|
عرار:
جلست أقرأ قصيدة: زبون الصبر لسمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، وأنا أتذكر لما استهل إحدى قصائده التي شنف بها آذان السامعين في إحدى أمسياته فقال: الجوّ غير الّشعر غير الّناس غير جمهور غير بو شهاب غير فزّاع غير والأب غير تبّونها بالشر شرّ تبّونها بالخير خير صلّوا على ذكر النبي نعم... سيدي الشيخ حمدان، فزّاع غير، والشعر غير، والأب غير، هكذا أرادك صاحب السمو الوالد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله بعد إرادة الله عز وجل. أرادك غير لأن سموه لا يؤمن بالنسخة الكربونية، وهو صاحب الإبداع والابتكار في دبي ودولة الإمارات والمتميز على مستوى العالم، وفي كل يوم نرى لدبي وجهاً جديداً، وفكرة جديدة بفضل جهود سموه. إنه لا يؤمن بالروتين أيضاً لذلك هو مع التغيير والتجديد في كل إشراقة شمس، ومن ثم فإن سموه لا يريدك أن تكرر ما يقوله، لأن ذلك لا يعدّ ابتداعاً أبداً بل اتباعاً. نعم... يريدك شخصية مستقلة ولا يمنع أن تتبع منهجه، وقد أخذت منه صفات المرجلة الوراثية، وزدت عليها بالاكتساب الشيء الكثير في السياسة والرؤى، لكنك عندما تتحدث أو عندما تفكر أو عندما تشعر، تبدو فزّاع وليس فارس العرب، ولك طعمك الخاص كما أن الوالد له طعمه الخاص ولا يوجد محمد بن راشد آخر يشبهه. وهذا هو المطلوب يا سيدي أن تكون مستقلاً ويكون هو مستقلاً، ونقرأ نحن لشاعرين، وإلا فسّرنا الماء بالماء على حدّ المقولة المشهورة: قيل له صف لنا الماء: فقال: كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء فقيل يا هذا بعد جهد جهيد، فسرت لنا الماء بالماء. واسمح لي طال عمرك أن أقول بعد هذا، شعرك أيها الشاعر الشاب شعر الحكماء الذين يكبرونك في السن، ويزيدون عليك في التجربة والممارسة، لكنك يا سيدي لا تبدو بأنك أصغر منهم أو أقل منهم بضاعة، والمرء كما قيل بأصغريه قلبه ولسانه. لذا أهنئك وأغبط سموك على ما عندك من وفرة الكلمات، واستحضار للمواقف والمشاهد، وخبرة بالنفوس وعلم بمداواة عللها، وتملك أسلوباً جذّاباً حتى لا يرى أحد طيف سموك إلا ويتخيل إلقاءك للقصيد، وبراعتك في عرض الأفكار والصور الجميلة. وفي قصيدة زبون الصبر هذه التي بين أيدينا، نتلمس تلك المعاني ونتحسس تلك الصور الأدبية والاجتماعية الرائعة. وإنني أتفق مع سموك حين تقول: كثر الشعراء والمتشاعرون لدرجة أننا اليوم لا نستطيع أن نفرق بين الصحيح والمغشوش، وقديماً قال الشاعر: الشعراء فاعلمنّ أربعهْ فشاعر يجري ولا يُجرى معهْ وشاعر ينشد وسط المَعمعة وشاعر لا تشتهي أن تسمعه وشاعر لا تستحي أن تصفعه إذن.... فبما أن الشعر فنّ فإن له رجالاً مبدعين ومجيدين، وهناك أيضاً المقلدون بطريقة ذكية، وهناك المتطفلون على الشعر. والخلاصة أن الشعراء منهم المطبوع ومنهم المصنوع، أو أن منهم الشاعر ومنهم الشويعر ومنهم الشعرور، وربما كان غير هؤلاء على حد قول أحدهم: إذا أنت لم تعرف سوى الوزن وحده فقل أنا وزّان ولست بشاعر دعونا إذن نقرأ للشاعر المبدع «فزاع» هذه الأبيات التي عنونها بزبون الصبر: من كَثْرَة الشعَّار والمستشعرون تغطرست الاوراق واغتر الحبر ما أجهل اللي يحسب ان جر اللحون يْبيِّض الوجه او يطول فـ الشبر الشاعر الحَسَّاس شعره ذو شجون يصفى معاه الجو لو انَّه غَبَر بعيد يا شعَّار عن سوء الظنون ما قلتها من غطرسه وَلاَ كِبِر قد تعتبر وجْهَة نظر يا مبدعون وَربَّما.. وَربَّما.. لا تُعْتَبَر إنني في الحقيقة أعدّ هذه الأبيات رسالة موجهة من سموه إلى أولئك الذين تطفلوا على الشعر وهم ليسوا من أهل الشعر، أن يكفوا عن قول الشعر، أو على الأقل يراجعوا أنفسهم لإعادة تأهيلها، إذ ربّما التثقيف والتكرار والاقتداء بالشعراء المجيدين، يرفع من مستواهم الفكري والأدبي والإبداعي. وليس من اللائق أن يلبس الإنسان غير ثوبه والاعتراف بالحق فضيلة، أو أن يعرض على الناس أفكاره غير الناضجة، ولقد صدق المعري