|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
قــــــراءة في المجموعة القصصيّة «معطف أمي» لسحر ملص
عاشقة
الصحراء :
مجدي دعيبس تقارب القاصة والروائيّة سحر ملص مواضيع موجعة في مجموعتها القصصيّة التاسعة، والتي حملت عنوان (معطف أمي) وصدرت بدعم من أمانة عمان الكبرى عام 2014. وتكشف القّاصة عن هذه القصديّة من خلال الإهداء الذي أول ما يطالعنا بكلماته القليلة والمباشرة ويميط اللثام عن الأجواء التي أحاطت بالكاتبة وهي تشدّ على قلمها حتى ينزف من بعض وجعها وقلقها. ولا تخيّب المبدعة ظنّنا وتبدأ المجموعة من حيث انتهى الإهداء، وهو الدكتور محمود تسابحجي مدير المستشفى الجامعي في حلب الذي اختطفته إحدى الجماعات خلال الحرب الأهليّة في سوريا وقامت بتصفيته لاحقًا. تعيد القاصة سرد الوقائع الحقيقيّة بأسلوب فني محمّل بأسئلة تعرّي الادّعاءات التي تنادي بها الجماعات المتقاتلة لتبرّر وجودها على الأرض، وذلك عندما تتساءل الزوجة: (لماذا يطلبون الفدية وهم يدّعون أنهم ثوّار؟). تكشف قصة (أبو النور) معاصي الإنسان وشروره عندما يتخلى عن الطبيعة الفطرية المنسوبة إليه. وجاء هذا الاسم أو الرمز الذي اختارته الكاتبة لمدير المستشفى (أبو النور) لتدلّل على مفاتيح شخصيته ومقدار ألمها وسخطها، ولا أعرف إن كان هناك معرفة سابقة تربطها بالطبيب، أم أنّها حالة إنسانية بحتة من ضمن مئات بل آلاف الحالات التي تشكّل بمجموعها الحرب الأهليّة التي هي لا إنسانية بامتياز. تعرض القصة للأوضاع الصعبة التي تشهدها المدن المنكوبة من نقص المياه والوقود والأدوية وانقطاع الكهرباء وانتشار القناصين الذين لا يفرّقون بين شيخ وطفل وامرأة. في الحروب تتحوّل حياة الإنسان إلى مجرد رصاصة في جعبة شخص تخلّى عن كل شيء يربطه بهذا الكوكب وانعزل بنفسه لأنه فشل في أن يكون جزءً من هذا العالم الفسيح والمتسامح. لا يفوتنا هنا الإشارة إلى اللغة المشبعة التي اجترحتها الكاتبة حتى تحمل الأثقال التي تكدست في النص: (طفل حمل حقيبته المدرسية وسار الى صفه يحمل خبزته المغمّسة بأحلامه فاصطاده قناص، فسقط مثل عصفور مضرجًا بدمه... مدينة جريحة أصابها جنون الحرب فأطفأت أضواءها وزينتها وسحبتها إلى الجحيم لترتدي السّواد، تنوح على موتاها وترتقب مستقبلها بعدما تحوّلت حدائق أطفالها إلى مقابر لهم، يتأرجحون على حافة الموت). الكاتبة رمز السلسلة الفضيّة المعلّقة برقبة (أبو النور) لتشير إلى الوطن الكبير الذي حمله الطبيب وظل يقوم بدوره الإنساني، ولم يتخلَ عنه حتى آخر لحظة رغم المخاطر المتربّصة به. إنّ موته لم يكن حالة عبثيّة بل هي حالة من الوعي العميق والإحساس بالوطن وإنسانية الإنسان. في الختام تورد الكاتبة إنّ الحرب ما زالت مستمرة ونزيف الدم ما زال متوهجًا: (فجأة اصطدمت يدها بالسلسلة الفضيّة التي كانت معلّقة برقبته، كما شاهدت عليها خارطة الوطن ينز من معدنها دم أحمر قاني!). للوهلة الأولى تبدو قصة (الثمن) مغرقة بمثالية قد لا يصدف حدوثها إلا على ورق القاصّين أو في خيال الحالمين، ولكن ألا يكون العالم وسط هذا التّخبّط بأمس الحاجة إلى هؤلاء حتى يستقيم ويعود إلى إيقاعه الجميل؟ لحظة إنسانية ربطت الجندي بتلك العجوز الآيلة للفناء فجرى اللقاء بينهما على ذلك النسق المرسوم الذي أتاح للجندي أن يقف هذا الموقف الجميل الذي سيثري حياته الباقية. (كل الأشياء قابلة للبيع) الواردة في القصة تحمل أبعادًا أعمق من مجرد أثاث منزل قديم، هي إشارة إلى الانحطاط الذي يرافق زمن الحروب فيصبح كل شيء برسم البيع ابتداءً من ذكريات الإنسان وانتهاءً بالإنسان نفسه. والقصة تمثل استمرارًا لسابقتها وتدافع عن وجهة نظرها في رفض الحروب والإشارة إلى الخراب المادي والروحي الذي تسبّبه، وأكدت القاصة هذا مجددًا في قصة (بئر جدتي). قصة (اليد) تنتقل الكاتبة إلى المستوى السريالي في السرد وهي محاولة موفقة لاختصار الحياة وخبراتها من خلال اليد الغامضة التي تكشف القليل وتخفي الكثير، وتثير فيها أسئلة لا تنتهي. تحاول من خلال حركة الأصابع وتلمّسها للقضبان الحديديّة فتح نافذة على ماضي صاحب اليد وهو سجين في عربة المساجين: (لعلها أمسكت القلم وكتبت، أو قلّبت أوراق كتاب. ربما استسلمت لعصيّ المدرس لحظة العصيان، أو ربما امتدت في جحور الثعابين تبحث عنها، كم من زهرة قطفت؟ وكم من شوكة أدمتها؟ ..). وسط هذا الفضول العارم يجد السارد نفسه مدفوعًا للخروج من سيارته على الإشارة الضوئيّة والوقوف على مقدمة السيارة ليمدّ يده ويتحسّس اليد لعلّه يدرك شيئًا من بغيته. ربّما هي حالة من الانقياد للعقل الباطن والإنجرار وراء البحث والتّنقيب دواخلنا ودواخل من حولنا. جاء الوصف والبناء المتصاعد والخاتمة لتأكيد اختلاف القصّة في شكلها وإيحائها عن باقي القصص. التّشكيل السّردي يُخرج المجموعة من سطوة الإيقاع الواقعي أو الغرائبي أو الرمزي الذي يكون مسيطرًا في أغلب قصص المجموعة، الأمر الذي يثير الحماسة في القارئ للإنتقال بخفّة ورشاقة من قصة إلى أخرى. تغرّر الكاتبة في قصة (دار المشاهدة) بالقارئ حتى يستكين إلى نواياها، وعندما تتمكن منه تسحب البساط من تحت قدميه فيسقط في الكمين الذي أعدته له بحرفيّة عالية. وليس المقصود بالتغرير هنا المعنى السلبي للكلمة ولكن القدرة الفنية الفائقة على تسخير الأمور بالاتجاه الذي تريده. كشفتْ في اللحظة الأخيرة أنّ الحوار الذي دار في القصة على لسان شخصين بدا أنهما صديقان يحضران فيلمًا ما في صالة السينما، ما هما إلّا هيكلان عظميّان متفحّمان جرّاء الحريق الذي دبّ في الصالة. ينظران إلى الحياة من موقف المتفرج بعد أن غادراها ويعرضان وجهة نظر شمولية تتناول نماذج مختلفة من الناس بتجرد وبدون إطلاق أحكام سابقة أو لاحقة. في قصة (صمم) يهجر مدّ الله الأرض والقرية والأهل ليجول مع أهل الغجريّة في حلّهم وترحالهم. هي إشارة إلى ترك الأرض التي تنبت لنا الخبز، واللهث وراء الحياة السّهلة والسّريعة. مدالله يمثل البداءة التي تشبه الأرض بقوّتها وضعفها وسجيتها. في لحظة ما فقد هذا البدائي اتصاله بالأرض وتفجرت غرائزه على يد تلك الغجريّة الفاتنة ولا عجب في هذا؛ فالفتنة كانت مهنة للغجر من قديم الزمان. أخذ مدّ الله يتمايل بجسده على أنغام المزمار ويقفز على إيقاع الطّبل لندرك من خلال هذا الفعل دخوله في حالة نشوة عارمة وابتعاده عن طبع مدّ الله القديم. (صمم) لوحة فنية جميلة تجمع بين الأرض والحب والتّحول الذي يصيبنا أحيانًا بشكل مباغت لا نملك معه سوى الانحياز إلى القلب والشغف والجمال. تدفعنا قصة (ممدوح) للتساؤل والتأمل؛ هل هي مجرد مادة خفيفة لامرأة مسلوبة جاءت على شكل مفارقة لطيفة أم أنها شيء أبعد من هذا بكثير؟ ورد في القصة صورتان للزواج؛ الأولى هي ممدوح الرقيق الحالم وزوجته الجميلة الفاتنة، والثانية للمرأة التي تركها زوجها مع ثلاثة أطفال ليذهب مع أخرى. حالتان على طرفي النقيض ولعل الكاتبة أرادت من خلال هذه المعالجة أن تقول إنّ الزواج أبعد ما يكون عن المثالية؛ لإنها ببساطة حالة غير موجودة على الأقل بالطريقة الموصوفة في القصة، والدليل على ذلك أن ممدوحًا ليس إلّا ببغاء يكرّر الكلام الذي يقال أمامه ولا يصدر عنه نتيجة لانفعال أو تفاعل ما. لن أمارس الراديكاليّة والتّعسف هنا والقول إنّ رسالة القصة مفادها أنّ من تبحث عن زوج مثالي فلتبتع لنفسها ببغاءً وتسمّيه ممدوحًا. أمي) هي