د. إنعام زعل القيسي لعلّ أكثر ما يشدّ الانتباه في قراءة هذا القصيدة ما تمتاز به من رقّة وانسيابية في الحروف والقافية والرويّ، إذ تشي هذه العناصر بأننا إزاء نصّ شعري على درجة عالية من الموسيقا والشاعرية. إنّ نظرةً واعية في هذا النصّ تكشف عن ارتباط مطلع القصيدة بخاتمتها من خلال العنوان الذي اختاره الشاعر لقصيدته، « لا شماتة»، والذي يختمها به، ويبدو للمتلقي أن الشاعر يبدأ القصيدة منذ العتبة الأولى (العنونة) بالكلمة نفسها التي يختتم بها القصيدة، وكأنه وفق البلاغة التقليدية يرد بذلك عجز القصيدة على صدرها؛ أي عنوانها، وهو بذلك يحيل النص إلى دائرة مغلقة تشي بما يعاني منه الشاعر من حالة نفسية صعبة نتيجة إحساسه بالضيق للموقف الذي يصوّره، وعلى الرغم من هذا الموقف المبني على المعاكسة بين الـ(الأنا الشجي) والـ(هي) الخليّة من هم الحب، فإن الشاعر يؤكد أنه لا يشعر بفرح أو اغتباط بمصيبة هذا الآخر الـ(هي) المتحدث عنه، التي بدت خاليةَ البال من الحب وهمومه. وتكشف المقاطع الأولى من القصيدة أن الشاعر يُجرد من نفسه شخصية أخرى يتحدث عنها، فنحن إزاء شخصيتين؛ في الظاهر شخصية الأنا الشاعرة، وشخصية الآخر الـ هي، إنها أنثى رقيقة المشاعر معشوقة، في حين يبدو العاشق الولهان هو الشاعر نفسه، فهو: «يصلي فرض رقتها ويدعو . بأن لا تسمع الدنيا صلاته»، كما بدت شخصية الشاعر متماهية مع الشخصية الأخرى تماهياً واضحاً، فكِلاهما على حد قول الشاعر «يَشْرَبُ الفنجانَ ذاتَهْ «، وكِلاهما «يَسْتَعينُ بِما تَبَقّى بِجُعْبَتِهِ، ويَسْتَجْدي فُتاتَهْ». ومن المقاطع أيضا ما يكشفُ أن الشاعر العاشق قانع بتعلقه بها، إذ له منها على حد قوله «رُبْعُ الْتِفاتَةْ»، وهي تُقاضيه بِما مَلَكَتْ يَمينه فَيدْفَعُ عن دَم المَاضي زَكاتَهْ، فغدا يرثي نفسه أو رفاته «وأخرج مستحيلا كأول ميت يرثي رفاته»، وكأنه يستعيد سيرة بعض الشعراء الذين قاموا برثاء أنفسهم في تاريخنا الأدبي، وفي مقدمتهم مالك بن الريب الذي رثى نفسه قبل لحظات من موته المرتقب، ويكشف الشاعر بطرف خفي عن أن تلك الأنثى الرقيقة تبادله المشاعر نفسها، بل تزيد عليه بأنها ماتت عشقاً له، أي ذهبت شهيدة عشقها له، وأنه « يُحْسَدُ إذْ يَموتُ على خُطاها، بِقَولِ النّاس: ما أشْهى مَمَاتَهْ»، على الرغم من أننا نلمس في خاتمة القصيدة بوحا غير متوقع، أو مفارقة واضحة بين موقف الأنا الشاعرة العاشقة وموقف الآخر الـ (هي) المعشوقة، فموت الشاعر الخَلِيِّ وإنْ تَباهى كَمَوتِ العاشِقينَ الـ(هي). كما أنّ من اللافت للانتباه في القصيدة اتّكاء الشاعر على قافية هاء السكت المسبوقة بالتاء المتحرّكة؛ فالقافية الساكنة المسبوقة بحرف