محمود عبد الصمد زكريا «مسافرتان عيناك وقلبي فيهما صلى أتاك مروعاً كالطفل أبحر فيهما عمرا ورغم الماء ما ابتلا بصوت الحب والإيمان كم غنى أغانيه الشتائية فجاء الصوتُ مشدوداً بأوتارٍ جليدية هو المنسيُّ في مدنٍ بلا معنى بأحلامٍ بدائية مسافرتان عيناك وقلبي فيهما سافر تطارده رياحُ الخوفِ والأمطارُ تغرقه وبالأحلامِ قد قامر هو المطرود من عينيك منذ إليهما هاجر تعلم قلبي المسكين أن يرتاح في المدن الدخانية ويبني عالم الأحلام من عمدٍ سديمية ويصبغ زهرة الأحلامِ ألواناً رمادية مسافرتان عيناك اللتان اغتالتا عمر الأناشيد وها أنا راحلٌ وحدي ومن بيدٍ إلى بيدِ لأجل عيونكِ النجلاء يا أهزوجةَ الغيدِ أخاف الليل حين تعود أحزاني المسائية فتكسر باب أفكاري عفاريتٌ خرافية وأذكر وجهكِ الوضاءِ في حزني فتأسرني لدى عينيك أمواجٌ نجومية مسافرتان عيناك تحط طيورها حولي فأجري لاهثاً فرحاً فتأسرني يد الليل أحس عيونك النجلاء تنظر عبر نافذتي الضبابية وأحضن وجهك المعجون من لبن الحكايات الغرامية ومن زغب الحمامات السماوية فأكسر وجه نافذتي الزجاجية وأحضن حزن أيامي وآهاتي الختامية». تتكئ هذه القصيدة، (وهي للشاعر أشرف قاسم، من مجموعته الشعرية «نام الحنين على ستائر شرفتي»)، في إنتاج جمالياتها على مستووين أساسيين هما المستوى الصوتي المنغوم للغة والمستوى التصويري المنتج للمشهدية أو بمعنى آخر إنتاج التجربة تصويرياً.. أما عن المستوى الأول الصوتي فهو المنبثق أو المتفتق والمتفجر بدايةً وخارجياً من الانتظام العروضي الناتج عن تعاقب الكادرات التفعيلية لتفعيلة الهزج (مفاعيلن) بطاقاتها أو بما يعتورها من زحافات وعلل فتأتي حيناً (مفاعيلن) وحينا (مفاعلتن).. ورغم الماء ما ابتلا بصوت الحب والإيمان كم غنى أغانيه الشتائية تساعد على ضبط نغمية أكثر انساجاما واتساقاً مع الحالة الشعورية المُعبر عنها شعراً لتتطابق تمام الانطباق مع الحالة الحياتية المعاشة للذات الشاعرة ناهضة وناطقة ومنجزة لأكبر مساحة من الصدق الفني ، وهو ما يجعل الكادرات التفعيلة تأتي متصلة دائماً ونادراً ما تأخذ الكلمة تفعيلة أو كارداً تفعيلياً كاملا.. وهو ما ينجز انسياباً وسلاسة نغمية وغناءاً موسيقياً حيث تتعالق التفعيلات بعضها ببعض منجزةً تصاعداً درامياً على مستوى المعني وصولاً لذروة القافية. مع الإيقاع العالي المتفجر من تواتر هذه القافية الرباعية المؤسسة بالألف وحرف الروي (الياء): الشتائية – الدخانية – المسائية – الضبابية – السماوية – الزجاجية – الختامية. أو المؤسسة بالياء على غرار : جليدية – سديمية . والتي تأتي في مواضعها الغير متعسفة والتي تأتي طواعية لخدمة التجربة مؤكدة على أولاً حسن الإنتقاء اللفظي للشاعر وثانياً ثراء قاموسه اللغوي. كما تبثق الموسيقى الداخلية انبثاق الماء من ينابيع الأهازيج منجزة ضفيرة نغمية مطربةً وشاجيةً في غير صخب أو صراخٍ من خلال القوافي الإستثائية التي تتباهى بها موسيقى الحرف العربي على غرار : ومن بيدٍ إلى بيدِ يا أهزوجةَ الغيدِ أو : وقلبي فيهما صلى أبحر فيهما عمرا ورغم الماء ما ابتلا أو : تحط طيورها حولي فتأسرني يد الليل .. أو : وقلبي فيهما سافر منذ إليهما هاجر... وهكذا.. إن نقطة شديدة الأهمية تكمن في وعي الشاعر بالإيقاع.. هذا الوعي الذي يعالج التعديلات الدقيقة في الوزن الشعري ويرصد التنويع مهما كان ضئيلاً.. إن هذا الوعي بالموسيقى هو الذي يوحدنا أو على الأقل يربطنا ويحمي انتباهنا من الحيرة والتشتت ؛ إنه يوحد الإحساس بالموضوع ؛ ويساعد بقوة على بلورة دراما النص.. فأخال أن الشاعر يصارع حالة الاغتراب المرتبطة بحالة العشق والاشتياق ليجبرها على أن تمنح وجوداً..