|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
حكمة الأسلاف في حكايات أسرار خزنة لهدى الأحمد
عاشقة
الصحراء :
موسى إبراهيم أبو رياش تُعتبر الحكاية التراثية أحد أهم الأشكال السردية التي تحمل بين طياتها عبق الماضي وتجليات الذاكرة الجمعية للشعوب. فهي ليست مجرد قصص تروى للتسلية، بل وسيلة تعليمية وتربوية عميقة، تُسهم في تشكيل وجدان الأجيال وتعريفهم بجذورهم الثقافية، وتحتفي بالقيم الاجتماعية والإنسانية، حيث تسود البساطة، وقيم الكرم والشجاعة والتكافل والنخوة والشهامة، وهي بالتالي تُرسّخ هذه القيم وتعززها. كما أنَّ الحكاية التراثية أشبه بحلقة وصل؛ جسر بين الماضي بالحاضر، تعزز الهوية الثقافية، وتُتيح الفرصة للأجيال الشابة لفهم حاضرها بشكل أعمق، مما يساعدها على تحقيق التوازن بين التقاليد ومتطلبات العصر الحديث. في «أسرار خزنة.. حكايات امرأة من البادية» للكاتبة هدى الأحمد، تظهر أهمية الحكاية التراثية بوصفها مرآة تعكس واقع الحياة الريفية والبدوية قبل عقود، وتفتح نافذة على عوالم غنية بالقيم الإنسانية والتجارب الحياتية. تتكون المجموعة من أربع عشرة حكاية هي التوالي: «الجني الصغير، راعية الغنم، السّحَلَة، الحِنَّة الضائعة، البئر الغربي، الجوع، الزائرة، ما زلت قاصرة يا عمتي، ثأر قديم، حكاية الوفاء، خزنة ترفض ابن الشيخ، العجوز العاشق، حياة أو موت، البنت سِرُّ أمها». تناولت الحكايات بساطة الحياة، والتعاون بين الناس، وفضيلة حفظ الأسرار، والشهامة، والكرم، وحكمة التصرف، والغيرة الزوجية، والعلاقة بين الإنسان والحيوان، والوفاء، والجفاف، والرحيل طلبًا للماء والكلأ، والثأر، وغيرها من موضوعات الحياة. في تقديمه للحكايات تحت عنوان «تلويحة» يقول الأديب جروان المعاني: «خزنة ... قصة كل نساء البادية حيث العادات والتقاليد وثقافة المجتمع السائدة، فتظهر في هذه المجموعة القصصية وكأنها متمردة، لكنها في واقع الحال هي فتاة تحمل شقاوة الطفولة حتى تصدمها الحياة بوفاة والدتها ملاذها ومكمن طمأنينتها، وتكبر هذه الفتاة، وتكبر معها همومها». في حكايات «أسرار خزنة» تجلّى موضوع حفظ وصون الأسرار كثيمة رئيسية وقيمة محورية، حيث يحمل كتمان الأسرار دلالات عميقة تدل على الحكمة وبعد النظر، إذ تكشف الحكايات أنَّ كشف الأسرار قد يؤدي إلى الخراب، وإثارة الفتن، وسفك الدماء، بينما يحقق كتمانها السلام والاستقرار، وهذا ما حرصت عليه «خزنة» في جميع أطوار حياتها، كقيمة فطرية نشأت عليها، ولم تمتهن الثرثرة وكشف المستور. تعكس شخصية «خزنة» في الحكايات دور الإنسان الذي يدرك أنَّ كتمان السر ليس فقط فضيلة أخلاقية، ولكنه درع حكمة ووقاية من الشرور، واستراتيجية للبقاء والعيش بسلام في بيئة مشحونة بالتحديات. فالحياة البدوية التي تقدمها الحكايات تبرز أنَّ المجتمعات البدوية تعتمد على الثقة المتبادلة، وأن انتهاك هذه الثقة قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. في حكاية «الجني الصغير»، عندما جلب والد خزنة الراديو، أصبح هذا الجهاز الغامض مصدرًا للتساؤلات والشكوك والخوف، ولكنه أثار أكثر غيرة أم خزنة، فقد خشيت من أصوات النساء التي يبثها الراديو، وأن زوجها مغرم بامرأة ما، وربما تخرج من الصندوق ويساهرها الليل في غفلة منها، ومع أنها راقبته ليالي عدة، إلا أنها عمدت إلى تحطيم الراديو أخيرًا، وأعادته إلى مكانه. لم تكشف خزنة سرّ أمها الذي كانت شاهد عيان عليه؛ لما يترتب على فضحه من مشكلات زوجية وتفكك أسري، وربما يمتد أثرها إلى عائلتي الزوجين، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي في القبيلة. عندما علمت الجدة في حكاية «الحِنَّة الضائعة» أنَّ العروس مجبرة على الزواج، عمدت إلى إخفاء حنة العروس، مما أثار القلق بين أهل العروس والعريس، واعتُبر فألًا سيئًا حسب القناعات السائدة، وأدى إلى حدوث مشادات كلامية بين أم العروس وأم العريس، وكانت النتيجة فسخ هذا الزواج قبل أن يتم. وهذه الحكاية تنم عن حكمة الجدة وخبرتها الواسعة بالحياة، وحسن تصرفها في الوقت المناسب، كما تؤكد حكمة خزنة التي كانت تعرف مؤامرة الجدة الجميلة، ولم تخبر أحدًا بها. في حكاية «البئر الغربي»، انتشرت الشائعات عن شرّ يتربص بالأهالي عند البئر الغربية، ولذا كانوا يتجنبونها، ويحذرون أطفالهم من الاقتراب منها، بل ويقدمون لها النقود والأضاحي والقرابين تجنبًا لشرها، ولكن خزنة عندما اضطرت لجلب الماء ليلًا لأمها المريضة، لجأت، بعد تردد وتوجس، إلى البئر الغربية الأقرب