|
عرار:
د. إنعام زعل القيسي لقد حظيت عمَّان بمكانة رفيعة وحضور لافت في الشعر الأردني المعاصر، وكانت على الدوام مصدر إلهام للشعراء والكُتَّاب والروائيين، ممَّن عاشوا في حناياها، وترعرعوا في أحضانها ومرُّوا بشوارعها وسكنوا جبالها السبعة، وكان لهم فيها تجارب وجدانية وحياتية مختلفة أغنت إبداعاتهم الأدبية التي عكست تلك التجارب. ونقف في هذه العجالة عند بعض ملامح صورة هذه المدينة العظيمة في قصيدة متميزة للشاعر حسن عطية جلنبو، عنوانها «عمَّان «، وهي إحدى قصائد ديوانه الأخير «وشهد شاهد من أهله»، الصادر عن دار يافا العلمية للنشر 2021م. ولعلّ من أبرز سمات هذه القصيدة أن الشاعر خلع على مدينته المحبوبة صفة الأنسنة فجعلها تمتلك مشاعر البشر الرقيقة وأحاسيسهم الشفافة، فهي سيدة عابدة تقية ورعة، تقوم الليل، وتبتهل إلى الله أن يعيد إلى حضنها أبناءها قبل حلول المساء، وهي عنوان النور والوضوح، إنها أخت الصبح وبنت النهار: عمَّان سيدةٌ تقومُ الليلَ تضرعُ أن يعود الغائبون إلى المحطةِ قبل أن يغفو المساءُ على ذراعِ الليل يغرقُ بالظلامْ. عمَّان أختُ الصبح كانت لا تطيقُ الانتظارْ. واللافت للانتباه أن عمَّان السيدة تتحول بوعي وقصد واضحَين من الشاعر إلى سيدتين متماهيتين معا، وتمثلان حالة من التمازج العاطفي بينهما، إنهما عمَّان والقدس، فمدينة عمَّان توأمة القدس، إحداهما تغذي الأرض المقدسة بنجيع أبنائها، في حين تقدم لها الثانية أغلى ما تملك، إنها تمارس فعل السقيا بكفيها للغمام على الرغم من ضيق ذات اليد وصغرها؛ فهي تقدم الماء الذي يعد أغلى ما في الوجود، وهو أمرٌ حظي بمكانة رفيعة في التراث العربي الاجتماعي والشعري، حيث تتجاوز هذه السيدة بذلك ما اعتاد عليه العرب من الاقتصار على الدعاء بالسقيا لأرض الأحبة، فتنطوي هذه السقيا على معانٍ متعددة من أهمهما: النجدة والتعاضد والوقوف إلى جانب الآخر عند العوز والحاجة، ويعني ذلك أن هاتين المدينتين تمثلان حالة فريدة من التلاحم والتعاضُد والتعاون والترابط في المواجهة والمصير: عمَّان سيّدتان واحدةٌ تغذّي الأرض من دمها وأخرى لم تزل تسقي بكفيها الغمامْ كانت تغني (يا زريف الطول، يا بن عمّ الي). ولم تكتف تلك السيدة بسقاية الغمام بكفّيها وما ينطوي على ذلك من معان رمزية كثيرة كما أشرنا، بل تجاوزت ذلك إلى الغناء بتلك الأغنية الشعبية الفلسطينية (يا زريف الطول، يا بن عمّ الي)، التي تحولت عبر التاريخ الفلسطيني الحديث إلى رمز للمقاومة والجهاد ضد المحتلين، وتثير تلك الأغنية مشاعر سيدات أخريات يرددن مقاطع تلك الأغنية التي كانت على الدوام مثيرة من مثيرات المقاومة والاستشهاد في سبيل تحقيق الآمال التي حفظها أبناء عمَّان والقدس وغيرها من حواضرنا: كانت تغني (يا زريف الطول، يا بن عمّ الي). فيجيبها صوت لسيدةٍ تردّدُ (يا زريف الطول، طوّلت الغياب). فتندُّ منها دمعةٌ وتقول أُخرى هل سمعتِ دويَّ رشّاشٍ؟ رصاصةً طاشت إليه على طريق الأمنيات. فتجيبها الأولى: زريفُ الطول يحلمُ بارتشاف الفجر من شفة الخُزام. ويكشف الشاعر عن أن عمَّان / السيدة يسكنها الحنين والشوق إلى توأمتها مدينة القدس، بل يكشف عن صدقها وعفويتها في الحب فيجعلها امرأة ريفية بسيطة حالمة نقية، تلملم آمالها التي تبدو أشياء مبعثرة وتضمها معاً خوفا عليها من الضياع لأنها لم تتحقق بعد، وتركض صوب الجسر، تسابق السارين إلى القدس فجراً، لتلتقي شقيقتها، حتى تُفضي إليها بمشاعرها نحوها، فتبادلها القدس المشاعر نفسها، وترتبط هاتان الشقيقتان بالنور والضياء اللذين يرمزان إلى ما يُرتجى تحقيقه من الآمال والتطلعات إلى فكّ أسر القدس من مغتصبيها: كانت لا تطيقُ الانتظارْ. تصحو على صوت الكناري قبل أن يصل القطارُ، تلملم الآمالَ ثم تضمُّ بقجتها وتركضُ تسبقُ السارين صوبَ الجسر، تبحثُ عن بقاياها التي ارتعشت على شفة الكلامْ. وعمَّان المعشوقة التي كونت بفعل عشق الشاعر لها عالَمه الفريد ونشأته الخاصة، بما رفدته من تجارب وصقلته من خبرات، فأخرجته إلى حالة جديدة لم تكن من قبل، إنها أخرجته مِنَ العدم إلى الوجود، لذلك هو دائم الحنين إليها، في رحلة الغربة الطويلة. ولعل ذلك يستدعي إلى