|
عرار:
ناظم ناصر القريشي كما رسم ادورد هوبر، رسام العزلة، لوحاته التشكيلية وجسد شخوصه وحيدين، منفردين، غرباء في الزمان والمكان، تتناثر الموسيقى حولهم بين الظل والضوء، بين الأبيض والأسود، بصرامة القوة الناعمة للبيانو، هذا ما تعلله الموسيقى وتعربه المشاعر بنغمات قصيرة متوالية ومتتالية تتصاعد رويدا رويدا على المفاتيح البيضاء، مفتاحان أبيضان ثم ثلاثة سود ثم مفتاح أبيض واثنان سود، ثم تمرر الفكرة على قوس الكمان في امتداد الموسيقى في تأويل الألوان، وسنجد أن قوة الشعر في هذا البعد الدرامي المتحرك بانفعاليةمعتمداً على الحس الموسيقيفي سيناريو القصيدة، هكذا شكل الشاعر عبد الرزاق الربيعي لوحاته الشعرية في قصيدته (شبح)، حيث هذا الشبح الواحد الحالم بالظهور من الغياب أنتج بوليفونية التلقي والتأويل، فهو ليس متخيلا ولا صور ذهنية، لكنه مشاكسة بين الحضور المرئي واللامرئي كالوقوف بن الظل والضوءفيه الكثير من الفن والشاعرية والإبداع، فيقول الشاعر في مفتتحها ابتداءً: «لست غائبًا غير أنّني.. غير موجود داخل الإطار ولا خارجه». هذا الشبح العابر إلى الحضور بوجه الغياب، يجسد المسافة الفاصلة بين ما هو مرئي وما يحمله في ذهنه من اللامرئي، فهو إزاء خلق عالم جديد يعبر بجدارة عن المعاني في الوجود، فهو يشعر بالاغتراب والحزن والوحدة، والشاعر عبد الرزاق جسد العزلة والصمت واغتراب الإنسان، لقد استطاع وببراعة أن يظهر هذه العناصر في تشكيل قصيدته(الشبح) وتأكيده أنه يكتب عبر حسه الروحي عن ذاته أو ذواتنا الداخلية: «لم أتدافع بالمناكب لحضور حفلة الحياة ولم أتخلّف لحظة... عن تلبية الدعوة ولم أنصرفْ عنّي لسواي بل اكتفيتُ بمراقبةِ المشهدِ من وراء الكواليس». كل شيء ينتظم في هذا المفاعل اللغوي المتحرك عبر صوره الشعرية لغة غنية ومرئية تعمل بكامل طاقتها، تكشف عن ترتيب حر للكلمات ومستويات عديدة من الجمل، تعكس رؤيته إزاء تكويناته البصرية ومفرداتها التي نسجها مع بعضها وهي تتداخل مع حركة الشبح عبر ضوئه الباهت في الحياة، فالشاعر اخذ فكرته من مصفوفة الضوء ليجسد شبحا متمثلا في حقيقتين الأولى الحياة اليومية والأخرى ما يكمن وراءها.فهو لم يكن الأول في سباق الحياة ولم يكن الأخير ثم يفاجئنا الشاعر انه لم يشترك في السباق أصلا، وسنجد شبح عبد الرزاق الذي هو نحن، مندهشا، متأملا، بسطوع محفزاته الشعورية واللاشعورية في علامته الشاغرة، فهل يحاول الشاعر أن يستعير سريالية ماغريت فيرسم الحياة على أنها فراغ، أم أخذ بنصيحة (برغسون) في تعريفه للفراغ على أنه كثافة غير مرئية، فهو لم يكن الأول والأخير وفي الحقيقة لميشترك للظفر بشيء لا وجود له؟: «لم أكن الأوّل في السباق ولم أكن الأخير ولم أشترك به فيما ظلّت علامتي شاغرة حتى الصافرة الأخيرة». وفي هذا المقطع من القصيدة والذي هو برأيي يجسد روح التكعيبية والتي تعبر عن فكرة القلق حيث الفكرة واحدة والاتجاهات متعددة، فالشاعر لا جهة له رغم انه تسكنه الجهات ومثلما يسكنها، رغم ذلك يترك لنا الشاعر تلميحات انه ذاهب نحو التجريد الذي هو اقرب إلى الحقيقة كما عبر عنه موندريان.: «تسكنني الجهات مثلما أسكنها لكن لا جهة لي مثل ربّ صغير قُدّ من تمر.. وكلمات». ولكن بطريقة مفاجئة يتحول النص في المقطع التالي من التكعيبة وتلميحات التجريد إلى الانطباعية، لنجد هذا الحلم الذي يقابله الفعل اليومي تجسد على شكل لوحة شعرية انطباعية، ربما هذا الحلم مر على خيال مانيه أن يكون مرسوما بالزبد