الحكاية من جديد تدور كأنها فيلم سينمائيّ في أذهاننا، نحاول، عندها، أن نكتب قصيدة فهل تكون القصيدة؟ «كنت أزخرف غيم البدايات وحدي فيرتجّ ماء يمرر فوق التراب عيون تراتيله كنت وحدي» هنا مفارقة عجيبة أن الشاعر لا يريدها وحيدة ،وهي، حقيقة، وحيدة، ثم تلقي الوحدة بظلالها عليه، فيصبح هو الوحيد رغم أنه بين الجميع. «وحدك الآن يزهو بعينيك ما تشتهيه الفراشة من ألفة الضوء» ما أجمل ما ألقى علينا الشاعر هنا من صور. ثم ينهي الشاعر قصيدته بفكرة مفادها أنّ أجساد الشعراء تموت ولكن تبقى كلماتهم حيّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أما قصيدة العنوان لهذا الديوان (مدائن الحضور والغياب) فقد جاءت على تفعيلة الكامل، وقد تجلّت قدرة الكاتب فيها على وصف المواقف الأشد عنفا على النفوس. يقول الشاعر: «ستجيء ذاكرة ونعبر ضفّة أخرى الى جهة البنفسج سوف نعبر مثقلين بجرحنا المنسيّ صوب البحر» في لحظة التوقف ثم السير بعكس عقارب الساعة للعودة إلى الفكرة الأولى، في تلك اللحظة يتعاظم «المدى الثلجيّ»، وتجهض ببرودته الشمس، عندها لا جدوى من البكاء. في تلك اللحظة الرهيبة الكئيبة تتهاوى المدن، ويجفّ الحبر،»وتفقد عباءتها الفصول». صور متلاحقة للغياب يسترسل بها الشاعر للأفول والمفارقة. «وقف الكلام على أصابعه»، «وانجلت طرق مُغَلَّقةٌ». إنها لحظات الانفتاح على البياض، حيث لا حجاب يسدّ الرؤية للعالم المخفيّ، فتنكشف طرق ما كانت جليّة من قبل، ويسقط القلم من يد الشاعر قبل انتهاء القصيدة، وتُفتح الأجفان على مدن وقيود وغربة وسواتر بشرية لا تكتسي باللحم. وعندها كما يقول الشاعر «لا مفرّ من الدجى»، ويكون العدم سيّدَ الأشياء. يتجلى الشاعر بين هذه السطور، ويتألق في تصويره بلغة تحاكي المواقف دون الاقتراب منها أو التعرض لها مباشرة، ودون إيغال بالرمز، وهذه حنكة لا يتقنها كثيرون. ولتبيان ذلك أعود إلى النصّ وأقتبس جملة «عمّا قريبٍ سوف يدركنا الحصى» فانظر كيف يختصر الشاعر تجربة الحياة والموت في بضع كلمات يرسم بها الحتمية النهائية لكل شيء، دون الحديث لا عن حياة ولا عن موت، وهذا ما قصدته بمحاكاة الموقف دون التعرض له مباشرة. «يبدأ الإعصار رحلته وتختبئ الحروف»، لوحة أخرى لتكتمل المشاهد. ويقول مستسلما للحقيقة التي لا بدّ منها: «كأني كلما احترق الهواء على النوافذ أستجير بغيمة عرجاء تسقي ما تناثر من شظايانا وترفو ناينا المهدور» ثم يسأل متعجبا ممن لا يزالون يتعلقون بحبال الأمل الزائف «هل لا زلت مشدوها بحلمٍ زائف؟» هذه قصيدة تستحق أن تحمل عنوان الديوان، وهي قصيدة تنافس، بصياغتها ومحتواها وتراكيبها وصياغتها وسحر بيانها ،قصائد كبار الشعراء. خلاصة القول أنني منذ زمن لم أقرأ شعرا بهذا المستوى وهذا الإتقان وهذه الحِرَفيّة العالية. ديوان»مدائن الحضور والغياب « احتوى على الكثير من الفكر، والرؤى والشعر الإبداعيّ. الألفاظ كانت جزلة قوية لا ركاكة فيها، ووحدة موضوعية تقرأها من أول سطر وحتى آخر شهقة في القصيدة. الرمز عالي المستوى دون تعقيد أو غموض، مع ترك مفاتيح للقارئ للفهم. لم أجد تكرارا في المعاني والجمل والكلمات إلا القليل. الديوان يكاد يخلو من الأخطاء النحوية والعروضية إلا من موضع واحد قد أشرت إليه ولعلي أكون مخطئا أمام هذا الشاعر الفذّ. هناك تنوّع في بحور الشعر، أو تحديدا تفعيلاته كالكامل والمتقارب والخبب وغيرها. الإبداع والتجديد كانا واضحين في الجمل الشعرية والتراكيب والصور. وخلاصة الخلاصة أنني أمام ديوانٍ كبير لشاعرٍ كبير. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 06-12-2024 07:57 مساء
الزوار: 107 التعليقات: 0
|