عندما قال: لا تعرضن على الرواة قصيدة ما لم تكن بالغت في «تهذيبها» وإذا عرضت الشعر غير مهذب عدّوه منك وساوسا «تهذي بها» وفي النصف الآخر من القصيدة يحلّق الشاعر «فزاع» في جوّ بلاغي جميل، يمزجه أسلوبه بأخيلة شاعرية وعواطف وجدانية يقتبسها من أرض الواقع المعايش بين الناس اليوم. وكأنه بذلك أراد أن يكسر من حدّة الجدّ الذي اتصف به أسلوبه في النصف الأول من القصيدة، واستطاع بذلك أن يعيد الثقة إلى نفوس سامعيه، فبدلاً من أن يسيئوا الظن ويصابوا بالإحباط إلى حدّ ما، أصبحوا الآن يتلقون منه النصح بأريحية صدر، لأنه ما باح بذلك إلا لأنه يحبهم. ولقد صور الشيخ حمدان نفسه كأنه الطبيب المعالج الذي يشخص المرض أولاً، فربما ينزعج المريض من هذا التشخيص، لكنه يطمئنه بعد ذلك بأن دواءه موجود عنده، ولو لم يكن عنده فإنهم من خلال هذا التشخيص يصنعون دواء يفيدهم ويفيد غيرهم. وبما أن الشيخ حمدان شاعر حساس لا يحب أن يجرح محبيه، فإنه يتحبب إليهم بأجمل العبارات وأقربها إلى قلوبهم، ويعتقد بأن الشوق كالجسر ممدود بينه وبين محبيه، ورؤيته لأحبائه وجمهوره هي كالدواء الذي تبرأ به الجروح، واللبيب تكفيه الإشارة. ثم إن من البديعيات عند علماء البلاغة ما يسمى بالتورية وهي أن يكون للكلمة معنيان معنى قريب غير مقصود ومعنى بعيد هو المقصود، فإن هذه القصيدة بعنوان زبون الصبر قد تكون مجارية في محتواها قصيدة الوالد الشيخ محمد بن راشد بعنوان الخل الوفي المنشورة بالأمس أيضاً. أقول هذا لأني أستشف من كلتا القصيدتين أن الصبر على الغادر أو الناقض للعهد وصل إلى حد النفاد، وأن الخل الوفي من صفاته كما ورد في الحديث أنه إذا اؤتمن لا يخون، وإذا حدث لا يكذب، وإذا وعد لا يخلف، وما نرى اليوم غير هذا تماماً، لذلك يقول الشاعر: و يلا ذكرت اللي على قلبي يمون عبر جسور الود والحب آعَبِر الشوق من وَصْلك يا بو طرفٍ فتون يكبر مَعَ راعيه لا منَّه كبَر ترى مريض السكَّري جرحه يهون شوفك يكفِّي عن علاجه بالأِبَر لو الاطباء عن علاجك يعرفون كان صْنَعوا منّك دوا فـ المختبر صابر على حبّك رغم كثر الطعون والمشكله حسب الكلام المعتبر لو كانت القِصَّه صبر.. انا زبون الصبر والايام للعاقل عبَر القِصَّه الوافي يموت وْ لا يخون وان الصبر نفسه يبي منَّا صَبر أجل يلتقي الشاعران في مفهومهما لخيانة الأمانة والصبر على بلوى الخلان الذين لا يتمون أوفياء، رغم أننا باقون على العهد، اقرأ معي قول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في قصيدة الخل الوفي: مستحيل أنساك رابع مستحيل ليت عن صدقي فـ حبك تعرفي ثم اقرأ قول الشيخ حمدان بن محمد بن راشد في قصيدة زبون الصبر: القِصَّه الوافي يموت وْ لا يخون وان الصبر نفسه يبي منَّا صَبر وبالمناسبة فإن الشطر الأخير في قصيدة سموه: الصبر نفسه يبي منا صبر، ذكرتني بقصة سمعتها من شيخي في الحرم المكي، عندما روى أن أحد المشايخ كان يقول لطلابه لا تدركون العلم إلا بالصبر، وكان يكرر ذلك كل يوم في حلقة الدرس. وذات يوم مرّ أحد طلابه بسوق العطارين ورآهم يبيعون «الصبر المر» الذي يستخدم في الحلول «دواء شعبي» فاشترى منه كيلو وصار يأكل منه، ويا سبحان الله على نياتكم ترزقون، تعلم ذلك الطالب وبرع في مادة درس الشيخ، فعندما قال الشيخ مرة أخرى المقولة نفسها، قال الطالب جزاك الله خيراً لقد نصحت وأنا عملت بنصيحتك، فأدركت العلم والحمد لله. قال الشيخ وماذا تعني؟ قال ذكرتم بأن العلم لا يدرك إلا بالصبر وأنا اشتريت كيلو من الصبر وأكلته فصرت عالماً. هنا ضحك الشيخ وقال: أكلت كيلو من الصبر المرّ؟ قال الطالب نعم، قال الشيخ يا ولدي صبرك على الصبر أوصلك إلى العلم، بمعنى أنك أنت الذي قدرت تصبر على مرارة هذه المادة المرة، تصبر أيضاً على مشقة طلب العلم المصدر : البيان الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأربعاء 27-09-2017 08:13 مساء
الزوار: 1703 التعليقات: 0
|