إلى خيمتها، وواجهت الموقف بشجاعة، واكتشفت حقيقة الخوف الذي يتملك الناس، بل شكلت لها الحقيقة مادة للسرور والمتعة، وكان لها نصيب من الغنائم أيضًا. لم تكشف خزنة سرّ البئر الغربية، ربما تعاطفًا مع الغول المتوهم، وربما عقابًا للناس الذين رهنوا عقولهم للجهل والخرافات، ولم يجرؤ أحد منهم أن يحاول ليعرف الحقيقة، وكأنّي بها لو واجهتهم بالحقيقة لسخروا منها واتهموها بالكذب، وخاصة أنها صغيرة السن، ولن يرضوا، وإن صدقوها، أن يعترفوا لها بالشجاعة والفضل وتمزيق أستار الخرافات والأوهام. وهكذا في بقية الحكايات، ثمة سرّ وراء كل حكاية، لكن خزنة تحتفظ بالسرّ، ولا تكشفه لأحد، وهي من حيث تشعر أو لا تشعر عملت على حماية العلاقات الاجتماعية من النزاعات، حيث يمثل السكوت أحيانًا الحل الأفضل لتجنب المشكلات. كما أنَّ الأسرار في بعض الأحيان تشكل درعًا يحمي من الهلع الذي قد يتسبب فيه كشف الحقائق المفاجئة أو الغامضة. بالإضافة إلى أنَّ كتمان الأسرار ينطوي على احترام الخصوصية، مما يعكس التزامًا أخلاقيًا تجاه الآخرين، وبشكل عام، فإنَّ صون الأسرار ليس مجرد عمل فردي، بل هو جزء من نسيج الحكمة الذي يحفظ تماسك المجتمع، من خلال تصويرها لعواقب الكشف المتهور للأسرار، مما يعزز أهمية التفكير المسبق والتروي في مواجهة المواقف الحساسة، مما يجعل من هذه الحكايات نافذة أدبية إلى فهم أعمق للروابط الإنسانية، وقيمة الحكمة في الحياة اليومية. وبعد::: فإنَّ «أسرار خزنة.. حكايات امرأة من البادية» للكاتبة الأردنية هدى الأحمد، الصادرة عن دار جفرا للنشر والتوزيع بدعم من وزارة الثقافة، عام 2024، في 98 صفحة، هي مجموعة حكايات تراثية من واقع المجتمع البدوي الأردني الغني بمئات الحكايات التي يتناقلها كبار السن، ويروونها بشوق ومحبة وشجن، وهي لا تختلف في موضوعاتها عن الحكايات التراثية المتداولة في المحيط العربي المجاور، لتشابه الظروف بشكل عام، وكما كان الأجداد والأسلاف حكايات نتناقلها لأولادنا وأحفادنا، سنكون بعد عقود مادة حكايات للأجيال القادمة، وهذه سنة الحياة، أن يكون السلف حكاية للخلف. تكمن أهمية هذه المجموعة في كونها توثق جزءًا من الذاكرة الاجتماعية والثقافية، وتوظيفها لغة تراثية في الحوار تتماشى مع روح الحكايات الشعبية، مما يعزز ارتباط القارئ بالتراث الثقافي للمجتمع البدوي الذي تتناوله الحكايات؛ إذ إنَّ الحكاية ليست للتسلية وجلب النوم للأطفال؛ إنّها نبض من الماضي يُحيي الحاضر، ويوجه المستقبل. والمجموعة أقرب إلى رواية منها إلى حكايات متفرقة، فثمة خيوط ناظمة منها: «خزنة» الشخصية المحورية في جميع الحكايات، ووالدها الدواج، وصديقتها «زينة»، والبيئة الواحدة، والظروف المتشابهة، والفترة الزمنية نفسها. ويمكن لكل حكاية أن تتحول إلى تمثيلية تلفزيونية أو مسرحية قصيرة. جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: السبت 04-01-2025 08:19 مساء الزوار: 46
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
ديوان لهدى أبلان يتأمل الحرب واشتعالات ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 21-10-2022 |
"العائلة" كتاب جديد لسمر مصطفى ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 20-09-2022 |
قراءة في كتاب «حكايات شعبية من الرمثا» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 25-03-2022 |
“باب لا يغلق”.. مجموعة قصصية تستشرق ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 14-08-2020 |
صورة الموت في الشعر العربي القديم... ... | النقد والتحليل الادبي | إدارة النشر والتحرير | 0 | الأربعاء 13-05-2020 |
«أمواج ريسوت» لإشراق النهدي.. التقاطات ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 30-01-2020 |
الزرقاء وكومة الأسرار الغامضة | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 03-08-2019 |
رواية «سيدات القمر» لجوخة الحارثي.. ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 14-06-2019 |
“حكايات الليدي ندى”.. شبكة التواصل ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 25-02-2019 |
النزعة الإحيائية في قصص سناء الشعلان | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 10-01-2018 |
رواية محكمة النسج تندد بالإرهاب | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 08-12-2017 |
"أسرار لا تستتر" إطلالة أولى ... | النقد والتحليل الادبي | اسرة التحرير | 0 | الأربعاء 01-07-2015 |