|
عرار:
إبراهيم خليل بعد «زاد للطريق» 2002، و»أقواس قزح» 2012، و»ضمائر منفصلة» 2015، و»دروب» 2016، و»أحوال الماء» 2018، و» تفاح» 2023، وبعد فوزه بجائزة الشاعر سعيد عقل، وغيرها من الجوائز، تصدر للبناني سلمان زين الدين - وهو شاعر ناقد يغلب عليه الاهتمام النقدي بالرواية أكثر من الشعر، بدليل كتبه: في الرواية العربية، وفي مهب الرواية 2020، وعلى ذمة الراوي 2024 ويا سادة يا كرام 2017 وهو كتاب عن الرواية أيضا، وقراءات في الرواية النسوية العربية 2010 تصدر له - مثلما ذكر - مجموعة شعرية بعنوان « عصافير» وهي مهداة إلى عصافير غزة: أطفالها الذين حين لم يجدوا على الأرض ما يسمح لهم بالحياة، يمموا وجوههم نحو السماء ، نحو جنة الفردوس، وهذا الإهداء قد يبدو معقولا لدى قراءتنا القصيدة الأولى، مع أن تاريخ كتابتها كغيرها من قصائد الديوان يعود إلى عام 2019 أي قبل 7 أكتوبر 2023 الذي يعده مجرمو الغرب وأميركا بداية التاريخ متناسين أن أطفال غزة كغيرها يواجهون الإبادة الجماعية منذ 76 عاما. فالغرب المتقدم في التكنولوجيا يجهل أبسط الأشياء، وأقلها تعقيدا، وهو متى تبدأ الأحداث ومتى تنتهي. واللافت هو أن الشاعر سلمان زين الدين على الرغم من أنه أهدى قصيدته الأولى في الديوان الموسومة بعنوان (تَغَيُّر) إلى أطفال غزة الذين لم تتسع الأرض لأجنحتهم، مؤرخة في 31 كانون الثاني 2019 ألا أنه فيما يشبه التنبؤ يشير لما طرأ على قطاع غزة من تغيير مسَّ الحجر، والشجر، فضلا عن البشر. فالقصيدة تبدأ بهذه الصورة: السماءُ التي ظلَّلتني صغيرا كمنديل أمي ذوى ظلها والنجوم التي ومضت في سماء الطفولة نجما فنجما خبا جمرُها تتراكم في هذه الصورة الشعرية إشاراتٌ توحي بهذا التغيير المأساوي الكارثي، وهي صورةٌ ممتدة تتواصل فيها الإشاراتُ، وتتراكمُ مقطعًا تلوَ الآخر. فالسواقي مثلا نسيت لغة الرقص، والحقول التي هي حقول مزهرة عادة يكسوها الشوك هذه الأيام، ويحجب براعمها الهشيم الذي يكثُر، حتى طمس الأزهار والورود والرياحين. وهذا المتكلم في القصيدة هو من عناه زين الدين بالضمير أمي، وتظللُني، وهو طفلٌ يعود ثانية إلى مسقط رأسه بعد غياب طويل ليجد كل شيءٍ وقد أصبح في خبر كانَ: وجدتُ السماء بلا ظلها والنجومَ بلا جمرها والسواقي نسيتْ رقصَها والحقولَ بلا زهْرها وهذا المشهد المتجهمّ، الذي يتضمَّن جُلَّ دلالات العبوس،لا يخفي ما لديه من استعداد للثورة، فنجده في القصيدة متحديًا، لا يستسلم، ولا يساوم، بل هو على يقين من أنَّ كل شيء سيعود إلى ما كانَ عليه، لذا يقول في قصيدةٍ تاريخُها يعود إلى 18 نيسان- إبريل من العام 2019 مبشرًا بزوال الغمّة، وانبلاج الفجر من ليل الطغيان الطويل، على ما فيه من حُلْكة، ومن ظُلمة: كلّما حاصرتني عوادي الزمان وأرخى السدولَ عليّ الحصار أعوجُ على طلل الذكريات فتهمي عليَّ ابتسامتُكِ الضوءَ كقطرة ظلٍ تجبُّ هجيرَ الظلام وتعلنُ حَتْمَ انبلاج النهار. فما بعد الليل الطويل إلا فجر يتسامى، ونهارٌ مُشرقٌ يتنامى، والأرضُ التي يمجّدها الثائرون لا تسأم استقبال الشهداء، ولا تضيق بجثامينهم ذرعًا،أو باعًا، ولا بالأجساد التي تتساقط تحت آلات القصف الهمجي العشوائي: