لكنّها غير مُتاحة في الواقع، بسبب من هيمنة المنظومة الذكوريّة! نقول غادرت " سعيد " الخطاب الأنثويّ ــ إذن ــ نحو الانشغال بالشأن العام!

فعلى امتداد البلدان المُخلّفة، التي سيُصطلح عليها بالعالم الثالث، كانت العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة مُرتبكة، لأنّها لم تكن تحتكم إلى العقد الاجتماعيّ الذي قال به " جان جاك روسو "، وعليه فإنّ جموع البشر تُشكّل قطيعاً من الأنعام في ظلّ هكذا علاقة، بينما يقوم الحاكم بدور الراعي، فإذا نفرت نعجة عن القطيع، كانت العصا حاضرة لتُعيدها إلى الحظيرة، أي إلى خانة الولاء والطاعة!

بهذا المعنى، وعلى امتداد الوطن العربيّ – بعدِّه جزءاً من العالم الثالث ــ سيظهر تيّار عريض تحت عنوان أدب السجون، وإلى هذا التيّارــ على سبيل المثال ــ سينتمي إنجاز الــ : د . " شريف حتاته " في ثلاثيّته " العين ذات الجفن المعدنيّة "، وإليه ستنتمي روايتا الــ : د . "عبد الرحمن منيف " " شرق المُتوسّط " و " الآن هنا، شرق المُتوسّط مرّة أخرى "، وإليه سيؤول اشتغال الــ : د . " رفعت السعيد " في " البصقة " و " السكن في الأدوار العليا "، و " نبيل سليمان " في " السجن "، والقائمة تطول، وعلى هذه القائمة ــ أيضاً ــ ستتوضّع قصّة " وجيهة عبد الرحمن سعيد "، فكيف اشتغلت " سعيد " على الفنّي في متنها!؟

الموضوع يذهب نحو شابة كانت قد غادرت الوطن، لتستقرّ في المهجر، لكنّ القبض على شقيقها، يُجبرها على العودة، وبعد لأي تتمكّن من انتزاع مُوافقَة على زيارته، فتزوره، وتستعيد ذكريات بعينها، ما يُحيل إلى أسئلة مُقلقة للمواطن في العالم الثالث، إنّها أسئلة المُستقبل الغامض وغير المضمون!

أمّا في التنفيذ فإنّ الفعل المُضارع " أذكر " يُحيل إلى ضمير المُتكلّم، ما يضعنا في مُواجهة الأساليب الحديثة في القصّ، هذا يعني بأنّ القاصّة اشتغلت على تحويل التجربة إلى ذكرى، والذكرى إلى تعبير فنّي، وهذا هو جوهر العمليّة الفنّيّة، ولكن ماذا عمّا بين هذه وتلك، أي ماذا عن التفكيك والتحليل، ثمّ إعادة الترتيب القصديّ للأجزاء في عمارة قصصيّة تُضمِر مقولة العمل!؟

في الإجابة كنّا نتوهّم بأن " سعيد " ستشتغل على زمن مُنكسر، ينسجم مع ضمير المُتكلّم، ذلك أنّها بالاحتكام إلى قانون الحذف والاصطفاء كانت تستطيع تقديم تفاصيل بعينها، لكن بعد أن تُخضعها إلى التقديم والتأخير، فتحلّ مُشكلة الزمن الفيزيائيّ التقليديّ من جهة، وتبثّ في نصّها توتّراً دراميّاً لمصلحة التشويق من جهة أخرى، بيد أنّها لجأت إلى الكشف المتدرّج، ما أحال المتن إلى أحضان زمن تقليديّ يسير من الماضي إلى الحاضر فالمُستقبَل! صحيح أنّ هذا النوع من الكشف يقوم ــ هو الآخر ــ على شيء من التشويق، لكنّ الزمن الدائريّ أو المُنكسر أكثر انسجاماً مع الأساليب الحديثة للقصّ، وهكذا تكون القاصّة قد خسرت في جانب لتربح في جانب آخر، فهل يتساوى الجرم بالغنم!؟

أمّا المكان فسيُحيلنا ــ لطبيعة في الموضوع ــ إلى المُغلق، إلى الغرف الرطبة المُظلمة، أو إلى الزنازين الصمّاء الضيّقة، وبذلك فإنّ " سعيد " ستنجح في أن تخرج بالمكان عن حياده بحدود، إذْ كاد أن يتحوّل إلى فضاء قصصيّ في غرفة السجين، لكنّها إذْ انهمكت بحال السجين – في أثناء الزيارة ــ نسيت المرور على تفاصيل الزنزانة، ولو أنّها فعلت، لاندغم المكان بمصائر أبطاله، ووقف بطلاً معهم على قدم المُساواة!

لقد غادرت لغة " سعيد " المُستوى الأوّلي الخام ، الذي يقوم بوظيفة التواصل، لتُؤسّس لنسيج فنّي قصصيّ ينشغل بجماليّات القصّ! هي لغة سليمة.. نعم! وهي لغة جميلة في مُعظم الأحايين، بيد أنّها لا ترقى إلى اجتراح المُغاير، الذي يقوم على الهدم وإعادة البناء.. أي على اجتراح المُفارق الذي يقوم على الانزياح والخلخلة أي على الابتكار، بشكل يُحيل إلى سياقات جديدة!

ولأنّ هكذا موضوعات لا تبدو في طريقها إلى الحلّ، لجأت " سعيد " إلى نهاية صادمة تقوم على المجاز، إنّها نهاية مفتوحة تُحيل إلى عنوان شديد الإيحاء! عنوان نجحت القاصّة في أن تتّكىء عليه كعتبة نصّيّة مُمهّدة، إذْ يتوفّر على مسافة مُفترضّة بينه وبين المتن بقصد التشويق!
فقط سنُحيل " سعيد " ــ كما أحلنا " الشمالي من قبل ــ إلى مقولة " أنطون تشيخوف " التي أتينا عليها من قبل، وعليه سنتمنّى لو أنّها اشتغلت على التفاصيل، لتُبيّن لنا أسباب اعتقال الشقيق على الأقل، ولتُقدّم اللحظات الإنسانيّة الحميمة في حياته.. علاقته بأمّه مثلاً، وعلاقته بحبيبته، بغرفته وكتبه والموسيقى، ما كان سينأى بالنصّ ــ أكثر فأكثر ــ عن الآيديولوجيّ، وعندها نزعم بأنّنا كنّا سنقرأ نصّاً من مقام آخر!