التاء يوحيان لنا بارتفاع الشعور بمستوى الرقّة الذي بدا واضحا منذ العتبة الأولى للقصيدة، ولعل اختلاس حرف الهاء والتوافق الكبير بين العتبة وقافية القصيدة كلها تشي بمضمون النص، إذ إن القصيدة كلها مبنية على (الحب/الرقة) و(الضعف/والوهن)، وفي عالم الحب تتم المقايضة، فالتاء وسَكْتُها تُسْكت من أُصيبَ بارتعاشات الحب.. «تقايضني بما ملكت يميني فأدفع عن دمي الماضي زكاته».. ثم إن حرف التاء حرف مهموس يلائم الإرهاصات النفسيّة التي تعتمل في نفس الشاعر لحظة كتابة قصيدة تبوح بهذا الكمّ من العاطفة، فشعوره مفعم بكل معاني الوفاء والإخلاص والرقة المغلفة بمشاعر العتاب الظاهرة أو الخفية. ويلمح القارئ في هذه القصيدة كثرة الالتفاتات في الضمائر والتي تظهر في ثنايا القصيدة، فهي تتنوع بين ضمير المتكلم وضمير الغائب والجمع بينهما، من خلال توجيه الحديث إلى (الأنا) المندمجة بها (الغائبة) وإن لم تكن أنثاه الرقيقة حاضرةً، ويبدو ذلك جليّا في قوله: (شعري (أنا)/ ولي (أنا)/ أدفع(أنا) / أمر (أنا)/ فأدفع (أنا)، كأول ميت (أنا)، ثم تندمج (الأنا) مع (هو) الغائب بما يعكس حضور الشاعر أثناء حديثه عن محبوبته، وغيابه في جفائها له، ويظهر ذلك في مواضع متعددة مثل: (كأول ميت (أنا) يرثي (هو) رفاته (هو)، كمقتول (أنا) تآمر (هو). ثم ما يلبث الشاعر أن يتحدث عن ذاته الغائبة والمندمجة مع محبوبته.. (تآمر (هو)، يَدَيْها (هي)، وأنْكَرَ (هو) عَينَيْها (هي)، تُقايضُني (هي)، (هي)، يَلقى (هو) بِعينيها (هي)، ويُصَلِّي (هو) رِقَّتِها (هي). ثم ما يلبث أيضًا أن يتحول الشعر إلى حديث يجمع بين الزمنين: الحاضر والماضي من خلال التوحد مع الشعر (أنا والشِّعْرُ/ جِئْنا/ كِلانا يشرب/ كِلانا يَسْتَعينُ)، ثم يركز في الجزء الأكبر على ذاته الغائبة معها.. (يدعو/ صلاته/ مماته). ولعل الشاعر هنا قد عمد إلى أسلوب الالتفات لإخفاء إحساسه بالضعف والخسارة في الحب، وللإيهام بتعدد الأنا المتحدث عنها، وبالتعالي على إحساسه بالانكسار أو الحقيقة المرة التي يراها بوضوح ويحاول إنكارها. ولا تفوتني الإشارة إلى عنصر الموسيقا في النصّ، فقد أطّر الشاعر قصيدته بإيقاعٍ عذب، يضجّ بالموسيقا المؤثرة واستخدام مجموعة من الأفعال التي تضجّ بالحركة وتضخّ الدم في شرايين القصيدة وتبثّ الحياة فيها، وقد نجح هذا الإيقاع باحتضان المناخات الانفعالية الحادة التي يعبر عنها الشاعر، وخلق تيار إيقاعي نفسي متناوب ظهر نتيجة حالة الانكسار ثم النهوض في مرحلة التوحد مع الشعر والانكسار مرة أخرى، بالإضافة إلى القافية وتوالي الفعلين: المضارع والماضي، وحرف الكاف الذي يرسم إيقاعَ رقصة مؤلمة: (كأول ميت/ كمقتول/ كموت العاشقين).