قصيدة أخرى كتبها سلمان زين الدين في 19 نيسان (إبريل) 2019 مؤكدًا أن حب الوطن ضريبة لها ميقات، وعلى الثوار أن يؤدوه، مثلما يؤديه أطفالُ فلسطين: الأرض حِضْن دافئ والناس هم أطفالها هي منذ قال الله كوني ترضع الأطفال من أثدائها حتى إذا شبّوا وأورق عودهم ودنا قطافُ ثمارهم قامت بأكل قطوفهم لتقرَّ عيناها ويغشاها الكرى. نخلة الشعر: ولا تخلو قصائدُ الزين هذه من تنوّع، فهو يذكّرنا بالكثير الجمّ من اهتمامات الرومانسيين الذين فتنوا بالطبيعة، وعشقوا ما فيها من الأشجار، والأطيار، والأزهار، وما فيها من البحور، والأنهار، وسُحروا بنسائم الأسحار، وحفيف الأوراق، وموسيقى الكون. فها هو ذا يكتب لنا قصيدةً بعنوان (نخلة). وللنخلة في الشعر العربي حضورٌ كحضور الطبيعة في الشرق؛ من بوادٍ، ومن صحار، ومن نرجس وأقحوان، حتى سميت بعض البلاد بأرض النخيل، وقال المتنبي: ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهودِ. ووصف عبد الرحمن الداخل نخلة وقع عليها بصره بالرصافة الأندلسية بأنها غريبة كغربته في بلد ليسببلد النخل، فهي شبيهة به في الغربة والنوى والبعد عن أهله: تراءت لنا وسط الرصافة نخلةٌ تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ فقلتُ شبيهي بالتغرب والنوى وطول التنائي عن بنيَّ وعـن أهــــلي يقول زين الدين في صورةٍ تُذكرنا بنخلة العذراء، وولادة المسيح: هي نخلة تزدان بالرُطَبِ الجني وبالشهيّ من الغلال فإذا هزَزْتَ بجذعها تسّاقط الكلماتُ واللفتاتُ والسِحْرُ الحلال ويكون ثمة مهرجان لا ريب في أنّ الشاعر، بهذه القصيدة، لا يصف لنا نخلة كنخلة صقر قريش، ولا كنخلة حسب الشيخ جعفر في قصيدته (نخلة الله)فهي ليست بالنخلة الحقيقية، بل هي نخلة الشِعْر. فالمجاز في قوله تُساقط الكلماتِ، واللفتاتِ، والسحر الحلال، قرينة لفظية تستبعد الاحتمال الآخر.فأنت أيها الشاعر الموهوب، لا المتطفل، ولا المدعى، ما إن تهز بجذع نخلة الشعر حتى تُساقِطَ عليك المثالث، والمثاني، والفرائد والشواهد، وتعمّ في عطائك الشوارد، التي تجعل المتلقي يقع في دائرة السحر، أي دائرة الشعر الذي له تأثيره في المتلقي.ويستدعيالمقامُ ذكر المهرجان الذي يتيح للمشاركين فيه من الشعراء الموهوبين، لا من المتنطّعين، وللحضور، أن ينعموا بذلك الألق المنفتح على عالم من الأحلام، والرؤى. الشاعر والنهر: ومن قصائده التي تسترعي الانتباه، وتجذب الاهتمام، قصيدة (مجرى) فهي قصيدة تعود بنا للحديث عن الأنهار، والجداول، والروافد. وذلك شيءٌ كثير في الشعر العربي قديمه والحديث. فإذا تجاوزنا حمدونة الأندلسية وقولها: وقانا لفحة الرمضاء وادٍ سقاه مُضاعَفُ الغيثِ العميم إلى ابن خفاجة (533هـ) وما نظمه في النهر المنحدر في الأرض المطمئنة، المنبسطة، متعطفا مستديرًا كالسوار، ومن حوله الزهر، فيبدوان كالمجرّة: لله نهرٌ سال في بطحــــــاء أشهى ورودا من لمى الحسناء متعطف مثل السوار كأنـــّه والزهـــرُ يكنفه مجــرُّ سمـــــــاءِ فإن من أبرز ما يتذكره القارئ في هذا السياق قصيدة محمود حسن إسماعيل(1910- 1977) الموسومة بعنوان (النهر الخالد) وهي قصيدة تعد قطعة نادرة من الشعر الرومانسي العربي. ولما