يقرع الداخلي ليجبره على الظهور في عملية يمكن أن نسميها (التخارج إن صح التعبير).. أو أنه يقرع الصمتَ فتجيبه الموسيقى.. وأما عن المستوى الثاني وهو إنتاج التجربة تصويرياً فيعتمد على التوقيعات البلاغية أو الصور الجزئية المتلاحقة التي تنتج عن إنتاج علاقات بين محسوسات ومحسوسات أو محسوسات وعنويات لا علاقة بينها في الواقع على غرار : مسافرتان عيناك وقلبي فيهما صلى هكذا جعل الشاعر من عيني محبوبته محراباً للصلاة بعد أن أنسنهما وجعلهما مسافرتان ؛ وجعل من القلب عابداً مُصليَّاً في هذا المحراب ، والعينا ن والقلب محسوسات ، بل وأدوات للحس أيضاً ، والصلاة محسوسة ولا علاقة بينهما في الواقع لكن الشاعر بكيمياء الشعر وقدرته على التصوير ينجز هذه العلاقة فينجز بالتالي توقيعاته التصويرية..وقس على ذلك : أتاك مروعاً كالطفل أبحر فيهما عمرا ورغم الماء ما ابتلا أو : تطارده رياحُ الخوفِ والأمطارُ تغرقه وبالأحلامِ قد قامر أو : فأجري لاهثاً فرحاً فتأسرني يد الليل أو : وأحضن وجهك المعجون من لبن الحكايات الغرامية .. وهكذا تتكاتف التوقيعات التصويرية وتتعالق ببعضها البعض لتتكامل ناهضةً بإنجاز كادرات تصويرية متحركة سينمائية غنية بحركيتها ودراميتها وألوانها ومسموعها ومشمومها.. الخ.. فتنساب القصيدة على بياض الورق انسياب المشاهد على شريط الفيلم السينمائي منجزة هذه المشهدية الشعرية الرائعة. فبالنظر إلى هذه القصيدة على أنها شكل من الكتابة له أبعاد معينة ؛
ويشغل حيزاً متناسقاً من المكان – أعني أنه ذو بنية هندسية فنية متقنة ؛ فإنه بالمقابل ستدل سماته الخارجية الشكلانية أو البنائية هذه أيضاً على امتداده خلال الزمان كما يفهم ذلك من الترتيب المتعاقب للأفعال : مسافرتان.. البدء بالفعل المضارع ثم التعيقب علي بالأفعال الماضية : صلى - أتاك - أبحر– غنى – جاء. فتبدو الأحداث كلها مستدعاة من الماضي لتكون فاعلة في الحاضر وتتسم بفعل الصيرورة في الزمن ، يعضد هذه التقنية تعاقب الأزمنة الرابطة للأحداث كردود أفعال على غرار : وأذكر وجهكِ الوضاءِ في حزني فتأسرني لدى عينيك أمواجٌ نجومية أو : فأجري لاهثاً فرحاً فتأسرني يد الليل أو : حين تعود أحزاني المسائية فتكسر باب أفكاري عفاريتٌ خرافية .. وهكذ.. إن تنوع الأفعال بين المضارع والماضي قد جاء معبراً عن حالة الصراع أو المعاناة حيث عكس حالةإنكار الشاعر ؛ أو الذات لأفعال المباعدة والتفريق بينه وبين حبيبه – المسكوت عنه – وهو من هذه اللحظة الحاضرة والمستمرة ليؤكد الوجود والتفاعل القصيدة إذن هي جواب لقرع الشاعر.. إنه عمل يأخذ على عاتقه أن يكشف ويعري عالم الذات الشاعرة ؛ العاشقة ؛ وتوق اكتمال الشاعر الذي : يبني عالم الأحلام من عمدٍ سديمية ويصبغ زهرة الأحلامِ ألواناً رمادية بمعشوقته التى سكت عن الإفصاح بماهيتها وكينونتها مكتفياً بعيونها النجلاء ووجهها الوضاء.
" الدستور الاردنية "
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-09-2019 11:45 مساء
الزوار: 959 التعليقات: 0