|
عرار:
وصلتُ إلى القاهرة 1964، قادماً من القدس. كنت آنذاك شاعراً شاباً قدم إلى مصر للدراسة في جامعة القاهرة. وفي (نوفمبر 1964)، بدأت أتردَّدُ على (مقهى ريش)، حيث يتمجلس عدد من الأدباء المصريين الشباب حول (نجيب محفوظ)، الذي كان في (الثالثة والخمسين) من عمره، فهو من مواليد (حي الجمالية) عام 1911. وهكذا أصبحت عضواً في مجموعة المريدين الذين يتحلقون حوله مرّةً كل أسبوع طيلة خمس سنوات متواصلة، أي حتى مغادرتي للقاهرة بتاريخ (19/2/1970). لا أتذكر أنَّ أحداً من مجموعة المريدين فكرَّ أن يلتقط صورة تذكارية له مع نجيب محفوظ، لأننا لم نفكر في يوم من الأيام أننا سوف نفقد صداقته الأسبوعية. كنا نناديه بـِ: (أستاذ نجيب)، أو (عم نجيب)، وكان بعضنا يناديه بـِ(نجيب بيه) مثل إبراهيم منصور الضاحك الأبدي، والمثقف الشفهي كثير الأسئلة. أهم ما أنجزه نجيب محفوظ (هرم الرواية العربية)، هو قراءته الدقيقة لعالم (الحارة المصرية)، والتحولات الاجتماعية والسياسية والصراع الطبقي، والتناقض في سلوك الشخوص. كما كان نجيب محفوظ منفتحاً على التحول في الأشكال الروائية الأوروبية. وكان يناقش هذه المسألة مع مريديه. كان نجيب محفوظ إنساناً لطيفاً بسيطاً ضحوكاً لا يعرف التكشير أو التعالي، يبدأ جلسته بالسؤال التقليدي عن الأخبار، فيتبرع أحد الحاضرين بالحديث عن خبر سياسي أو ثقافي، عندئذ يعلق نجيب محفوظ تعليقات سريعة، وهو ليس من ذلك النمط من المثقفين الذين لا يتركون أحداً يتكلم، بل العكس، فهو يميل إلى الاستماع، ويصبر على الثرثارين. ذات مرَّة جاء متهللاً مرتاحاً بعد أن أبدينا ملاحظات إيجابية حول قصة جديدة له نشرها في (الأهرام)، فقال مازحاً: (معنى ذلك أنكم تسمعون كلام الريّس)، وعرفنا منه أن الرئيس (جمال عبدالناصر) اتصل به وأبلغه إعجابه بالقصة. أتذكر أن أحد الحضور أبلغه أن (الرئيس الفلاني)، اتخذ قراراً بـ(قطع يد السارق)، فقهقه نجيب بيه، وعلَّق على الفور: (أمَّال الوُزرا عندنا حيمضوا ازّاي). وفي عام 1968، صدر في القاهرة ديوان شعري مشترك لثلاثة شعراء، كنت أحدهم تحت عنوان (الدم في الحدائق)، ولمَّا نسينا نحن الثلاثة أن نهدي نجيب محفوظ نسخة منه، فقد عاتبنا نجيب بيه على النحو التالي: كنا نحن الثلاثة قد دخلنا إلى مقهى ريش معاً، فقال لنا: (أهلاً وسهلاً، ماعندكوش دم!!) بصيغة استفهام استنكاري. لهذا قمنا بتوقيع النسخة فوراً. وكان نجيب محفوظ يغازل مريديه الشباب بأن يسألهم عن نتاجاتهم أو يعلق على عمل أدبي أعجبه بلغة انطباعية. وكان يقرأ للروائيين العرب، ويردد أسماء بعضهم مثل: (حنَّا مينه، غسان كنفاني، سهيل إدريس، حليم بركات) في حواراته الصحافية، مثلما ردّد أسماءهم حرفياً في حوار أجريته معه عام (1970). كان نجيب محفوظ متواضعاً حقيقياً، ودائماً أُدلّل على بساطته بالحادثة التالية: ليس من عادتي أن أصحو مبكراً في ذلك الزمان، لكن أمراً طارئاً أجبرني على الصحو المبكر، وكانت طريقي تقودني من (شارع قصر العيني) إلى ميدان التحرير باتجاه (باب اللوق)، وكان ذلك بعد السابعة صباحاً، حين لمحت نجيب محفوظ يمشي على الرصيف المقابل، دون أن أنظر إليه. فجأة وجدت نجيب محفوظ يقطع الشارع ويتجه نحوي مباشرة، وهو يقول مازحاً: (بتتجاهلني ليه كده يا عزّ). شرحت له الأمر بجملة واحدة: لم أشأ أن أزعجك. أصر نجيب بيه على أن أتناول معه الإفطار (فول وطعمية) في أحد المطاعم الشعبية، ودفع الثمن، وغادر مستعجلاً، لأنه يكون في عمله في الساعة الثامنة