فيها من حسن الإيقاع، ورهافة الموسيقى، عمد الموسيقار محمد عبد الوهاب (1902- 1991) لتلحينها، والتغني بها في العام 1952 وهي التي يستهلها الشاعر بالقول: مسافرٌ زاده الخيـــــــالُ والسحر والعِطر والظلالُ ظمآنُ والكأسُ في يديهِ والحبّ والفـــنّ والجمـــــالُ ولميخائيل نعيمة(1889- 1988)، وهو من أئمة الشعر الرومانسي المهجري، شأنه في ذلك شأن جبران خليل جبران(1883- 1931)، وإيليا أبي ماضي(1890- 1957) قصيدةٌ معروفةٌ مشهورةٌ، بعنوان « النهر المتجمد «، وهي من الدُرَر التي تمثلُ، شكلا ومضمونا، التجربة الرومانسية في الشعر العربي، فتبدأ بمخاطبة الشاعر للنهر، قائلا: يا نهرُ هل نضبت مياهك فانقطعت عن الخــريرِ أم قد هرمتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسيرِ ولسلمان زين الدين في هذا الديوان قصيدتان عن الأنهار، لا واحدة، أولاهما بالعنوان مجرى. وفي هذه القصيدة يذكرنا بما تقدم، وسبق، مشيرًا لحتمية المجرى، فالنهر لا يغير مجراه، ونحن لا نستطيع أن نشير عليه بهذا التغيير، وهو دائب السعي للمصبّ، يبحث عنه في المحيط، أو البحر، كأنَّ ميثاقا مبرما متفقا عليه بين النبع والمصبّ. فهو يستجيب بجريانه لهذا التعاقد، ولا يملك من أمره شيئا: غير أن النهر لا يجري كما يهوى ونهوى فهو على مر العصور، وعلى مدى الأزمان، رهنٌ بهذا الاتفاق: هو رهن الحلف بين النبع والبحر على مر العصور وأسير الضفة الخضراءَ توري أسْرَهُ معْ أختها الأخرى فيجري مكرهًا بينهما يتلو على الأرض صداه فهذا هو ديْدَنُ الأنهار، تجري، وتجري، فلا أحد يستطيع أن يوقف ذلك الجريان، ولا التحكم بالمجرى، فهو قدرٌ لا مفر منه: قدر الأرواح والأجساد أن تبقى على قيد الضفاف الخضر في ترحالها بين الينابيع طِرافا وتلادًا. القصيدة القصيرة: ولدى الزين شغفٌ بالقصيدة المكثفة القصيرة، إذ الطولُ عنده قليل، ونادرٌ، وهذا مظهر شعري يكاد يطغى على الشعر في هذه الأيام، ولعل في ذلك صورةً من صور التأثر بالعصر الذي نحن فيه، عصر السرعة، والاقتصاد في كلّ شيء، إلى درجة الشح، وهذه السِمةُ غلبت على قصائد كثيرة منها: سؤال، وعرس، وتقمص، وناقوس، ففي قصيدة بعنوان (صلاة) يعبر زين الدين عن موقع الشعر في حياته، فهو بالنسبة له سرُّ بقائه، وسبيله للحياة بعد الموت، أي الخلود، مثلما قيل في القديم: يموت القائلُ ويبقى الشعر: أكتب الشعر لكي أبقى على قيد الحياة فإذا ما ضاقتِ الروح بقيد الجسَدِ السجن وراحت تنشد الحرية الحمراءَ في جسم بديل وإذا ما أشعل الشوقُ إلى الأصل قميصي وامتطى نهرَ الرحيل سوف أبقى في كتابي رغم أنف الموت شعرًا للصلاة فزين الدين يَعُدُّ الشعر عُمْرا ثانيا، خالدًا، للشاعر، ويعد الشعر سببا من أسباب الخلود، والبقاء بعد الموت. فالروح إذا ما ضاق بها الجسد، وغادرت إلى عالم آخر، أو إلى جسم بديل من باب تناسخ الأرواح، يظل الشاعر حيا في شعره الذي ينطوي عليه الديوان، وترويه الرواة، ويقرؤه الدارسون، وهذه الفكرة ساورت الشعراء منذ القديم. قال الشاعر دعبل الخزاعي (246هـ) على ذمة النهشلي القيرواني (405هـ) في كتابه الممتع في صنعة الشعر(1): إذا قلتُ بيتا ماتَ قائلــه ومن قيل فيه والبيت لم