قصة الحنين إلى الأم والمعطف هو إشارة إلى عطف وحنان الأم الذي يشكّل الرافعة الأساسيّة للتّطور الاجتماعي والنفسي والشعوري للطفل. في أكثر لحظات الحياة برودة يلجأ الإنسان إلى ذكريات أمه وطفولته حتى يشعر بالدفء والسكينة. هناك إشارة إلى تعسّف وتجبّر يُمارس ضد المرأة؛ (سوف نجهضه ولن ننجب غيره حتى أراكِ قد ارتديتِ الجلباب وأصبحتِ محجبة مثل أمي). في لحظة ما يجد الإنسان نفسه وحيدًا بلا ولد ولا زوج ولا أم. تنهشه أوجاع الروح والجسد؛ أوجاع الوحدة والاكتئاب والروماتيزم ولا يظلّ أمامه سوى معطف الأم الذي لمّهم أطفالًا في ثناياه وتلافيفه وحفر في ذاكرتهم لحظة من الدفء التي لا تنسى. حملت المجموعة عنوان القصة (معطف أمي) ولعل هذا من باب الوفاء والحنين والعاطفة الطاغية من الكاتبة تجاه أمها، وهي حالة تعبّر عنّا جميعًا، وتزداد فينا رسوخًا كلما تقدمنا بالعمر أكثر وأكثر. اشتملت على ثلاث عشرة قصة بمواضيع ومعالجة عميقة، ولعلّه ليس من العدل أن نتناول كل القصص بالنبش والتنقيب، فنترك المجال لآخرين قد يرغبون بالتعليق على قصة نالت استحسانهم وقبولهم. القاصة والروائية سحر ملص أثرت المكتبة العربيّة بعشرة مجموعات قصصية وتم تحويل العديد من قصصها إلى دراما إذاعيّة. على صعيد اللغة لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكاتبة تداهم القارئ بجمل وتعابير مضيئة تلمع أمام عينيه، لا يملك إلّا أن يتوقّف عندها ويتأمّلها يمينًا ويسارًا حتّى تخفّ وطأة الدهشة فيفلت من قبضتها، لكنّه لن يبتعد كثيرًا حتّى يصل إلى دهشة أكبر ووقفة أطول. الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: الجمعة 24-09-2021 07:55 مساء الزوار: 711
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
لمحة عن كتاب المجموعة القصصية «الحصان» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 17-02-2024 |
«هذا الوجه».. تقاطعات (السيرذاتي) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 18-11-2023 |
د. نجلاء نصير - الواقعية الاجتماعية في ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 27-01-2023 |
قراءة في رواية "احترَقَتْ ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 31-12-2022 |
لمحة عن كتاب المجموعة القصصية «ملامح ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 16-11-2022 |
توظيف اللون في المجموعة النثرية «نرجس ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 16-09-2022 |
نزار قباني ... نرجسية متكئة.. و(الأنا) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 29-10-2021 |
المكان والقرية والمظاهر الاجتماعية في ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 13-08-2021 |
إضاءات نسوية في المجموعة القصصية «قبل ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 31-07-2021 |
قراءة بقلم د.وليد جاسم الزبيدي ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 12-07-2020 |
تأملات في المجموعة القصصية «المعطوب» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 29-06-2020 |
حصريا لعاشقة الصحراء :الفضاء التشكيلي ... | النقد والتحليل الادبي | إدارة النشر والتحرير | 0 | الثلاثاء 26-05-2020 |
«الأرض المشتعلة» لسحر ملص.. عتبات ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 12-05-2020 |
الشاعرة هنادي الصدر تُشهر ديوانها الجديد ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 22-10-2019 |
موت النزاهة في المجموعة القصصية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 01-10-2019 |