على لوحة الأبد: «رسموا صورتي بالزبد وعلقوها على الجدار المقابل للأبد». وفي المقطع التالي سنلاحظ الحضور التراجيدي المرعب للزمن في هذا المقطع، الذي يعتبر معادلا بصريا لحالة من القلق والكآبة والوحشة، فالشاعر جعلنا نشعر أن الزمن تخلا عن ذاته، فبتأثيرات بصرية مخيفة قريبة من لوحات دالي السريالية أو ما توحي إليه لوحات جورجيو دي كريكو في تصويره الميتافيزيقي، تدل على مشاعر القلق الإنساني التي تولدها الحروب المتوحشة والحياة كذلك، فكأن الشاعر يرسم نثار روحه في الحياة: «في فم الساحل بقايا محيط ذابل وحيتان عظميّة وسفن غارقة ووصايا... وأسنان اصطناعية وصورة مبللة لمكان كان دون أن أكون». وبعد هذا نتساءل: هل لا زالت موسيقى البيانو الهادئة في مجازها الواسع معنا؟ نعم حتى أخر الضوء في القصيدة، يرافقها أيضا توتر صامت يثيره التساؤل عن مصير الإنسان في هذا العصر يصاحب امتدادات الشبح وحضوره عبر الترادف النصي، توتر يصور حدة القلق والوحدة والوحشة. لقد أبتكر الشاعر عبر الانبهار والدهشة، تشكيلا شعريا سينمائيا متحركا، بالإضافة للتشكيل الشعري للوحات القصيدة، يعبر عن تراجيديا الضوء في ملحمة الغياب والحضور، هذا ما تجاوزه البصر عبر نوتات الفيزياء الشعرية إلى بصيرة الإدراك والتأمل والتأويل في المعنى الذي يستفيق بنشوة الإيقاعات وتبلور عالم من الاستقصاء، حيث تتسع فيه العبارة بسعة الفكرةفي تجلياتها وأسرارها، كمن يستجيب إلى نداء ما، لشجن طيفي يحوم بين الكلمات يختزل البراعة والخلق والابتكار، كأنما نقرأ الضوء وهو يخوض في الاحتمال، كثلاثة ألوان بيضاء متعاكسة على ورقة بيضاء، الفكرة، و المعنى , والتأويل، فالكلمات تتداول حضورها مع الوجود الأثيري للطيف الشبحي بتعاقب حضورها الزماني والمكاني وفي نهاية مشهدية القصيدة يصوغ الشاعر التكوين النهائي المناسب للحركة المشهد، حتى يصل إلى ذروة إبداعه في خلق هارمونية التشكيل الشعري المدهش في تعاليه، عبر قوس الموسيقى المشدود إلى تمرده الأبيض، هل هو تكرار الضوء على الحياة؟ وهل يختبر الشاعر صبر الكلمات على الاستسلام لفكرته وهو يتساءل: أين ستضيء هذه الفكرة وتبرق في الرؤيا، فيمد يد الكلام في جملة الضوء شعرا؟ لعله يمسك بحبله السري مع الحياة. النص: «شبح» لعبد الرزاق الربيعي: لست غائبًا غير أنّني.. غير موجود داخل الإطار ولا خارجه *** لم أتدافع بالمناكب لحضور حفلة الحياة ولم أتخلّف لحظة... عن تلبية الدعوة ولم أنصرفْ عنّي لسواي بل اكتفيتُ بمراقبةِ المشهدِ من وراء الكواليس *** لم أكن الأوّل في السباق ولم أكن الأخير ولم أشترك به فيما ظلّت علامتي شاغرة حتى الصافرة الأخيرة *** تسكنني الجهات مثلما أسكنها لكن لا جهة لي مثل ربّ صغير قُدّ من تمر.. وكلمات *** رسموا صورتي بالزبد وعلقوها على الجدار المقابل للأبد *** رموني في بحر بلا شطآن ومضوا.. وحين عادوا في موسم حصادي لم يجدوا أثرًا لي ولا للبحر ولا للنسيان *** في فم الساحل بقايا محيط ذابل وحيتان عظميّة وسفن غارقة ووصايا... وأسنان اصطناعية وصورة مبللة لمكان كان دون أن أكون.. *** لا تغلق الباب خلفك فربما أضعت الأمام حين تهمّ بالمغادرة عندها.. إلى أين تولّي تيهك؟ *** لست غائبًا تمامًا ولم أكن كامل الحضور كما ينبغي ولم ألتقط صورة تذكارية لمعنى يتوارى تحت عباءة شبح لا علاقة له بهاملت ولا تراجيديات مسرح الحياة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 02-09-2022 10:43 مساء
الزوار: 904 التعليقات: 0
|