َيمُتِ وقال أبو الطيب المتنبي (354هـ) معبرًا عن ديمومة البقاء مدى الدهر في شعره الذي ستظل تنشده الأجيال واحدًا تلو الآخر: وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلتُ شعْرًا أصبح الدهر منشدًا والشعر عند سلمان زين الدين ليس لهوا، ولا تسلية، مثلما هي الحال عند بعض المدعين. فالشعر بناءٌ، والبناء يتمخض عن مملكة بالكلمات. ويغدو الشاعر في هذا الحال ملكا متوجا على عرش الشجر، والقصيدة ضرامٌ يغلب على نار الشتاء: حتى إذا عصفت بها ريح الزمان وأطلقت نيرانها سحب الشتاء على الأماليد الوليدة أضرمتْ تلكَ القصائدُ عرْسَها فطغى على نار المطر غياب المفارقة هذا، ويمكن القول، في هذه الكلمة الأخيرة: إن ما ينقص قصائد سلمان زين الدين القصيرة هو ضرورة أن تنتهي بمفارقة تدهش القارئ، وبهذه الدهشة يحقق الشاعر التوازن بين النص المكثف ومتطلبات القراءة الباحثة عن الفائدة مغلَّفة بالمتعة، وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت نهاية القصيدة شكلا من أشكال المفارقة، كقول الشاعر أحمد مطر في واحدة من قصائده القصيرة المكثفة: منذ ثلاثين سنة نسخر من عدوّنا لشِرْكِهِ ونحن نُحْيي وَثَنَهْ ونشجب الإكثار من سلاحه ونحن نُعطي ثمنَهْ فإن تكن سبْعًا عجائبُ الدُنا فنحن صِرْنا الثامنة منذ ثلاثين سنة وقد يجد القارئ في قصيدة لإبراهيم نصرالله من ديوانه عواصف القلب 1989 نموذجا من المفارقة أكثر وضوحا وتأثيرًا في المتلقي سأغني هكذا في الريح إن الريح داري والعصافير اعتذاري سأغني هذه الليلة منفاي وهذا الثلج ناري فأنْ يكون الثلج هو النار التي يتدفأ بها اللاجئ المشرد في ليلة عاصفة شديدة الريح، شيء يشعر بالتناقض، وهو لا يملك المأوى، لذا يتخذ العراءَ دارًا (إن الريح داري) وهو يتخذ من العصافير رسلا لاعتذاره، ومن المنفى وأوجاعه مادة الغناء الحزين، والشجَن المبرّح، ومن الصقيع والثلج نارًا يأنس إليها في البرد القارس. وهذه صورة تعج بالتناقض اللفظي الذي يأخذ بتلابيب القارئ، فيتأمل النص مرارا، وهذا التأمل المتكرر يغني عن الكثير من التفاصيل التي تحتفي بها القصائد غير القصيرة. وقد أدرك أهمية المفارقة في القصيدة القصيرة شعراء كمريد البرغوثي والبياتي وعز الدين المناصرة ومحمد إبراهيم لافي وقاسم حداد وعلي جعفر العلاق وآخرون كثر، مما شجع عددا من الدارسين على التوقف إزاء المفارقات في قصار القصائد، وأسفرت هاتيك الوقفات عن دراسات أغنت المكتبة النقدية العربية، وأثرتها، في موضوع له نكهة الموضوعات الجديدة، علما بأن المفارقة في الشعر ليست بالشيء الجديد المستحدث فقد عرفت بأسماء أخرى منذ زمن سحيق.* *** 1.ذكر الكتاب بعنوان مختلف وهو الممتع في علم الشعر وعمله. حققه المنجي الكعبي وصدر بعنوان الممتع في صنعة الشعر في جزأين بتونس 1978عن الدار العربية للكتاب. *ينظر ما كتبناه عن المفارقة في القصيدة العربية القصيرة في مجلة عمان، ع 158 س16 آب 2008 وانظر كتابنا من الشعر الحديث والمعاصر، ط1، عمان، داورد ، 2009 ص 228 وانظر الدستور الثقافي 2/8 /2024 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 30-08-2024 09:55 مساء
الزوار: 238 التعليقات: 0
|