ذاكرتنا سفر التكوين الذي يُعد أَوَّل أسْفارِ الكِتابِ المقدس (التَّوْراةِ)، ويسرد الأحداث منذ بدء الخليقة إلى فترة نهاية حياة يوسف عليه السلام، ويجعل منه سورة واحدة، وينقل السفر للاغتراب الذي يقصد به الشاعر الغربة للإشارة إلى الحالة النفسية الصعبة التي يمر بها في بُعده عن الديار وأهلها، وهو أمر يكشف عن أن بداية التكوين والنشأة للشاعر كانت في مدينته المعشوقة التي بقي أثرها ملازماً لتكوينه الشعري عبر سفر غربته الممتدة، وطبعت حياته الشخصية بالحنين الدائم إليها، ويمكن القول إن الشاعر يرى في عمَّان بصورة أو أخرى مدينة ملهمة له: عمَّان يا وجع الحنين يا سورة التكوين في سِفر اغتراب الحالمين عمَّان عاشقة تُسكن معشوقَها في فؤادَها وتأتيه سرَّاً، فتقيم الليل عنده على غير ما اعتاد عليه الناس من زيارة الرجل العاشق المرأة المعشوقة، وتغادر قبل ظهور الصباح، إنها حالة منعشق عمَّان/ الأنثى لأبنائها، إنها المدينة التي يجد فيها ظلّ المرأة وجمالها وأنوثتها وأحاسيسها، ولذا كانت العاشقة الوفية المخلصة: عمَّان، يا امرأةً تُقيمُ الليل عندي كلّ شوقٍ ثم ترحل قبل أن يطأ النهار عفافها فتعودُ أدراجَ الأنين. وتبدو عمَّان في النص أُمّاً مُحسِنة وعطوفا ومشفقة، تفتح ذراعيها لاحتضان كل المتعبين والمنهكين الذين ضاقت بهم أرض أوطانهم بما برحت، فلم يجدوا دونها موئلا لهم في الشدائد، فلجأوا إليها بحثا عن الطمأنينة والسكينة، فأحبتهم وعطفت عليهم: عمَّان حين تضيقُ كلُّ الأرض تفتحُ بابها للمنهكين. وقد تبوأت في فعلها هذا شأواً عظيما بين الحواضر لأنها خَصَّت بِه نَفْسها، واسْتَحْوَذت عليه حتى غدت صورتها به كالشّمس في رابعة النّهار، ويخاطبها قائلاً: عمَّان لا تستأثري بالشمسِ إنّ الليل يعبث بالغريبْ. ردّي الضياءَ إلى النجومِ ولعل ذلك يشير إلى تملك الشاعر حب مدينته وتفضيلها على غيرها من الحواضر، إنه يرى كل ما فيها جميلا مُطربا، وكلَّ ما يصدر عنها مثيرا للإعجاب والتفاخر والمباهاة، فيزداد لها حباً وتعلقاً. وعمَّان الشاعر امرأة صموت لا تبوح بما في دواخلها، ولا تكشف عما تعانيه من ظلم ذوي القربى، حتى لا تمس مشاعرهم، إنها ترى أنّ السكوت أبلغ من القول، وقد عانت فيما مضى من هذا الكتمان والصبر على الشدائد، ولم تضعفها التجارب التي مرت بها مرة بعد مرة، حتى غدت امرأة: عمَّان أمٌّ تستعدُّ لوضع طفلتها الأخيرةْ. ستقولُ قابلةٌ لماذا لم تسميها «سلامْ». فتقولُ هذي آخر «الطلْقات» في رحم الأمومةِ لم تكن «وهناً على وهنٍ» ولكني نذرت لأجل عينيها الصيامَ فلا كلامْ. ويتناصُّ الشاعر في رسم هذه الصورة مع بعض آي القرآن الكريم، في قوله « ولم تكن «وهناً على وهن»، فقد لجأ إلى اقتباس جز من التعبير القرآني «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن» وتحويره، إذ قدم لهذا الجزء بالنفي «لم تكن». كما تناصّ في قوله»ولكني نذرتُ لأجل عينيها الصيامَ / فلا كلامْ «، مع قوله تعالى مخاطبا مريم عليها السلام «فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم أنسيا»، وحوَّر في هذا التعبير القرآني تحويرا طفيفا ليناسب الموقف الذي يريد أن يعبر عنه، حتى ليبدو أنه ينقل التعبير المقتبس إلى سياق جديد يتعانق فيه معه. ويبوح الشاعر في خاتمة قصيدة بشوقه وحنينه إلى عمَّان، ويكشف عما يشعر به من معاناة شديدة نتيجة الغربة عن الأهل والوطن الذي نأ عنه فترة طويلة من الزمن الي ترك آثاره القاسية على ملامح وجهه. لم يطق شاعر عمَّان البعد عنها لأنها سيدة المدن وفيها ذكريات الطفولة وأيام الشباب التي لا تُمحى، ويعلل نفسه بالآمال بلقاء عمَّان/ الذاكرة والتاريخ الماضي والحاضر: عمَّان سيّدةُ الدّيارْ. لحنٌ على قيثارة العمرِ المقيمِ على تجاعيدِ المسافرِ داعبتْ خدّيهِ أوتارُ الكمانْ. عمَّان أغنيةُ الزمان وذكريات الأمسِ لقد كانت عمَّان في تكوينها ورؤاها وفي مواقف ساكنيها نابضة بالحياة، ملهمة للشاعر حسن جلنبو كما كانت ملهمة لغيره من الشعراء فأبدع في رسم صورتها الجميلة على النحو الذي رآه فيها. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 28-01-2022 11:10 مساء
الزوار: 468 التعليقات: 0
|