تماماً. عندما أخبرت المريدين في مقهى ريش عن هذه الحادثة، أجمعوا على أن هذه الحادثة من اختراع خيالي الشخصي، وبينما نحن نتحدث، دخل نجيب بيه متهللاً، وحيَّاني تحية خاصة كأنَّ سراً مكتوماً ينبغي أن أعلن عنه، فضحك الجميع. لم يكن نجيب محفوظ سياسياً بالمعنى الاحترافي، لكنه كان يدلي ببعض التعليقات السياسية السريعة في الجلسات الخاصة في مقهى ريش، ولم تكن آراؤه تدلُّ على احتراف. وكنت دائماً أستدرجه للكلام عن قضية فلسطين، وسألته: لماذا لم يكتب رواية واحدة في هذا الموضوع، ولم يتهرب من الإجابة، بل أجابني بوضوح: (هذا يحتاج إلى خبرة ومعرفة ومعايشة). كان مريدو (نجيب محفوظ) في مقهى ريش يكتبون القصة القصيرة والرواية والشعر والنقد، ويمارسون الترجمة. كبروا، وأصبحوا قادة الأدب بمصر والعالم العربي. أما أنا، فقد غادرت القاهرة عام (1970)، بعد إقامة فيها دامت خمس سنوات، وكفلسطيني عشت متنقلاً في العديد من المنافي، ولم أزر القاهرة إلاَّ بعد (36 عاماً)، لهذا لم أقابل عمّنا نجيب بعد ذلك، وقيل لي في التسعينات: لقد تحوَّل إلى هيكل عظمي، فلم أشأ أن أغيّر صورته التي أعرفها في شبابي الشعري: كان إنساناً رائعاً بسيطاً عميقاً، متواضعاً، ضاحكاً، منظماً تنظيماً دقيقاً، أما نتاجاته، فقد جعلته يستحق (جائزة نوبل)، حتى قبل الحصول عليها بسنوات طويلة. وفيما يلي النص الحرفي للحوار، الذي أجريته معه عام 1970، كما نشر في (مجلة الشباب الأردنية العدد الثالث والعشرون – شهر تموز): مساء كل جمعة عام 1964... وأنا ألتقي نجيب محفوظ في – مقهى ريش – بالقاهرة، يتجمع حوله الأدباء الشباب، يناقشونه في أمور الأدب، وظرفنا السياسية والاقتصادية... وكما يحب نجيب، الشباب، فإن الشباب يبادلونه نفس الشعور، بعكس ذلك العداء الشديد الذي يظهرونه ليوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وأمين يوسف غراب وثروت أباظة... إلخ... في مبنى وزارة الثقافة، حيث يعمل نجيب محفوظ، مستشاراً ثقافياً للوزارة، التقيت به... ضحك ورحب بي، وسألني في البداية عن أحد الشبان، إذا كنت قد رأيته في ذلك اليوم أم لا؟، وكأنه صديقه الحميم... هل نبدأ قلت له... قال: تفضل! كان آخر ما كتبته "تحت المظلة"، هل من جديد؟ نجيب: آخر ما كتبته. بعد "تحت المظلة"،قطع نشرت في الأهرام. لم أفكر في جمعها، أما الرواية الجديدة، فلم أكتبها بعد، وأنا انتظر مع القراء – قالها وهو يضحك ضحكته الطويلة المجلجة الصافية -. هل تقرأ للأدباء الشباب ما رأيك فيهم ؟ نجيب: الحقيقة أن الأدباء الشبان من الكثرة، بحيث لا نستطيع أن نتحدث عنهم في كلمة. وهم على اختلاف أشكالهم الأدبية، يشكلون أكثر من تيار وأكثر من مدرسة. ولكن يمكن تصنيفهم إلى اتجاهين: بعضهم يعطي صورة جديدة لفن النظرية الاشتراكية. والبعض الآخر يقدم تجارب فنية دون هوية فكرية محددة. هل ذلك يعني أن لديهم وعياً واضحاً بالأدب التجريبي؟ نجيب: لا. هناك تجريب لأساليب أصبحت قديمة ومستهلكة في أوروبا، مثل المدرسة السريالية، وهناك تأثر بمدرسة اللارواية. كيف تفسر إجماعهم على احترامك، وعلى مشاعر الود العميق نحول، دون أبناء جيلك؟ نجيب: علاقتي بهم عواطف متبادلة، لأنني أعترف بمجهودهم، من حيث أصالته، ومن حيث أن غالبية نتاجهم أكثر تعبيراً عن الواقع، من الأجيال التي سبقتهم بما فيهم أنا شخصياً. وقليلاً ما يعثرون على من سعترف بهم، بسبب التعصّب أو ضيق النظر. ماذا ترى في التجارب الأدبية الجديدة عموماً في الوطن العربي؟ نجيب: التجارب الجديدة، أوضح في الشعر والمسرح والقصة القصيرة بالذات، أما الرواية، فلم تخرج عن الخطوط العريضة في الرواية الغربية، وإن لم يمنع هذا من وجود بعض الروايات الجيدة. هل قرأت الرواية العربية خارج مصر؟ نجيب: نعم. قرأت، سهل إدريس، والطيب الصالح، وغسان كنفاني، وحنا مينةـ وفاضل السباعي... والحقيقة أن هذا المجهود الروائي، يمثل أعلى مستويات الرواية العربية، وإن كان الشعر في الأقطار العربية أبرز من الفنون النثرية. لماذا لم تكتب عن قضية فلسطين؟ رواية – مقالات ...إلخ. نجيب: آثار قضية فلسطين، تجلت في كتاباتي، بالقدر الذي يمكن أن تتجلى به، لدى كاتب مقيم في القاهرة. هل التجربة الحياتية ضرورية لكل عمل أدبي؟ نجيب: نعم – يجب أن يعيشها الكاتب معايشة واقعية. ما هي مهمة المثقف العربي في هذه المرحلة؟ نجيب: من الممكن أن يكون له دور فعال. إذا كان مجنداً أو أمكنه التطوع مع الفدائيين الفلسطينيين أو – وهذا أضعف الإيمان – أن يشارك بوعيه وقلمه، فيما يختص بنوعية الجماهير، وبلورة قضاياها الحقيقية الحية. تعني أن يترك الكاتب الكتابة ويذهب للجبهة؟ أم يكتب كتابة ثورية فقط. نجيب: أن يترك الكاتب الكتابة ويذهب للجبهة... أفضل. بالمناسبة ما رأيكم في مسرحية الفتى مهران لعبدالرحمن الشرقاوي؟ نجيب: من أفضل المسرحيات التي كتبت في أعقاب النكسة، وهي في اعتقادي المعادل النثري، لبعض قصائد نزار قباني، ولكني اعتقد أننا تجاوزنا تلك الفترة، فترة النقد الذاتي. نجيب: استيقظنا من الضربة التي نزلت فوق رؤوسنا. ونحن نجدد قوانا عسكرياً واقتصادياً، حيث دخلنا مرحلة إيجابية، وأصبح للصمود مغزاه وآماله القريبة. هل الأدب مجرد معادل للواقع، أم أن هناك رؤية مستقبلية تتفاعل معه؟ نجيب: الأدب معادل للواقع، ولكنه في الوقت ذاتع يتطلع للمستقبل، وهو واقف على أرض الواقع الصلبة. الآن... ماذا عن الثورة الفلطسينية؟ ألا يمكن أن تكون كارثة حزيران، قد أنجبت أثراً في أدبائنا بنفس الحجم، الذي أثرت به الحرب العالمية الثانية، في أدباء أوروبا، بحيث تكون مسألة تبني الأشكال الأدبية الجديدة، أمراً حتمياً وطبيعياً؟ نجيب: لا شك أن حرب حزيران، قد تركت أثراً حاداً وعميقاً، في نفس كل مبدع عربي، لكننا في واقعنا الراهن، نحتاج إلى الاتصال والانغماس في إكشالات الواقع وفهمه علمياً، وموضوعياً لا يقتصر الفهم على الذاتية، ولذلك، فإني أشك بأن تلك الأشكال مواتية لظروفنا. إن الشكل الأدبي لا يأتي نتيجة التفكير النظري المجرد. فإذا ما ظهر أسلوب ما، فإن له ما يبرره. مدرسة تيار الوعي – مثلاً – كما تبلورت في الآداب الأروربية، كانت شكلاً يجسد الحالة الإنطوائية، حالة الانكسار النفسي التي وجدت أوروبا نفسها فيها أثر الحرب الأولى. كما أن هذا الشكل – غير المنضبط – يتفق مع رفض العالم الخارجي بقيمه المنهارة، إذ أصبح الإنسان في تلك الفترة، فاقد اللغة مع الآخرين، وهي حالة لا تهيئ لازدهار هذا الشكل إلا في ظروف مشابهة. نجيب: لا اعتقد أن أدبياً ما من الجيل السابق، يشكل عقبة في وجه الجيل اللاحق، لسبب بسيط هو اختلاف الرؤيا، فالجيل الطالع لا يحاول أن يكتب بالطريقة التي أكتب فيها، ولكنها كتابة جديدة، وقد بدأنا نلاحظ ثمارها. الأجيال المتعاقبة تتفاوت في رؤيتها، أما أبناء الجيل الواحد، فتفاوتهم يتجلي في الدرجة. * مجلة (الشباب الأردنية)، العدد الثالث والعشرون، عمّان، تموز، 1970. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 07-06-2018 11:24 مساء
الزوار: 1564 التعليقات: 0
|